يقول تعالى ذكره : وإن تجهر يا محمد بالقول ، أو تخف به ، فسواء عند ربك الذي له ما في السموات وما في الأرض ( فإنه يعلم السر ) يقول : فإنه لا [ ص: 272 ] يخفى عليه ما استسررته في نفسك ، فلم تبده بجوارحك ولم تتكلم بلسانك ، ولم تنطق به وأخفي .
ثم اختلف أهل التأويل في المعني بقوله ( وأخفى ) فقال بعضهم : معناه :
وأخفى من السر ، قال : والذي هو أخفى من السر ما حدث به المرء نفسه ولم يعمله .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عمرو ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ( يعلم السر وأخفى ) قال : السر : ما عملته أنت وأخفى : ما قذف الله في قلبك مما لم تعمله .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثنى أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله ( يعلم السر وأخفى ) يعني بأخفى : ما لم يعمله ، وهو عامله; وأما السر : فيعني ما أسر في نفسه .
حدثني علي ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله ( يعلم السر وأخفى ) قال : السر : ما أسر ابن آدم في نفسه ، وأخفى : قال : ما أخفى ابن آدم مما هو فاعله قبل أن يعمله ، فالله يعلم ذلك ، فعلمه فيما مضى من ذلك ، وما بقي علم واحد ، وجميع الخلائق عنده في ذلك كنفس واحدة ، وهو قوله : ( ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة ) .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال قال ابن جريج ، سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : السر : ما أسر الإنسان في نفسه; وأخفى : ما لا يعلم الإنسان مما هو كائن .
حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ومحمد بن عمرو ، قالا ثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله ( يعلم السر وأخفى ) قال : أخفى : الوسوسة ، زاد ابن عمرو والحارث في حديثيهما : والسر : العمل الذي يسرون من الناس .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن عن ابن جريج ، مجاهد ( وأخفى ) قال : الوسوسة . [ ص: 273 ]
حدثنا هناد ، قال : ثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن عكرمة ، في قوله ( يعلم السر وأخفى ) قال : أخفى : حديث نفسك .
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا الحسين بن الحسن الأشقر ، قال : ثنا أبو كدينة ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، في قوله ( يعلم السر وأخفى ) قال : السر : ما يكون في نفسك اليوم ، وأخفى : ما يكون في غد وبعد غد ، لا يعلمه إلا الله .
وقال آخرون : بل معناه : وأخفى من السر ما لم تحدث به نفسك .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا الفضل بن الصباح ، قال : ثنا ابن فضيل ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير ، في قوله ( يعلم السر وأخفى ) قال : السر : ما أسررت في نفسك ، وأخفى من ذلك : ما لم تحدث به نفسك .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى ) كنا نحدث أن السر ما حدثت به نفسك ، وأن أخفى من السر : ما هو كائن مما لم تحدث به نفسك .
حدثنا قال : ثنا محمد بن بشار ، سليمان بن حرب ، قال : ثنا أبو هلال ، قال : ثنا قتادة ، في قوله ( يعلم السر وأخفى ) قال : يعلم ما أسررت في نفسك ، وأخفى : ما لم يكن هو كائن .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله ( يعلم السر وأخفى ) قال : أخفى من السر : ما حدثت به نفسك ، وما لم تحدث به نفسك أيضا مما هو كائن .
حدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله ( يعلم السر وأخفى ) أما السر : فما أسررت في نفسك ، وأما أخفى من السر : فما لم تعمله وأنت عامله ، يعلم الله ذلك كله .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : إنه يعلم سر العباد ، وأخفى سر نفسه ، فلم يطلع عليه أحدا .
ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : [ ص: 274 ] قال ابن زيد ، في قوله ( يعلم السر وأخفى ) قال : يعلم أسرار العباد ، وأخفى سره فلا يعلم .
قال أبو جعفر : وكأن الذين وجهوا ذلك إلى أن السر هو ما حدث به الإنسان غيره سرا ، وأن أخفى : معناه : ما حدث به نفسه ، وجهوا تأويل أخفى إلى الخفي . وقال بعضهم : قد توضع أفعل موضع الفاعل ، واستشهدوا لقيلهم ذلك بقول الشاعر :
تمنى رجال أن أموت وإن أمت فتلك طريق ، لست فيها بأوحد
والصواب من القول في ذلك ، قول من قال : معناه : يعلم السر وأخفى من السر ، لأن ذلك هو الظاهر من الكلام; ولو كان معنى ذلك ما تأوله ابن زيد ، لكان الكلام : وأخفى الله سره ، لأن أخفى : فعل واقع متعد ، إذ كان بمعنى فعل على ما تأوله ابن زيد ، وفي انفراد أخفى من مفعوله ، والذي يعمل فيه لو كان بمعنى فعل الدليل الواضح على أنه بمعنى أفعل . وأن تأويل الكلام : فإنه يعلم السر وأخفى منه . فإذا كان ذلك تأويله ، فالصواب من القول في معنى أخفى من السر أن يقال : هو ما علم الله مما أخفى عن العباد ، ولم يعلموه مما هو كائن ولم يكن ، لأن ما ظهر وكان فغير سر ، وأن ما لم يكن وهو غير كائن فلا شيء ، وأن ما لم يكن وهو كائن فهو أخفى من السر ، لأن ذلك لا يعلمه إلا الله ، ثم من أعلمه ذلك من عباده .
وأما قوله تعالى ذكره ( الله لا إله إلا هو ) فإنه يعني به : المعبود الذي لا تصلح العبادة إلا له ، يقول : فإياه فاعبدوا أيها الناس دون ما سواه من الآلهة والأوثان ( له الأسماء الحسنى ) يقول جل ثناؤه : لمعبودكم أيها الناس الأسماء الحسنى ، فقال : الحسنى ، فوحد ، وهو نعت للأسماء ، ولم يقل الأحاسن ، لأن الأسماء تقع عليها هذه ، فيقال : هذه أسماء ، وهذه في لفظة واحدة; ومنه قول الأعشى : [ ص: 275 ]
وسوف يعقبنيه إن ظفرت به رب غفور وبيض ذات أطهار
فوحد ذات ، وهو نعت للبيض لأنه يقع عليها هذه ، كما قال ( حدائق ذات بهجة ) ومنه قوله جل ثناؤه ( مآرب أخرى ) فوحد أخرى ، وهي نعت لمآرب ، والمآرب : جمع ، واحدتها : مأربة ، ولم يقل : أخر ، لما وصفنا ، ولو قيل : أخر ، لكان صوابا .