قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : قال ابن نوح لما دعاه نوح إلى أن يركب معه السفينة خوفا عليه من الغرق : ( سآوي إلى جبل يعصمني من الماء ) يقول : سأصير إلى جبل أتحصن به من الماء ، فيمنعني منه أن يغرقني .
ويعني بقوله : ( يعصمني ) يمنعني ، مثل "عصام القربة " ، الذي يشد به رأسها ، فيمنع الماء أن يسيل منها . [ ص: 332 ]
وقوله : ( لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم ) ، يقول : لا مانع اليوم من أمر الله الذي قد نزل بالخلق من الغرق والهلاك ، إلا من رحمنا فأنقذنا منه ، فإنه الذي يمنع من شاء من خلقه ويعصم .
ف "من" في موضع رفع ، لأن معنى الكلام : لا عاصم يعصم اليوم من أمر الله إلا الله .
وقد اختلف أهل العربية في موضع "من" في هذا الموضع .
فقال بعض نحويي الكوفة : هو في موضع نصب ، لأن المعصوم بخلاف العاصم ، والمرحوم معصوم . قال : كأن نصبه بمنزلة قوله : ( ما لهم به من علم إلا اتباع الظن ) [ سورة النساء : 157 ] ، قال : ومن استجاز : ( اتباع الظن ) ، والرفع في قوله :
وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس
لم يجز له الرفع في "من" ، لأن الذي قال : "إلا اليعافير" ، جعل أنيس البر ، اليعافير وما أشبهها . وكذلك قوله : ( إلا اتباع الظن ) ، يقول علمهم ظن . قال : وأنت لا يجوز لك في وجه أن تقول : "المعصوم " هو "عاصم " في حال ، ولكن لو جعلت "العاصم " في تأويل " معصوم" ، [ كأنك قلت ] : " لا معصوم اليوم من أمر الله" ، لجاز رفع "من" . قال : ولا ينكر أن يخرج "المفعول" على "فاعل" ، ألا ترى قوله : ( من ماء دافق ) ، [ سورة الطارق : 6 ] ، معناه ، والله [ ص: 333 ] أعلم : مدفوق وقوله : ( في عيشة راضية ) ، [ سورة الحاقة : 21 ] ، معناها : مرضية؟ قال الشاعر :
دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
ومعناه : المكسو .
وقال بعض نحويي البصرة : ( لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم ) ، على : "لكن من رحم" ، ويجوز أن يكون على : لا ذا عصمة : أي : معصوم ، ويكون ( إلا من رحم ) ، رفعا بدلا من "العاصم" .
قال أبو جعفر : ولا وجه لهذه الأقوال التي حكيناها عن هؤلاء ، لأن كلام الله تعالى إنما يوجه إلى الأفصح الأشهر من كلام من نزل بلسانه ، ما وجد إلى ذلك سبيل .
ولم يضطرنا شيء إلى أن نجعل "عاصما" في معنى "معصوم" ، ولا أن نجعل "إلا" بمعنى "لكن" ، إذ كنا نجد لذلك في معناها الذي هو معناه في المشهور من كلام العرب مخرجا صحيحا ، وهو ما قلنا من أن معنى ذلك : قال نوح : لا عاصم اليوم من أمر الله ، إلا من رحمنا فأنجانا من عذابه ، كما يقال : "لا منجي اليوم من عذاب الله إلا الله" " ولا مطعم اليوم من طعام زيد إلا زيد" . [ ص: 334 ] فهذا هو الكلام المعروف والمعنى المفهوم .
وقوله : ( وحال بينهما الموج فكان من المغرقين ) ، يقول : وحال بين نوح وابنه موج الماء فغرق ، فكان ممن أهلكه بالغرق من قوم نوح صلى الله عليه وسلم .