القول في
nindex.php?page=treesubj&link=28978_31770_31771تأويل قوله ( nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=12قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ( 12 ) )
قال
أبو جعفر : وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن قيله لإبليس ، إذ عصاه فلم يسجد
لآدم إذ أمره بالسجود له . يقول : قال الله لإبليس : ( ما منعك ) ، أي شيء منعك ( ألا تسجد ) ، أن تدع السجود
لآدم ( إذ أمرتك ) ، أن تسجد " قال أنا خير منه " ، يقول : قال إبليس : أنا خير من
آدم "
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=12خلقتني من نار وخلقته من طين " .
فإن قال قائل : أخبرنا عن إبليس ، ألحقته الملامة على السجود ، أم على ترك السجود؟ فإن تكن لحقته الملامة على ترك السجود ، فكيف قيل له : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=12ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك ) ؟ وإن كان النكير على السجود ، فذلك خلاف ما جاء به التنزيل في سائر القرآن ، وخلاف ما يعرفه المسلمون!
[ ص: 324 ]
قيل : إن الملامة لم تلحق إبليس إلا على معصيته ربه بتركه السجود
لآدم إذ أمره بالسجود له .
غير أن في تأويل قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=12ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك ) ، بين أهل المعرفة بكلام العرب اختلافا ، أبدأ بذكر ما قالوا ، ثم أذكر الذي هو أولى ذلك بالصواب .
فقال بعض نحويي البصرة : معنى ذلك : ما منعك أن تسجد و " لا " هاهنا زائدة ، كما قال الشاعر :
أبى جوده لا البخل ، واستعجلت به نعم ، من فتى لا يمنع الجوع قاتله
وقال : فسرته العرب : " أبى جوده البخل " ، وجعلوا " لا " زائدة حشوا هاهنا ، وصلوا بها الكلام . قال : وزعم يونس أن أبا عمرو كان يجر " البخل " ، ويجعل " لا " مضافة إليه ، أراد : أبى جوده " لا " التي هي للبخل ، ويجعل " لا " مضافة ، لأن " لا " قد تكون للجود والبخل ، لأنه لو قال له : " امنع الحق ولا تعط المسكين " فقال : " لا " كان هذا جودا منه .
وقال بعض نحويي
الكوفة نحو القول الذي ذكرناه عن
البصريين في معناه وتأويله ، غير أنه زعم أن العلة في دخول " لا " في قوله : ( ألا تسجد ) ، أن في أول الكلام جحدا يعني بذلك قوله : ( لم يكن من الساجدين ) ، فإن العرب ربما أعادوا في الكلام الذي فيه جحد ، الجحد ، كالاستيثاق والتوكيد له . قال : وذلك كقولهم :
[ ص: 325 ] ما إن رأينا مثلهن لمعشر سود الرؤوس ، فوالج وفيول
فأعاد على الجحد الذي هو " ما " جحدا ، وهو قوله " إن " ، فجمعهما للتوكيد .
وقال آخر منهم : ليست " لا " ، بحشو في هذا الموضع ولا صلة ، ولكن " المنع " هاهنا بمعنى " القول " ، وإنما تأويل الكلام : من قال لك لا تسجد إذ أمرتك بالسجود ولكن دخل في الكلام " أن " ، إذ كان " المنع " بمعنى " القول " ، لا في لفظه ، كما يفعل ذلك في سائر الكلام الذي يضارع القول ، وهو له في اللفظ مخالف ، كقولهم : " ناديت أن لا تقم " ، و " حلفت أن لا تجلس " ، وما أشبه ذلك من الكلام . وقال : خفض " البخل " من روى : " أبى جوده لا البخل " ، بمعنى : كلمة البخل ، لأن " لا " هي كلمة البخل ، فكأنه قال : "كلمة البخل" .
وقال بعضهم : معنى " المنع " ، الحول بين المرء وما يريده . قال : والممنوع مضطر به إلى خلاف ما منع منه ، كالممنوع من القيام وهو يريده ، فهو مضطر من الفعل إلى ما كان خلافا للقيام ، إذ كان المختار للفعل هو الذي له السبيل إليه وإلى خلافه ، فيوثر أحدهما على الآخر فيفعله . قال : فلما كانت صفة " المنع " ذلك ، فخوطب إبليس بالمنع فقيل له : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=12ما منعك ألا تسجد ) ، كان معناه كأنه قيل له : أي شيء اضطرك إلى أن لا تسجد؟
قال
أبو جعفر : والصواب عندي من القول في ذلك أن يقال : إن في الكلام محذوفا قد كفى دليل الظاهر منه ، وهو أن معناه : ما منعك من السجود
[ ص: 326 ] فأحوجك أن لا تسجد فترك ذكر " أحوجك " ، استغناء بمعرفة السامعين قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=11إلا إبليس لم يكن من الساجدين ) ، أن ذلك معنى الكلام ، من ذكره . ثم عمل قوله : ( ما منعك ) ، في " أن " ما كان عاملا فيه قبل " أحوجك " لو ظهر ، إذ كان قد ناب عنه .
وإنما قلنا إن هذا القول أولى بالصواب ، لما قد مضى من دلالتنا قبل على أنه غير جائز أن يكون في كتاب الله شيء لا معنى له ، وأن لكل كلمة معنى صحيحا ، فتبين بذلك فساد قول من قال : " لا " في الكلام حشو لا معنى لها .
وأما قول من قال : معنى " المنع " هاهنا " القول " ، فلذلك دخلت " لا " مع " أن " فإن " المنع " وإن كان قد يكون قولا وفعلا فليس المعروف في الناس استعمال " المنع " ، في الأمر بترك الشيء ، لأن المأمور بترك الفعل إذا كان قادرا على فعله وتركه ففعله ، لا يقال : " فعله " ، وهو ممنوع من فعله ، إلا على استكراه للكلام . وذلك أن المنع من الفعل حول بينه وبينه ، فغير جائز أن يكون - وهو محول بينه وبينه - فاعلا له ، لأنه إن جاز ذلك ، وجب أن يكون محولا بينه وبينه لا محولا وممنوعا لا ممنوعا .
وبعد ، فإن إبليس لم يأتمر لأمر الله تعالى ذكره بالسجود
لآدم كبرا ، فكيف كان يأتمر لغيره في ترك أمر الله وطاعته بترك السجود
لآدم ، فيجوز أن يقال له : " أي شيء قال لك : لا تسجد
لآدم إذ أمرتك بالسجود له؟ ولكن معناه إن شاء الله ما قلت : " ما منعك من السجود له فأحوجك ، أو : فأخرجك ، أو : فاضطرك إلى أن لا تسجد له " ، على ما بينت .
وأما قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=12أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ) ، فإنه خبر من الله جل ثناؤه عن جواب إبليس إياه إذ سأله : ما الذي منعه من السجود
لآدم ،
[ ص: 327 ] فأحوجه إلى أن لا يسجد له ، واضطره إلى خلافه أمره به ، وتركه طاعته أن المانع كان له من السجود ، والداعي له إلى خلافه أمر ربه في ذلك : أنه أشد منه أيدا ، وأقوى منه قوة ، وأفضل منه فضلا لفضل الجنس الذي منه خلق ، وهو النار ، على الذي خلق منه
آدم ، وهو الطين . فجهل عدو الله وجه الحق ، وأخطأ سبيل الصواب . إذ كان معلوما أن من جوهر النار الخفة والطيش والاضطراب والارتفاع علوا ، والذي في جوهرها من ذلك هو الذي حمل الخبيث بعد الشقاء الذي سبق له من الله في الكتاب السابق ، على الاستكبار عن السجود
لآدم ، والاستخفاف بأمر ربه ، فأورثه العطب والهلاك . وكان معلوما أن من جوهر الطين الرزانة والأناة والحلم والحياء والتثبت ، وذلك الذي هو في جوهره من ذلك ، كان الداعي
لآدم بعد السعادة التي كانت سبقت له من ربه في الكتاب السابق ، إلى التوبة من خطيئته ، ومسألته ربه العفو عنه والمغفرة . ولذلك كان
الحسن nindex.php?page=showalam&ids=16972وابن سيرين يقولان : " أول من قاس إبليس " ، يعنيان بذلك : القياس الخطأ ، وهو هذا الذي ذكرنا من خطأ قوله ، وبعده من إصابة الحق ، في الفضل الذي خص الله به
آدم على سائر خلقه : من خلقه إياه بيده ، ونفخه فيه من روحه ، وإسجاده له الملائكة ، وتعليمه أسماء كل شيء ، مع سائر ما خصه به من كرامته . فضرب عن ذلك كله الجاهل صفحا ، وقصد إلى الاحتجاج بأنه خلق من نار وخلق
آدم من طين!! وهو في ذلك أيضا له غير كفء ، لو لم يكن
لآدم من الله جل ذكره تكرمة شيء غيره ، فكيف والذي خص به من كرامته يكثر تعداده ، ويمل إحصاؤه؟
[ ص: 328 ]
14355 - حدثني
عمرو بن مالك قال ، حدثنا
يحيى بن سليم الطائفي ، عن
هشام ، عن
ابن سيرين قال : أول من قاس إبليس ، وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس .
14356 - حدثنا
القاسم قال ، حدثنا
الحسين قال ، حدثنا
محمد بن كثير ، عن
ابن شوذب ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=17096مطر الوراق ، عن
الحسن قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=12خلقتني من نار وخلقته من طين ) ، قال : قاس إبليس وهو أول من قاس .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
14357 - حدثنا
أبو كريب قال ، حدثنا
عثمان بن سعيد قال ، حدثنا
بشر بن عمارة ، عن
أبي روق ، عن
الضحاك عن
ابن عباس قال : لما خلق الله
آدم قال للملائكة الذين كانوا مع إبليس خاصة ، دون الملائكة الذين في السماوات : " اسجدوا لآدم " ، فسجدوا كلهم أجمعون إلا إبليس استكبر ، لما كان حدث نفسه ، من كبره واغتراره ، فقال : " لا أسجد له ، وأنا خير منه ، وأكبر سنا ، وأقوى خلقا ، خلقتني من نار وخلقته من طين! " يقول : إن النار أقوى من الطين .
14358 - حدثنا
القاسم قال ، حدثنا
الحسين قال ، حدثني
حجاج ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج ، عن
مجاهد قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=12خلقتني من نار ) ، قال : ثم جعل ذريته من ماء .
[ ص: 329 ]
قال
أبو جعفر : وهذا الذي قاله عدو الله ليس لما سأله عنه بجواب . وذلك أن الله تعالى ذكره قال له : ما منعك من السجود؟ فلم يجب بأن الذي منعه من السجود أنه خلق من نار وخلق
آدم من طين ، ولكنه ابتدأ خبرا عن نفسه ، فيه دليل على موضع الجواب فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=12أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين )
الْقَوْلُ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=28978_31770_31771تَأْوِيلِ قَوْلِهِ ( nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=12قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ( 12 ) )
قَالَ
أَبُو جَعْفَرٍ : وَهَذَا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنْ قِيلِهِ لِإِبْلِيسَ ، إِذْ عَصَاهُ فَلَمْ يَسْجُدْ
لِآدَمَ إِذْ أَمَرَهُ بِالسُّجُودِ لَهُ . يَقُولُ : قَالَ اللَّهُ لِإِبْلِيسَ : ( مَا مَنَعَكَ ) ، أَيُّ شَيْءٍ مَنَعَكَ ( أَلَّا تَسْجُدَ ) ، أَنْ تَدَعَ السُّجُودَ
لِآدَمَ ( إِذْ أَمَرْتُكَ ) ، أَنْ تَسْجُدَ " قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ " ، يَقُولُ : قَالَ إِبْلِيسُ : أَنَا خَيْرٌ مِنْ
آدَمَ "
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=12خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ " .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : أَخْبِرْنَا عَنْ إِبْلِيسَ ، أَلَحِقَتْهُ الْمَلَامَةُ عَلَى السُّجُودِ ، أَمْ عَلَى تَرْكِ السُّجُودِ؟ فَإِنْ تَكُنْ لَحِقَتْهُ الْمَلَامَةُ عَلَى تَرْكِ السُّجُودِ ، فَكَيْفَ قِيلَ لَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=12مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ) ؟ وَإِنْ كَانَ النَّكِيرُ عَلَى السُّجُودِ ، فَذَلِكَ خِلَافُ مَا جَاءَ بِهِ التَّنْزِيلُ فِي سَائِرِ الْقُرْآنِ ، وَخِلَافُ مَا يَعْرِفُهُ الْمُسْلِمُونَ!
[ ص: 324 ]
قِيلَ : إِنَّ الْمَلَامَةَ لَمْ تَلْحَقْ إِبْلِيسَ إِلَّا عَلَى مَعْصِيَتِهِ رَبَّهُ بِتَرْكِهِ السُّجُودَ
لِآدَمَ إِذْ أَمَرَهُ بِالسُّجُودِ لَهُ .
غَيْرُ أَنَّ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=12مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدُ إِذْ أَمَرْتُكَ ) ، بَيَّنَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِكَلَامِ الْعَرَبِ اخْتِلَافًا ، أَبْدَأُ بِذِكْرِ مَا قَالُوا ، ثُمَّ أَذْكُرُ الَّذِي هُوَ أَوْلَى ذَلِكَ بِالصَّوَابِ .
فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّيِ الْبَصْرَةِ : مَعْنَى ذَلِكَ : مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ وَ " لَا " هَاهُنَا زَائِدَةٌ ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ :
أَبَى جُودُهُ لَا البُخْلَ ، وَاسْتَعْجَلَتْ بِهِ نَعَمْ ، مِنْ فَتًى لَا يَمْنَعُ الْجُوعَ قَاتِلُهْ
وَقَالَ : فَسَّرَتْهُ الْعَرَبُ : " أَبَى جُودَهُ الْبُخْلُ " ، وَجَعَلُوا " لَا " زَائِدَةً حَشْوًا هَاهُنَا ، وَصَلُوا بِهَا الْكَلَامَ . قَالَ : وَزَعَمَ يُونُسُ أَنَّ أَبَا عَمْرٍو كَانَ يَجُرُّ " الْبُخْلَ " ، وَيَجْعَلُ " لَا " مُضَافَةً إِلَيْهِ ، أَرَادَ : أَبَى جُودَهُ " لَا " الَّتِي هِيَ لِلْبُخْلِ ، وَيَجْعَلُ " لَا " مُضَافَةً ، لِأَنَّ " لَا " قَدْ تَكُونُ لِلْجُودِ وَالْبُخْلِ ، لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهُ : " امْنَعِ الْحَقَّ وَلَا تُعْطِ الْمِسْكِينَ " فَقَالَ : " لَا " كَانَ هَذَا جُودًا مِنْهُ .
وَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّيِ
الْكُوفَةِ نَحْوَ الْقَوْلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنِ
الْبَصْرِيِّينَ فِي مَعْنَاهُ وَتَأْوِيلِهِ ، غَيْرَ أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي دُخُولِ " لَا " فِي قَوْلِهِ : ( أَلَّا تَسْجُدَ ) ، أَنَّ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ جَحْدًا يَعْنِي بِذَلِكَ قَوْلَهُ : ( لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ) ، فَإِنَّ الْعَرَبَ رُبَّمَا أَعَادُوا فِي الْكَلَامِ الَّذِي فِيهِ جَحْدٌ ، الْجَحْدَ ، كَالِاسْتِيثَاقِ وَالتَّوْكِيدِ لَهُ . قَالَ : وَذَلِكَ كَقَوْلِهِمْ :
[ ص: 325 ] مَا إِنْ رَأَيْنَا مِثْلَهُنَّ لِمَعْشَرٍ سُودِ الرُّؤُوسِ ، فَوَالِجٌ وَفُيُولُ
فَأَعَادَ عَلَى الْجَحْدِ الَّذِي هُوَ " مَا " جَحْدًا ، وَهُوَ قَوْلُهُ " إِنْ " ، فَجَمْعُهُمَا لِلتَّوْكِيدِ .
وَقَالَ آخَرٌ مِنْهُمْ : لَيْسَتْ " لَا " ، بِحَشْوٍ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَلَا صِلَةٍ ، وَلَكِنَّ " الْمَنْعَ " هَاهُنَا بِمَعْنَى " الْقَوْلِ " ، وَإِنَّمَا تَأْوِيلُ الْكَلَامِ : مَنْ قَالَ لَكَ لَا تَسْجُدْ إِذْ أَمَرْتُكَ بِالسُّجُودِ وَلَكِنْ دَخَلَ فِي الْكَلَامِ " أَنْ " ، إِذْ كَانَ " الْمَنْعُ " بِمَعْنَى " الْقَوْلِ " ، لَا فِي لَفْظِهِ ، كَمَا يُفْعَلُ ذَلِكَ فِي سَائِرِ الْكَلَامِ الَّذِي يُضَارِعُ الْقَوْلَ ، وَهُوَ لَهُ فِي اللَّفْظِ مُخَالِفٌ ، كَقَوْلِهِمْ : " نَادَيْتُ أَنْ لَا تَقُمْ " ، وَ " حَلَفَتْ أَنْ لَا تَجْلِسْ " ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْكَلَامِ . وَقَالَ : خَفَضَ " الْبُخْلَ " مَنْ رَوَى : " أَبَى جُودَهُ لَا الْبُخْلِ " ، بِمَعْنَى : كَلِمَةِ الْبُخْلِ ، لِأَنَّ " لَا " هِيَ كَلِمَةُ الْبُخْلِ ، فَكَأَنَّهُ قَالَ : "كَلِمَةَ الْبُخْلِ" .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : مَعْنَى " الْمَنْعِ " ، الْحَوْلُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَمَا يُرِيدُهُ . قَالَ : وَالْمَمْنُوعُ مُضْطَرٌّ بِهِ إِلَى خِلَافِ مَا مَنَعَ مِنْهُ ، كَالْمَمْنُوعِ مِنَ الْقِيَامِ وَهُوَ يُرِيدُهُ ، فَهُوَ مُضْطَرٌّ مِنَ الْفِعْلِ إِلَى مَا كَانَ خِلَافًا لِلْقِيَامِ ، إِذْ كَانَ الْمُخْتَارُ لِلْفِعْلِ هُوَ الَّذِي لَهُ السَّبِيلُ إِلَيْهِ وَإِلَى خِلَافِهِ ، فَيُوثِرُ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ فَيَفْعَلُهُ . قَالَ : فَلَمَّا كَانَتْ صِفَةُ " الْمَنْعِ " ذَلِكَ ، فَخُوطِبَ إِبْلِيسُ بِالْمَنْعِ فَقِيلَ لَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=12مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ ) ، كَانَ مَعْنَاهُ كَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ : أَيُّ شَيْءٍ اضْطَرَّكَ إِلَى أَنْ لَا تَسْجُدَ؟
قَالَ
أَبُو جَعْفَرٍ : وَالصَّوَابُ عِنْدِي مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ : إِنَّ فِي الْكَلَامِ مَحْذُوفًا قَدْ كَفَى دَلِيلُ الظَّاهِرِ مِنْهُ ، وَهُوَ أَنَّ مَعْنَاهُ : مَا مَنَعَكَ مِنَ السُّجُودِ
[ ص: 326 ] فَأَحْوَجَكَ أَنْ لَا تَسْجُدَ فَتَرَكَ ذِكْرَ " أَحْوَجَكَ " ، اسْتِغْنَاءً بِمَعْرِفَةِ السَّامِعِينَ قَوْلَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=11إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ) ، أَنَّ ذَلِكَ مَعْنَى الْكَلَامِ ، مِنْ ذِكْرِهُ . ثُمَّ عَمِلَ قَوْلُهُ : ( مَا مَنَعَكَ ) ، فِي " أَنْ " مَا كَانَ عَامِلًا فِيهِ قَبْلَ " أَحْوَجَكَ " لَوْ ظَهَرَ ، إِذْ كَانَ قَدْ نَابَ عَنْهُ .
وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ ، لِمَا قَدْ مَضَى مِنْ دَلَالَتِنَا قَبْلُ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ فِي كِتَابِ اللَّهِ شَيْءٌ لَا مَعْنَى لَهُ ، وَأَنْ لِكُلِّ كَلِمَةٍ مَعْنًى صَحِيحًا ، فَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ فَسَادُ قَوْلِ مَنْ قَالَ : " لَا " فِي الْكَلَامِ حَشْوٌ لَا مَعْنَى لَهَا .
وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ : مَعْنَى " الْمَنْعِ " هَاهُنَا " الْقَوْلُ " ، فَلِذَلِكَ دَخَلَتْ " لَا " مَعَ " أَنْ " فَإِنَّ " الْمَنْعَ " وَإِنْ كَانَ قَدْ يَكُونُ قَوْلًا وَفِعْلًا فَلَيْسَ الْمَعْرُوفُ فِي النَّاسِ اسْتِعْمَالُ " الْمَنْعِ " ، فِي الْأَمْرِ بِتَرْكِ الشَّيْءِ ، لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِتَرْكِ الْفِعْلِ إِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ فَفَعَلَهُ ، لَا يُقَالُ : " فَعَلَهُ " ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ فِعْلِهِ ، إِلَّا عَلَى اسْتِكْرَاهٍ لِلْكَلَامِ . وَذَلِكَ أَنَّ الْمَنْعَ مِنَ الْفِعْلِ حَوْلٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ - وَهُوَ مَحُولٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ - فَاعِلًا لَهُ ، لِأَنَّهُ إِنْ جَازَ ذَلِكَ ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَحُولًا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ لَا مَحُولًا وَمَمْنُوعًا لَا مَمْنُوعًا .
وَبَعْدُ ، فَإِنَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَأْتَمِرْ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِالسُّجُودِ
لِآدَمَ كِبَرًا ، فَكَيْفَ كَانَ يَأْتَمِرُ لِغَيْرِهِ فِي تَرْكِ أَمْرِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ بِتَرْكِ السُّجُودِ
لِآدَمَ ، فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لَهُ : " أَيُّ شَيْءٍ قَالَ لَكَ : لَا تَسْجُدْ
لِآدَمَ إِذْ أَمَرْتُكَ بِالسُّجُودِ لَهُ؟ وَلَكِنَّ مَعْنَاهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مَا قُلْتُ : " مَا مَنَعَكَ مِنَ السُّجُودِ لَهُ فَأَحْوَجَكَ ، أَوْ : فَأَخْرَجَكَ ، أَوْ : فَاضْطَرَّكَ إِلَى أَنْ لَا تَسْجُدَ لَهُ " ، عَلَى مَا بَيَّنْتُ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=12أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ) ، فَإِنَّهُ خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْ جَوَابِ إِبْلِيسَ إِيَّاهُ إِذْ سَأَلَهُ : مَا الَّذِي مَنَعَهُ مِنَ السُّجُودِ
لِآدَمَ ،
[ ص: 327 ] فَأَحْوَجَهُ إِلَى أَنْ لَا يَسْجُدَ لَهُ ، وَاضْطَرَّهُ إِلَى خِلَافِهِ أَمَرَهُ بِهِ ، وَتَرْكِهِ طَاعَتَهُ أَنَّ الْمَانِعَ كَانَ لَهُ مِنَ السُّجُودِ ، وَالدَّاعِيَ لَهُ إِلَى خِلَافِهِ أَمْرَ رَبِّهِ فِي ذَلِكَ : أَنَّهُ أَشَدُّ مِنْهُ أَيْدًا ، وَأَقْوَى مِنْهُ قُوَّةً ، وَأَفْضَلُ مِنْهُ فَضْلًا لِفَضْلِ الْجِنْسِ الَّذِي مِنْهُ خُلِقَ ، وَهُوَ النَّارُ ، عَلَى الَّذِي خُلِقَ مِنْهُ
آدَمُ ، وَهُوَ الطِّينُ . فَجَهِلَ عَدُوُّ اللَّهِ وَجْهَ الْحَقِّ ، وَأَخْطَأَ سَبِيلَ الصَّوَابِ . إِذْ كَانَ مَعْلُومًا أَنَّ مِنْ جَوْهَرِ النَّارِ الْخِفَّةَ وَالطَّيْشَ وَالِاضْطِرَابَ وَالِارْتِفَاعَ عُلُوًّا ، وَالَّذِي فِي جَوْهَرِهَا مِنْ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي حَمَلَ الْخَبِيثَ بَعْدَ الشَّقَاءِ الَّذِي سَبَقَ لَهُ مِنَ اللَّهِ فِي الْكِتَابِ السَّابِقِ ، عَلَى الِاسْتِكْبَارِ عَنِ السُّجُودِ
لِآدَمَ ، وَالِاسْتِخْفَافِ بِأَمْرِ رَبِّهِ ، فَأَورَثَهُ الْعَطَبَ وَالْهَلَاكَ . وَكَانَ مَعْلُومًا أَنَّ مِنْ جَوْهَرِ الطِّينِ الرَّزَانَةَ وَالْأَنَاةَ وَالْحِلْمَ وَالْحَيَاءَ وَالتَّثَبُّتَ ، وَذَلِكَ الَّذِي هُوَ فِي جَوْهَرِهِ مِنْ ذَلِكَ ، كَانَ الدَّاعِيَ
لِآدَمَ بَعْدَ السَّعَادَةِ الَّتِي كَانَتْ سَبَقَتْ لَهُ مِنْ رَبِّهِ فِي الْكِتَابِ السَّابِقِ ، إِلَى التَّوْبَةِ مِنْ خَطِيئَتِهِ ، وَمَسْأَلَتِهِ رَبَّهُ الْعَفْوَ عَنْهُ وَالْمَغْفِرَةَ . وَلِذَلِكَ كَانَ
الْحَسَنُ nindex.php?page=showalam&ids=16972وَابْنُ سِيرِينَ يَقُولَانِ : " أَوَّلُ مَنْ قَاسَ إِبْلِيسُ " ، يَعْنِيَانِ بِذَلِكَ : الْقِيَاسَ الْخَطَأَ ، وَهُوَ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ خَطَأِ قَوْلِهِ ، وَبُعْدِهِ مِنْ إِصَابَةِ الْحَقِّ ، فِي الْفَضْلِ الَّذِي خَصَّ اللَّهُ بِهِ
آدَمَ عَلَى سَائِرِ خَلْقِهِ : مِنْ خَلْقِهِ إِيَّاهُ بِيَدِهِ ، وَنَفْخِهِ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ ، وَإِسْجَادِهِ لَهُ الْمَلَائِكَةَ ، وَتَعْلِيمِهِ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ ، مَعَ سَائِرِ مَا خَصَّهُ بِهِ مِنْ كَرَامَتِهِ . فَضَرَبَ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ الْجَاهِلُ صَفْحًا ، وَقَصْدَ إِلَى الِاحْتِجَاجِ بِأَنَّهُ خُلِقَ مِنْ نَارٍ وَخُلِقَ
آدَمُ مِنْ طِينٍ!! وَهُوَ فِي ذَلِكَ أَيْضًا لَهُ غَيْرُ كُفْءٍ ، لَوْ لَمْ يَكُنْ
لِآدَمَ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ تَكْرِمَةُ شَيْءٍ غَيْرِهِ ، فَكَيْفَ وَالَّذِي خُصَّ بِهِ مِنْ كَرَامَتِهِ يَكْثُرُ تَعْدَادُهُ ، وَيُمَلُّ إِحْصَاؤُهُ؟
[ ص: 328 ]
14355 - حَدَّثَنِي
عَمْرُو بْنُ مَالِكٍ قَالَ ، حَدَّثَنَا
يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ الطَّائِفِيُّ ، عَنْ
هِشَامٍ ، عَنِ
ابْنِ سِيرِينَ قَالَ : أَوَّلُ مَنْ قَاسَ إِبْلِيسُ ، وَمَا عُبِدَتِ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ إِلَّا بِالْمَقَايِيسِ .
14356 - حَدَّثَنَا
الْقَاسِمُ قَالَ ، حَدَّثَنَا
الْحُسَيْنُ قَالَ ، حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ ، عَنِ
ابْنِ شَوْذَبٍ ، عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=17096مَطَرٍ الْوَرَّاقِ ، عَنِ
الْحَسَنِ قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=12خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ) ، قَالَ : قَاسَ إِبْلِيسُ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ قَاسَ .
وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ .
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ :
14357 - حَدَّثَنَا
أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ ، حَدَّثَنَا
عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ ، حَدَّثَنَا
بِشْرُ بْنُ عِمَارَةَ ، عَنْ
أَبِي رَوْقٍ ، عَنِ
الضَّحَّاكِ عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ
آدَمَ قَالَ لِلْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ إِبْلِيسَ خَاصَّةً ، دُونَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ فِي السَّمَاوَاتِ : " اسْجُدُوا لِآدَمَ " ، فَسَجَدُوا كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ ، لِمَا كَانَ حَدَّثَ نَفْسَهُ ، مِنْ كِبْرِهِ وَاغْتِرَارِهِ ، فَقَالَ : " لَا أَسْجُدُ لَهُ ، وَأَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ، وَأَكْبَرُ سِنًّا ، وَأَقْوَى خَلْقًا ، خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ! " يَقُولُ : إِنَّ النَّارَ أَقْوَى مِنَ الطِّينِ .
14358 - حَدَّثَنَا
الْقَاسِمُ قَالَ ، حَدَّثَنَا
الْحُسَيْنُ قَالَ ، حَدَّثَنِي
حَجَّاجٌ ، عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابْنِ جُرَيْجٍ ، عَنْ
مُجَاهِدٍ قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=12خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ ) ، قَالَ : ثُمَّ جَعَلَ ذُرِّيَّتَهُ مِنْ مَاءٍ .
[ ص: 329 ]
قَالَ
أَبُو جَعْفَرٍ : وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ عَدُوُّ اللَّهِ لَيْسَ لِمَا سَأَلَهُ عَنْهُ بِجَوَابٍ . وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ قَالَ لَهُ : مَا مَنَعَكَ مِنَ السُّجُودِ؟ فَلَمْ يُجِبْ بِأَنَّ الَّذِي مَنَعَهُ مِنَ السُّجُودِ أَنَّهُ خُلِقَ مِنْ نَارٍ وَخُلِقَ
آدَمُ مِنْ طِينٍ ، وَلَكِنَّهُ ابْتَدَأَ خَبَرًا عَنْ نَفْسِهِ ، فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَوْضِعِ الْجَوَابِ فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=12أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ )