[ ص: 149 ] القول في تأويل قوله : ( أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين ( 155 ) )
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك .
فقال بعضهم : معنى ذلك : أتهلك هؤلاء الذين أهلكتهم بما فعل السفهاء منا ، أي : بعبادة من عبد العجل؟ قالوا : وكان الله إنما أهلكهم لأنهم كانوا ممن يعبد العجل . وقال موسى ما قال ، ولا علم عنده بما كان منهم من ذلك .
ذكر من قال ذلك :
15168 - حدثنا موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن : " السدي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا " ، فأوحى الله إلى موسى : إن هؤلاء السبعين ممن اتخذ العجل! فذلك حين يقول موسى : " إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء " .
وقال آخرون : معنى ذلك : إن إهلاكك هؤلاء الذين أهلكتهم ، هلاك لمن وراءهم من بني إسرائيل ، إذا انصرفت إليهم وليسوا معي و"السفهاء" على هذا القول ، كانوا المهلكين الذين سألوا موسى أن يريهم ربهم .
ذكر من قال ذلك :
15169 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : لما أخذت الرجفة السبعين فماتوا جميعا ، قام موسى يناشد ربه ويدعوه ويرغب [ ص: 150 ] إليه ، يقول : " رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي " ، قد سفهوا ، أفتهلك من ورائي من بني إسرائيل بما فعل السفهاء منا؟ أي : إن هذا لهم هلاك ، قد اخترت منهم سبعين رجلا الخير فالخير ، أرجع إليهم وليس معي رجل واحد! فما الذي يصدقونني به ، أو يأمنونني عليه بعد هذا؟
وقال آخرون في ذلك بما : -
15170 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " أتهلكنا بما فعل السفهاء منا " ، أتؤاخذنا وليس منا رجل واحد ترك عبادتك ، ولا استبدل بك غيرك؟
قال أبو جعفر : وأولى القولين بتأويل الآية ، قول من قال : إن موسى إنما حزن على هلاك السبعين بقوله : " أتهلكنا بما فعل السفهاء منا " ، وأنه إنما عنى ب"السفهاء" عبدة العجل . وذلك أنه محال أن يكون موسى صلى الله عليه وسلم كان تخير من قومه لمسألة ربه ما أراه أن يسأل لهم إلا الأفضل فالأفضل منهم ، ومحال أن يكون الأفضل كان عنده من أشرك في عبادة العجل واتخذه دون الله إلها .
قال : فإن قال قائل : فجائز أن يكون موسى عليه السلام كان معتقدا أن الله سبحانه يعاقب قوما بذنوب غيرهم ، فيقول : أتهلكنا بذنوب من عبد العجل ، ونحن من ذلك برآء؟ قيل : جائز أن يكون معنى "الإهلاك" قبض الأرواح على غير وجه العقوبة ، كما قال جل ثناؤه : ( إن امرؤ هلك ) ، [ سورة النساء : 176 ] يعني : مات فيقول : أتميتنا بما فعل السفهاء منا؟ [ ص: 151 ]
وأما قوله : " إن هي إلا فتنتك " ، فإنه يقول جل ثناؤه : ما هذه الفعلة التي فعلها قومي ، من عبادتهم ما عبدوا دونك ، إلا فتنة منك أصابتهم ويعني ب"الفتنة" ، الابتلاء والاختبار يقول : ابتليتهم بها ، ليتبين الذي يضل عن الحق بعبادته إياه ، والذي يهتدي بترك عبادته . وأضاف إضلالهم وهدايتهم إلى الله ، إذ كان ما كان منهم من ذلك عن سبب منه جل ثناؤه .
وبنحو ما قلنا في "الفتنة" قال جماعة من أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
15171 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبى ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : ( إن هي إلا فتنتك " ، ) قال : بليتك .
15172 - . . . . قال ، حدثنا حبويه الرازي ، عن يعقوب ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير : "إلا فتنتك" ، : إلا بليتك .
15173 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال ، أخبرنا أبو جعفر ، عن الربيع بن أنس : " إن هي إلا فتنتك " ، قال : بليتك .
15174 - . . . . قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء " ، إن هو إلا عذابك تصيب به من تشاء ، وتصرفه عمن تشاء . [ ص: 152 ]
15175 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " إن هي إلا فتنتك " ، أنت فتنتهم .
وقوله : " أنت ولينا " ، يقول : أنت ناصرنا . "فاغفر لنا" ، يقول : فاستر علينا ذنوبنا بتركك عقابنا عليها "وارحمنا" ، تعطف علينا برحمتك " وأنت خير الغافرين " ، يقول : خير من صفح عن جرم ، وستر على ذنب .