يقول تعالى ذكره : ولكم في هذه الأنعام والمواشي التي خلقها لكم ( جمال حين تريحون ) يعني : تردونها بالعشي من مسارحها إلى مراحها ومنازلها التي تأوي إليها ولذلك سمي المكان المراح ، لأنها تراح إليه عشيا فتأوي إليه ، يقال منه : أراح فلان ماشيته فهو يريحها إراحة ، وقوله : ( وحين تسرحون ) يقول : وفي وقت إخراجكموها غدوة من مراحها إلى مسارحها ، يقال منه : سرح فلان ماشيته يسرحها تسريحا ، إذا أخرجها للرعي غدوة ، وسرحت الماشية : إذا خرجت للمرعى تسرح سرحا وسروحا ، فالسرح بالغداة ، والإراحة بالعشي ، ومنه قول الشاعر :
كأن بقايا الأتن فوق متونه مدب الدبي فوق النقا وهو سارح وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله ( ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون ) وذلك [ ص: 170 ] أعجب ما يكون إذا راحت عظاما ضروعها ، طوالا أسنمتها ، وحين تسرحون إذا سرحت لرعيها .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ( ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون ) قال : إذا راحت كأعظم ما تكون أسنمة ، وأحسن ما تكون ضروعا .
وقوله : ( وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس ) يقول : وتحمل هذه الأنعام أثقالكم إلى بلد آخر لم تكونوا بالغيه إلا بجهد من أنفسكم شديد ، ومشقة عظيمة . كما حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : ثنا أبو أحمد ، قال : ثنا شريك ، عن جابر ، عن عكرمة ( وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس ) قال : لو تكلفونه لم تبلغوه إلا بجهد شديد .
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا عن يحيى بن آدم ، شريك ، عن سماك ، عن عكرمة ( إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس ) قال : لو كلفتموه لم تبلغوه إلا بشق الأنفس .
حدثني المثنى ، قال : ثنا الحماني ، قال : ثنا شريك ، عن سماك ، عن عكرمة ( إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس ) قال : البلد : مكة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء وحدثني المثنى ، قال : أخبرنا أبو حذيفة ، قال : ثنا شبل وحدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : ثنا عبد الله ، عن ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله ( إلا بشق الأنفس ) قال : مشقة عليكم .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن عن ابن جريج ، مجاهد ، مثله .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله ( وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس ) يقول : بجهد الأنفس .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، بنحوه .
[ ص: 171 ] واختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء الأمصار بكسر الشين ( إلا بشق الأنفس ) سوى أبي جعفر القارئ ، فإن المثنى حدثني ، قال : ثنا إسحاق ، قال : ثنا عبد الرحمن بن أبي حماد ، قال : ثني أبو سعيد الرازي ، عن أبي جعفر قارئ المدينة ، أنه كان يقرأ "لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس" بفتح الشين ، وكان يقول : إنما الشق : شق النفس . وقال ابن أبي حماد : وكان معاذ الهراء يقول : هي لغة ، تقول العرب بشق وبشق ، وبرق وبرق .
والصواب من القراءة في ذلك عندنا ما عليه قراء الأمصار وهي كسر الشين ، لإجماع الحجة من القراء عليه وشذوذ ما خالفه ، وقد ينشد هذا البيت بكسر الشين وفتحها ، وذلك قول الشاعر :
وذي إبل يسعى ويحسبها له أخي نصب من شقها ودءوب و"من شقها" أيضا بالكسر والفتح ، وكذلك قول العجاج :
أصبح مسحول يوازي شقا
و"شقا" بالفتح والكسر . ويعني بقوله "يوازي شقا" : يقاسي مشقة . وكان بعض أهل العربية يذهب بالفتح إلى المصدر من شققت عليه أشق شقا ، وبالكسر إلى الاسم . وقد يجوز أن يكون الذين قرءوا بالكسر أرادوا إلا بنقص من القوة وذهاب شيء منها حتى لا يبلغه إلا بعد نقصها ، فيكون معناه عند ذلك : لم تكونوا بالغيه إلا بشق قوى أنفسكم ، وذهاب شقها الآخر ، ويحكى عن العرب : خذ هذا الشق : لشقة الشاة بالكسر ، فأما في شقت عليك شقا فلم يحك فيه إلا النصب .وقوله : ( إن ربكم لرءوف رحيم ) يقول تعالى ذكره : إن ربكم أيها الناس ذو رأفة بكم ، ورحمة ، من رحمته بكم ، خلق لكم الأنعام لمنافعكم ومصالحكم ، وخلق السماوات والأرض أدلة لكم على وحدانية ربكم ومعرفة إلهكم ، [ ص: 172 ] لتشكروه على نعمه عليكم ، فيزيدكم من فضله .