يقول تعالى ذكره : وتعاين الذين كفروا بالله ، فاجترموا في الدنيا الشرك يومئذ ، يعني : يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات . ( مقرنين في الأصفاد ) يقول : مقرنة أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم بالأصفاد ، وهي الوثاق من غل وسلسلة ، واحدها : صفد ، يقال منه : صفدته في الصفد صفدا وصفادا ، [ ص: 53 ] والصفاد : القيد ، ومنه قول عمرو بن كلثوم :
فآبوا بالنهاب وبالسبايا وأبنا بالملوك مصفدينا ومن جعل الواحد من ذلك صفادا جمعه : صفدا لا أصفادا ، وأما من العطاء ، فإنه يقال منه : أصفدته إصفادا ، كما قال الأعشى :
تضيفته يوما فأكرم مجلسي وأصفدني عند الزمانة قائدا وقد قيل في العطاء أيضا : صفدني صفدا ، كما قال النابغة الذبياني :
هذا الثناء فإن تسمع لقائله فما عرضت أبيت اللعن بالصفد وبنحو الذي قلنا في معنى قوله ( مقرنين في الأصفاد ) قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : ثني عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله ( مقرنين في الأصفاد ) يقول : في وثاق .
حدثني محمد بن عيسى الدامغاني ، قال : ثنا ابن المبارك ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : الأصفاد : السلاسل
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ( مقرنين في الأصفاد ) قال : مقرنين في القيود والأغلال .
[ ص: 54 ] حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا ، قال : سمعت علي بن هاشم بن البريد الأعمش ، يقول : الصفد : القيد .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله ( مقرنين في الأصفاد ) قال : صفدت فيها أيديهم وأرجلهم ورقابهم ، والأصفاد : الأغلال .
وقوله : ( سرابيلهم من قطران ) يقول : قمصهم التي يلبسونها ، واحدها : سربال ، كما قال امرؤ القيس :
لعوب تنسيني إذا قمت سربالي
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله ( سرابيلهم من قطران ) قال : السرابيل : القمص . وقوله : ( من قطران ) يقول : من القطران الذي يهنأ به الإبل ، وفيه لغات ثلاث : يقال : قطران وقطران بفتح القاف وتسكين الطاء منه . وقيل : إن عيسى بن عمر كان يقرأ "من قطران" بكسر القاف وتسكين الطاء ، ومنه قول أبي النجم :جون كأن العرق المنتوحا لبسه القطران والمسوحا بكسر القاف ، وقال أيضا :
كأن قطرانا إذا تلاها ترمي به الريح إلى مجراها [ ص: 55 ] بالكسر .
وبنحو ما قلناه في ذلك يقول من قرأ ذلك كذلك .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا عبد الوهاب ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن ( من قطران ) يعني : الخصخاص هناء الإبل .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الحسن ( من قطران ) قال : قطران الإبل .
وقال بعضهم : القطران : النحاس .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ، عن ابن جريج مجاهد ، قال : قطران : نحاس ، قال : قال ابن جريج ابن عباس ( من قطران ) نحاس .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قتادة ( من قطران ) قال : هي نحاس ، وبهذه القراءة : أعني بفتح القاف وكسر الطاء ، وتصيير ذلك كله كلمة واحدة ، قرأ ذلك جميع قراء الأمصار ، وبها نقرأ لإجماع الحجة من القراء عليه .
وقد روي عن بعض المتقدمين أنه كان يقرأ ذلك : "من قطر آن" بفتح القاف وتسكين الطاء وتنوين الراء وتصيير آن من نعته ، وتوجيه معنى القطر إلى أنه النحاس ، ومعنى الآن ، إلى أنه الذي قد انتهى حره في الشدة .
وممن كان يقرأ ذلك كذلك فيما ذكر لنا ، حدثني بذلك عكرمة مولى ابن عباس أحمد بن يوسف ، قال : ثنا القاسم ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا حصين عنه .
ذكر من تأول ذلك على هذه القراءة التأويل الذي ذكرت فيه حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد ، في قوله "سرابيلهم من قطر آن" قال : قطر ، والآن : الذي قد انتهى حره .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا داود بن مهران ، عن يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد بن جبير نحوه .
[ ص: 56 ] حدثني المثنى ، قال : ثنا إسحاق ، قال : ثنا هشام ، قال : ثنا يعقوب القمي ، عن جعفر ، عن سعيد ، بنحوه .
حدثني المثنى ، قال : ثنا إسحاق ، قال : ثنا عبد الرحمن بن أبي حماد ، قال : ثنا يعقوب القمي ، عن جعفر ، عن سعيد بن جبير أنه كان يقرأ "سرابيلهم من قطر آن" .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا عفان ، قال : ثنا المبارك بن فضالة ، قال : سمعت الحسن يقول : كانت العرب تقول للشيء إذا انتهى حره : قد أني حر هذا ، قد أوقدت عليه جهنم منذ خلقت فأني حرها .
حدثني المثنى ، قال : ثنا إسحاق ، قال : ثنا عبد الرحمن بن سعيد ، قال : ثنا أبو جعفر ، عن الربيع بن أنس في قوله "سرابيلهم من قطر آن" قال : القطر : النحاس ، والآن : يقول : قد أني حره ، وذلك أنه يقول : حميم آن .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا ، قال : ثنا عفان بن مسلم ثابت بن يزيد ، قال : ثنا هلال بن خباب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، في هذه الآية "سرابيلهم من قطر آن" قال : من نحاس ، قال : آن أني لهم أن يعذبوا به .
حدثني المثنى ، قال : ثنا ، قال : أخبرنا عمرو بن عون هشيم ، عن حصين ، عن عكرمة ، في قوله " من قطر آن" قال : الآني : الذي قد انتهى حره .
حدثني المثنى ، قال : ثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : " من قطر آن" قال : هو النحاس المذاب .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا عبد الوهاب بن عطاء ، عن سعيد ، عن قتادة " من قطر آن" يعني : الصفر المذاب .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن قتادة "سرابيلهم من قطر آن" قال : من نحاس .
حدثني المثنى ، قال : ثنا إسحاق ، قال : ثنا هشام ، قال : ثنا أبو حفص ، عن هارون ، عن قتادة أنه كان يقرأ " من قطر آن" قال : من صفر قد انتهى حره .
وكان الحسن يقرؤها "من قطر آن" .
وقوله : ( وتغشى وجوههم النار ) يقول : وتلفح وجوههم النار فتحرقها [ ص: 57 ] ( ليجزي الله كل نفس ما كسبت ) يقول : فعل الله ذلك بهم جزاء لهم بما كسبوا من الآثام في الدنيا ، كيما يثيب كل نفس بما كسبت من خير وشر ، فيجزي المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته ( إن الله سريع الحساب ) يقول : إن الله عالم بعمل كل عامل ، فلا يحتاج في إحصاء أعمالهم إلى عقد كف ولا معاناة ، وهو سريع حسابه لأعمالهم ، قد أحاط بها علما ، لا يعزب عنه منها شيء ، وهو مجازيهم على جميع ذلك صغيره وكبيره .