[ ص: 465 ] القول في تأويل قوله ( لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم ( 188 ) )
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك .
فقال بعضهم : عني بذلك قوم من أهل النفاق كانوا يقعدون خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا العدو ، فإذا انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتذروا إليه ، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا .
ذكر من قال ذلك :
8335 - حدثنا محمد بن سهل بن عسكر وابن عبد الرحيم البرقي قالا حدثنا ابن أبي مريم قال : حدثنا محمد بن جعفر بن أبي كثير قال : حدثني عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، : أبي سعيد الخدري لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا " الآية . أن رجالا من المنافقين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الغزو ، تخلفوا عنه ، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله . وإذا قدم النبي صلى الله عليه وسلم من السفر اعتذروا إليه ، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا . فأنزل الله تعالى فيهم : "
8336 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا " ، قال : هؤلاء المنافقون ، يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم : لو قد خرجت لخرجنا معك! فإذا خرج النبي صلى الله عليه وسلم تخلفوا وكذبوا ، ويفرحون بذلك ، ويرون أنها حيلة احتالوا بها .
[ ص: 466 ]
وقال آخرون : عني بذلك قوم من أحبار اليهود ، كانوا يفرحون بإضلالهم الناس ، ونسبة الناس إياهم إلى العلم .
ذكر من قال ذلك :
8337 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن أو عكرمة مولى ابن عباس سعيد بن جبير : " وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب " إلى قوله : "ولهم عذاب أليم" ، يعني فنحاص وأشيع وأشباههما من الأحبار ، الذين يفرحون بما يصيبون من الدنيا على ما زينوا للناس من الضلالة" ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا " ، أن يقول لهم الناس علماء ، وليسوا بأهل علم ، لم يحملوهم على هدى ولا خير ، ويحبون أن يقول لهم الناس : قد فعلوا .
8338 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا قال : حدثنا يونس بن بكير محمد بن إسحاق قال : حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة : أنه حدثه عن ابن عباس بنحو ذلك إلا أنه قال : وليسوا بأهل علم ، لم يحملوهم على هدى .
وقال آخرون : بل عني بذلك قوم من اليهود ، فرحوا باجتماع كلمتهم على تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم ، ويحبون أن يحمدوا بأن يقال لهم : أهل صلاة وصيام .
ذكر من قال ذلك : [ ص: 467 ]
8339 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال : سمعت أبا معاذ يقول ، أخبرنا عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله : " لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا " ، فإنهم فرحوا باجتماعهم على كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وقالوا : "قد جمع الله كلمتنا ، ولم يخالف أحد منا أحدا [ أن محمدا ليس بنبي ] . وقالوا : "نحن أبناء الله وأحباؤه ، ونحن أهل الصلاة والصيام" ، وكذبوا ، بل هم أهل كفر وشرك وافتراء على الله ، قال الله : " يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا " .
8340 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال : أخبرنا يزيد قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : " لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا " ، قال : كانت اليهود أمر بعضهم بعضا ، فكتب بعضهم إلى بعض : "أن محمدا ليس بنبي ، فأجمعوا كلمتكم ، وتمسكوا بدينكم وكتابكم الذي معكم" ، ففعلوا وفرحوا بذلك ، وفرحوا باجتماعهم على الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم .
8341 - حدثنا محمد قال : حدثنا أحمد قال : حدثنا أسباط ، عن [ ص: 468 ] قال : كتموا اسم السدي محمد صلى الله عليه وسلم ، ففرحوا بذلك ، وفرحوا باجتماعهم على الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم .
8342 - حدثنا محمد قال : حدثنا أحمد قال : حدثنا أسباط ، عن قال : كتموا اسم السدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وفرحوا بذلك حين اجتمعوا عليه ، وكانوا يزكون أنفسهم فيقولون : "نحن أهل الصيام وأهل الصلاة وأهل الزكاة ، ونحن على دين إبراهيم صلى الله عليه وسلم" ، فأنزل الله فيهم : " لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا " ، من كتمان محمد صلى الله عليه وسلم" ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا " ، أحبوا أن تحمدهم العرب ، بما يزكون به أنفسهم ، وليسوا كذلك .
8343 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا الثوري ، عن أبي الجحاف ، عن مسلم البطين قال : سأل الحجاج جلساءه عن هذه الآية : " لا تحسبن الذي يفرحون بما أتوا " ، قال سعيد بن جبير : بكتمانهم محمدا " ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا " ، قال : هو قولهم : "نحن على دين إبراهيم عليه السلام" .
8344 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا " ، هم أهل الكتاب ، أنزل عليهم الكتاب فحكموا بغير الحق ، وحرفوا الكلم عن مواضعه ، وفرحوا بذلك ، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا . فرحوا بأنهم كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل الله ، وهم يزعمون أنهم يعبدون الله ، ويصومون ويصلون ، ويطيعون الله . فقال الله جل ثناؤه لمحمد صلى الله عليه وسلم : " لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا " ، كفرا بالله وكفرا بمحمد صلى الله عليه وسلم" ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا " ، من الصلاة والصوم ، فقال الله جل وعز لمحمد صلى الله عليه وسلم : " فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم " . [ ص: 469 ]
وقال آخرون : بل معنى ذلك : " لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا " ، من تبديلهم كتاب الله ، ويحبون أن يحمدهم الناس على ذلك .
ذكر من قال ذلك :
8345 - حدثنا محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله تعالى : " لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا " ، قال : يهود ، فرحوا بإعجاب الناس بتبديلهم الكتاب وحمدهم إياهم عليه ، ولا تملك يهود ذلك .
وقال آخرون : معنى ذلك : أنهم فرحوا بما أعطى الله تعالى آل إبراهيم عليه السلام .
ذكر من قال ذلك :
8346 - حدثني قال : حدثنا محمد بن المثنى محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة ، عن أبي المعلى ، عن سعيد بن جبير أنه قال في هذه الآية : " ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا " ، قال : اليهود ، يفرحون بما آتى الله إبراهيم عليه السلام .
8347 - حدثنا قال : حدثنا ابن المثنى قال : حدثنا وهب بن جرير شعبة عن أبي المعلى العطار ، عن سعيد بن جبير قال : هم اليهود ، فرحوا بما أعطى الله تعالى إبراهيم عليه السلام .
وقال آخرون : بل عني بذلك قوم من اليهود ، سألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه ، ففرحوا بكتمانهم ذلك إياه .
ذكر من قال ذلك : [ ص: 470 ]
8348 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا قال : أخبرني ابن جريج : أن ابن أبي مليكة علقمة بن أبي وقاص أخبره : أن مروان قال لرافع : اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل له : "لئن كان كل امرئ منا فرح بما أتى وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا ، ليعذبنا الله أجمعين"! فقال ابن عباس : ما لكم ولهذه! إنما دعا النبي صلى الله عليه وسلم يهود ، فسألهم عن شيء فكتموه إياه ، وأخبروه بغيره ، فأروه أن قد استجابوا لله بما أخبروه عنه مما سألهم ، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه . ثم قال : " وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب " ، الآية .
8349 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج قال : قال : أخبرني ابن جريج : أن عبد الله بن أبي مليكة حميد بن عبد الرحمن بن عوف أخبره : أن قال لبوابه : يا مروان بن الحكم رافع ، اذهب إلى ابن عباس فقل له : "لئن كان كل امرئ منا فرح بما أتى وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا ، لنعذبن جميعا"! فقال ابن عباس : ما لكم ولهذه الآية؟ إنما أنزلت في أهل الكتاب! ثم تلا ابن عباس : " وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس " إلى قوله : " أن يحمدوا بما لم يفعلوا " . قال ابن عباس : سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه إياه ، وأخبروه بغيره ، فخرجوا وقد أروه أن قد أخبروه بما قد سألهم عنه ، فاستحمدوا بذلك إليه ، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه ما سألهم عنه .
[ ص: 471 ]
وقال آخرون : بل عني بذلك قوم من يهود ، أظهروا النفاق للنبي صلى الله عليه وسلم محبة منهم للحمد ، والله عالم منهم خلاف ذلك .
ذكر من قال ذلك :
8350 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ذكر لنا أن أعداء الله اليهود ، يهود خيبر ، أتوا نبي الله صلى الله عليه وسلم ، فزعموا أنهم راضون بالذي جاء به ، وأنهم متابعوه ، وهم متمسكون بضلالتهم ، وأرادوا أن يحمدهم نبي الله صلى الله عليه وسلم بما لم يفعلوا ، فأنزل الله تعالى : " لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا " ، الآية .
8351 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة قال : إن أهل خيبر أتوا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقالوا : "إنا على رأيكم وسنتكم ، وإنا لكم ردء" . فأكذبهم الله فقال : " لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا " الآيتين .
8352 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي عبيدة قال : جاء رجل إلى عبد الله فقال : إن كعبا يقرأ عليك السلام ويقول : إن هذه الآية لم تنزل فيكم : " لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا " ، قال : أخبروه أنها نزلت وهو يهودي .
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل قوله : " لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا " الآية ، قول من قال : "عني بذلك أهل الكتاب الذين أخبر [ ص: 472 ] الله جل وعز أنه أخذ ميثاقهم ، ليبينن للناس أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، ولا يكتمونه ، لأن قوله : " لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا " الآية ، في سياق الخبر عنهم ، وهو شبيه بقصتهم مع اتفاق أهل التأويل على أنهم المعنيون بذلك .
فإذ كان ذلك كذلك ، فتأويل الآية : لا تحسبن ، يا محمد ، الذين يفرحون بما أتوا من كتمانهم الناس أمرك ، وأنك لي رسول مرسل بالحق ، وهم يجدونك مكتوبا عندهم في كتبهم ، وقد أخذت عليهم الميثاق بالإقرار بنبوتك ، وبيان أمرك للناس ، وأن لا يكتموهم ذلك ، وهم مع نقضهم ميثاقي الذي أخذت عليهم بذلك ، يفرحون بمعصيتهم إياي في ذلك ، ومخالفتهم أمري ، ويحبون أن يحمدهم الناس بأنهم أهل طاعة لله وعبادة وصلاة وصوم ، واتباع لوحيه وتنزيله الذي أنزله على أنبيائه ، وهم من ذلك أبرياء أخلياء ، لتكذيبهم رسوله ، ونقضهم ميثاقه الذي أخذ عليهم ، لم يفعلوا شيئا مما يحبون أن يحمدهم الناس عليه" فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم " .
وقوله : " فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب " ، فلا تظنهم بمنجاة من عذاب الله الذي أعده لأعدائه في الدنيا ، من الخسف والمسخ والرجف والقتل ، وما أشبه ذلك من عقاب الله ، ولا هم ببعيد منه ، كما : -
8353 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب " ، قال : بمنجاة من العذاب .
قال أبو جعفر : "ولهم عذاب أليم" ، يقول : ولهم عذاب في الآخرة أيضا مؤلم ، مع الذي لهم في الدنيا معجل .