يقول تعالى ذكره : لعل ربكم يا بني إسرائيل أن يرحمكم بعد انتقامه منكم بالقوم الذين يبعثهم الله عليكم ليسوء مبعثه عليكم وجوهكم ، وليدخلوا المسجد [ ص: 389 ] كما دخلوه أول مرة ، فيستنقذكم من أيديهم ، وينتشلكم من الذل الذي يحله بكم ، ويرفعكم من الخمولة التي تصيرون إليها ، فيعزكم بعد ذلك ، وعسى من الله : واجب ، وفعل الله ذلك بهم ، فكثر عددهم بعد ذلك ، ورفع خساستهم ، وجعل منهم الملوك والأنبياء ، فقال جل ثناؤه لهم : وإن عدتم يا معشر بني إسرائيل لمعصيتي وخلاف أمري ، وقتل رسلي ، عدنا عليكم بالقتل والسباء ، وإحلال الذل والصغار بكم ، فعادوا ، فعاد الله عليهم بعقابه وإحلال سخطه بهم .
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن عطية ، عن عمر بن ثابت ، عن أبيه ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، في قوله ( عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا ) قال : عادوا فعاد ، ثم عادوا فعاد ، ثم عادوا فعاد . قال : فسلط الله عليهم ثلاثة ملوك من ملوك فارس : سندبادان وشهربادان وآخر .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : قال الله تبارك وتعالى بعد الأولى والآخرة ( عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا ) قال : فعادوا فسلط الله عليهم المؤمنين .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قال ( عسى ربكم أن يرحمكم ) فعاد الله عليهم بعائدته ورحمته ( وإن عدتم عدنا ) قال : عاد القوم بشر ما يحضرهم ، فبعث الله عليهم ما شاء أن يبعث من نقمته وعقوبته ، ثم كان ختام ذلك أن بعث الله عليهم هذا الحي من العرب ، فهم في عذاب منهم إلى يوم القيامة; قال الله عز وجل في آية أخرى ( وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة ) . . . . الآية ، فبعث الله عليهم هذا الحي من العرب .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال ( عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا ) فعادوا ، فبعث الله عليهم محمدا صلى الله عليه وسلم ، فهم يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله [ ص: 390 ] تعالى ( عسى ربكم أن يرحمكم ) قال بعد هذا ( وإن عدتم ) لما صنعتم لمثل هذا من قتل يحيى وغيره من الأنبياء ( عدنا ) إليكم بمثل هذا .
وقوله ( وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا ) اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : وجعلنا جهنم للكافرين سجنا يسجنون فيها .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن مسعدة ، قال : ثنا جعفر بن سليمان ، عن أبي عمران ( وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا ) قال : سجنا .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله ( وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا ) يقول : جعل الله مأواهم فيها .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ( وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا ) قال : محبسا حصورا .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا ) يقول : سجنا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله تعالى ( حصيرا ) قال : يحصرون فيها .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن عن ابن جريج ، مجاهد ( وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا ) قال : يحصرون فيها .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله ( وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا ) سجنا يسجنون فيها حصروا فيها .
حدثنا علي بن داود ، قال : ثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله ( وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا ) يقول : سجنا .
وقال آخرون : معناه : وجعلنا جهنم للكافرين فراشا ومهادا .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، قال : قال الحسن : الحصير : فراش ومهاد ، وذهب الحسن [ ص: 391 ] بقوله هذا إلى أن الحصير في هذا الموضع عني به الحصير الذي يبسط ويفترش ، وذلك أن العرب تسمي البساط الصغير حصيرا ، فوجه الحسن معنى الكلام إلى أن الله تعالى جعل جهنم للكافرين به بساطا ومهادا ، كما قال ( لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش ) وهو وجه حسن وتأويل صحيح ، وأما الآخرون ، فوجهوه إلى أنه فعيل من الحصر الذي هو الحبس . وقد بينت ذلك بشواهده في سورة البقرة ، وقد تسمي العرب الملك حصيرا
بمعنى أنه محصور : أي محجوب عن الناس ، كما قال لبيد :
ومقامة غلب الرقاب كأنهم جن لدى باب الحصير قيام
يعني بالحصير : الملك ، ويقال للبخيل : حصور وحصر : لمنعه ما لديه من المال عن أهل الحاجة ، وحبسه إياه عن النفقة ، كما قال الأخطل :
وشارب مربح بالكأس نادمني لا بالحصور ولا فيها بسوار
ويروى : بسآر . ومنه الحصر في المنطق لامتناع ذلك عليه ، واحتباسه إذا أراده . ومنه أيضا الحصور عن النساء لتعذر ذلك عليه ، وامتناعه من الجماع ، وكذلك الحصر في الغائط : احتباسه عن الخروج ، وأصل ذلك كله واحد وإن اختلفت ألفاظه . فأما الحصيران : فالجنبان ، كما قال الطرماح :
قليلا تتلى حاجة ثم عوليت على كل مفروش الحصيرين بادن
يعني بالحصيرين : الجنبين . [ ص: 392 ]
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : معنى ذلك ( وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا ) فراشا ومهادا لا يزايله من الحصير الذي بمعنى البساط ، لأن ذلك إذا كان كذلك كان جامعا معنى الحبس والامتهاد ، مع أن الحصير بمعنى البساط في كلام العرب أشهر منه بمعنى الحبس ، وأنها إذا أرادت أن تصف شيئا بمعنى حبس شيئا ، فإنما تقول : هو له حاصر أو محصر ، فأما الحصير فغير موجود في كلامهم ، إلا إذا وصفته بأنه مفعول به ، فيكون في لفظ فعيل ، ومعناه مفعول به ، ألا ترى بيت لبيد : لدى باب الحصير؟ فقال : لدى باب الحصير ، لأنه أراد : لدى باب المحصور ، فصرف مفعولا إلى فعيل . فأما فعيل في الحصر بمعنى وصفه بأنه الحاصر . فذلك ما لا نجده في كلام العرب ، فلذلك قلت : قول الحسن أولى بالصواب في ذلك ، وقد زعم بعض أهل العربية من أهل البصرة أن ذلك جائز ، ولا أعلم لما قال وجها يصح إلا بعيدا وهو أن يقال : جاء حصير بمعنى حاصر ، كما قيل : عليم بمعنى عالم ، وشهيد بمعنى شاهد ، ولم يسمع ذلك مستعملا في الحاصر كما سمعنا في عالم وشاهد .