وهي مكية في قول جميع المفسرين . سورة التكاثر
وروى أنها مدنية . وهي ثماني آيات البخاري
بسم الله الرحمن الرحيم
ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر
فيه خمس مسائل :
الأولى : ألهاكم التكاثر قوله تعالى : ألهاكم شغلكم . قال [ امرؤ القيس ] :
فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع فألهيتها عن ذي تمائم مغيل
أي شغلكم المباهاة بكثرة المال والعدد عن طاعة الله ، حتى متم ودفنتم في المقابر . وقيل ألهاكم : أنساكم . التكاثر أي من الأموال والأولاد ، قاله ابن عباس والحسن . وقال قتادة : أي التفاخر بالقبائل والعشائر . وقال الضحاك : أي ألهاكم التشاغل بالمعاش والتجارة . يقال : لهيت عن كذا ( بالكسر ) ألهى لهيا ولهيانا : إذا سلوت عنه ، وتركت ذكره ، وأضربت عنه . وألهاه : أي شغله . ولهاه به تلهية أي علله . والتكاثر : المكاثرة .قال مقاتل وقتادة وغيرهما : نزلت في اليهود حين قالوا : نحن أكثر من بني فلان ، وبنو فلان أكثر من بني فلان ، ألهاهم ذلك حتى ماتوا ضلالا . وقال ابن زيد : نزلت في فخذ من الأنصار . وقال ابن عباس ومقاتل والكلبي : نزلت في حيين من قريش : بني عبد مناف ، وبني : سهم ، تعادوا وتكاثروا بالسادة والأشراف في الإسلام ، فقال كل حي منهم نحن أكثر سيدا ، وأعز عزيزا ، وأعظم نفرا ، وأكثر عائذا ، فكثر بنو عبد مناف سهما . ثم تكاثروا بالأموات ، فكثرتهم سهم ، [ ص: 151 ] فنزلت ألهاكم التكاثر بأحيائكم فلم ترضوا حتى زرتم المقابر مفتخرين بالأموات . وروى سعيد عن قتادة قال : كانوا يقولون نحن أكثر من بني فلان ، ونحن أعد من بني فلان ; وهم كل يوم يتساقطون إلى آخرهم ، والله مازالوا كذلك حتى صاروا من أهل القبور كلهم . وعن حلف أن هذه السورة نزلت في التجار . وعن عمرو بن دينار شيبان عن قتادة قال : نزلت في أهل الكتاب .
قلت : الآية تعم جميع ما ذكر وغيره . وفي صحيح مسلم عن مطرف عن أبيه قال : ألهاكم التكاثر قال : " يقول ابن آدم : مالي مالي ! وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدقت فأمضيت . أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقرأ
وروى عن البخاري ابن شهاب : أخبرني أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " " . قال لو أن لابن آدم واديا من ذهب ، لأحب أن يكون له واديان ، ولن يملأ فاه إلا التراب ، ويتوب الله على من تاب ثابت عن أنس عن أبي : كنا نرى هذا من القرآن ، حتى نزلت ألهاكم التكاثر . قال : وهذا نص صحيح مليح ، . غاب عن أهل التفسير فجهلوا والحمد لله على المعرفة . وقال ابن العربي ابن عباس : ألهاكم التكاثر قال : " تكاثر الأموال : جمعها من غير حقها ، ومنعها من حقها ، وشدها في الأوعية " . قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم -
الثانية : حتى زرتم المقابر
أي حتى أتاكم الموت ، فصرتم في المقابر زوارا ، ترجعون منها كرجوع الزائر إلى منزله من جنة أو نار . يقال لمن مات : قد زار قبره . وقيل : أي ألهاكم التكاثر حتى عددتم الأموات ، على ما تقدم . وقيل : هذا وعيد . أي اشتغلتم بمفاخرة الدنيا ، حتى تزوروا القبور ، فتروا ما ينزل بكم من عذاب الله - عز وجل - . قوله تعالى :
الثالثة : قوله تعالى : المقابر جمع مقبرة ومقبرة ( بفتح الباء وضمها ) . والقبور : جمع القبر قال :
[ ص: 152 ]
أرى أهل القصور إذا أميتوا بنوا فوق المقابر بالصخور
أبوا إلا مباهاة وفخرا على الفقراء حتى في القبور
لكل أناس مقبر بفنائهم فهم ينقصون والقبور تزيد
الرابعة : لم يأت في التنزيل ذكر المقابر إلا في هذه السورة . وزيارتها من أعظم الدواء للقلب القاسي ; لأنها تذكر الموت والآخرة . وذلك يحمل على قصر الأمل ، والزهد في الدنيا ، وترك الرغبة فيها . قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : رواه كنت نهيتكم عن زيارة القبور ، فزوروا القبور ، فإنها تزهد في الدنيا ، وتذكر الآخرة ابن مسعود ; أخرجه ابن ماجه . وفي صحيح مسلم من حديث : أبي هريرة . وفي فإنها تذكر الموت الترمذي عن بريدة : فإنها تذكر الآخرة . قال : هذا حديث حسن صحيح .
وفيه عن : أبي هريرة . قال : وفي الباب عن أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعن زوارات القبور ابن عباس . قال وحسان بن ثابت أبو عيسى : وهذا حديث حسن صحيح . وقد رأى بعض أهل العلم أن هذا كان قبل أن يرخص النبي - صلى الله عليه وسلم - في زيارة القبور ; فلما رخص دخل في رخصته الرجال والنساء . وقال بعضهم : إنما كره لقلة صبرهن ، وكثرة جزعهن . زيارة القبور للنساء
قلت : متفق عليه عند العلماء ، مختلف فيه للنساء . أما الشواب فحرام عليهن الخروج ، وأما القواعد فمباح لهن ذلك . وجائز لجميعهن . ذلك إذا انفردن بالخروج عن الرجال ; ولا يختلف في هذا إن شاء الله . وعلى هذا المعنى يكون قوله : " زيارة القبور للرجال " عاما . وأما موضع أو وقت يخشى فيه الفتنة من اجتماع الرجال والنساء ، فلا [ ص: 153 ] يحل ولا يجوز . فبينا الرجل يخرج ليعتبر ، فيقع بصره على امرأة فيفتتن ، وبالعكس فيرجع كل واحد من الرجال والنساء مأزورا غير مأجور . والله أعلم . زوروا القبور
الخامسة : قال العلماء : ينبغي لمن أراد علاج قلبه وانقياده بسلاسل القهر إلى طاعة ربه ، أن يكثر من وموتم البنين والبنات ، ويواظب على ذكر هاذم اللذات ، ومفرق الجماعات ، وزيارة قبور أموات المسلمين . فهذه ثلاثة أمور ، ينبغي لمن قسا قلبه ، ولزمه ذنبه ، أن يستعين بها على دواء دائه ، ويستصرخ بها على فتن الشيطان وأعوانه ; فإن انتفع بالإكثار من ذكر الموت ، وانجلت به قساوة قلبه فذاك ، وإن عظم عليه ران قلبه ، واستحكمت فيه دواعي الذنب ; فإن مشاهدة المحتضرين ، وزيارة قبور أموات المسلمين ، تبلغ في دفع ذلك ما لا يبلغه الأول ; لأن ذكر الموت إخبار للقلب بما إليه المصير ، وقائم له مقام التخويف والتحذير . وفي مشاهدة من احتضر ، وزيارة قبر من مات من المسلمين معاينة ومشاهدة ; فلذلك كان أبلغ من الأول ; قال - صلى الله عليه وسلم - : مشاهدة المحتضرين ، رواه ليس الخبر كالمعاينة ابن عباس .
فأما الاعتبار بحال المحتضرين ، فغير ممكن في كل الأوقات ، وقد لا يتفق لمن أراد علاج قلبه في ساعة من الساعات . وأما زيارة القبور فوجودها أسرع ، والانتفاع بها أليق وأجدر . فينبغي لمن عزم على الزيارة ، أن يتأدب بآدابها ، ويحضر قلبه في إتيانها ، ولا يكون حظه منها التطواف على الأجداث فقط ; فإن هذه حالة تشاركه فيها بهيمة . ونعوذ بالله من ذلك . بل يقصد بزيارته وجه الله تعالى ، وإصلاح فساد قلبه ، أو نفع الميت بما يتلو عنده من القرآن والدعاء ، ويتجنب المشي على المقابر ، والجلوس عليها ويسلم إذا دخل المقابر ، وإذا وصل إلى قبر ميته الذي يعرفه سلم عليه أيضا ، وأتاه من تلقاء وجهه ; لأنه في زيارته كمخاطبته حيا ، ولو خاطبه حيا لكان الأدب استقباله بوجهه ; فكذلك هاهنا . ثم يعتبر بمن صار تحت التراب ، وانقطع عن الأهل والأحباب ، بعد أن قاد الجيوش والعساكر ، ونافس الأصحاب والعشائر ، وجمع الأموال والذخائر ; فجاءه الموت في وقت لم يحتسبه ، وهول لم يرتقبه . فليتأمل الزائر حال من مضى من إخوانه ، ودرج من أقرانه الذين بلغوا الآمال ، وجمعوا الأموال ; كيف انقطعت آمالهم ، ولم تغن عنهم أموالهم ، ومحا التراب محاسن وجوههم ، وافترقت في القبور أجزاؤهم ، وترمل من بعدهم نساؤهم ، وشمل ذل اليتم أولادهم ، واقتسم غيرهم طريفهم وتلادهم . وليتذكر ترددهم في المآرب ، وحرصهم على [ ص: 154 ] نيل المطالب ، وانخداعهم لمواتاة الأسباب ، وركونهم إلى الصحة والشباب . وليعلم أن ميله إلى اللهو واللعب كميلهم ، وغفلته عما بين يديه من الموت الفظيع ، والهلاك السريع ، كغفلتهم ، وأنه لا بد صائر إلى مصيرهم ، وليحضر بقلبه ذكر من كان مترددا في أغراضه ، وكيف تهدمت رجلاه . وكان يتلذذ بالنظر إلى ما خوله وقد سالت عيناه ، ويصول ببلاغة نطقه وقد أكل الدود لسانه ، ويضحك لمواتاة دهره وقد أبلى التراب أسنانه ، وليتحقق أن حاله كحاله ، ومآله كمآله . وعند هذا التذكر والاعتبار تزول عنه جميع الأغيار الدنيوية ، ويقبل على الأعمال الأخروية ، فيزهد في دنياه ، ويقبل على طاعة مولاه ، ويلين قلبه ، وتخشع جوارحه .