يقول تعالى ذكره ( ومن أعرض عن ذكري ) الذي أذكره به فتولى عنه ولم يقبله ولم يستجب له ، ولم يتعظ به فينزجر عما هو عليه مقيم من خلافه أمر ربه ( فإن له معيشة ضنكا ) يقول : فإن له معيشة ضيقة ، والضنك من المنازل والأماكن والمعايش الشديد ، يقال : هذا منزل ضنك : إذا كان ضيقا ، وعيش ضنك : الذكر والأنثى والواحد والاثنان والجمع بلفظ واحد; ومنه قول عنترة :
وإن نزلوا بضنك أنزل
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني علي قال : ثنا عبد الله قال : ثني معاوية عن علي عن ابن عباس قوله ( فإن له معيشة ضنكا ) يقول : الشقاء .
حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح عن [ ص: 391 ] مجاهد قوله ( ضنكا ) قال : ضيقة .
حدثنا الحسن قال : ثنا عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله ( فإن له معيشة ضنكا ) قال : الضنك : الضيق .
حدثنا ابن حميد قال : ثنا حكام عن عنبسة عن محمد بن عبد الرحمن عن القاسم بن أبي بزة عن مجاهد في قوله ( فإن له معيشة ضنكا ) يقول : ضيقة .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين قال : ثني حجاج عن عن ابن جريج مجاهد مثله .
واختلف أهل التأويل في الموضع الذي جعل الله لهؤلاء المعرضين عن ذكره العيشة الضنك والحال التي جعلهم فيها ، فقال بعضهم : جعل ذلك لهم في الآخرة في جهنم ، وذلك أنهم جعل طعامهم فيها الضريع والزقوم .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو بن علي بن مقدم قال : ثنا يحيى بن سعيد عن عوف عن الحسن في قوله : ( فإن له معيشة ضنكا ) قال : في جهنم .
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله ( ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ) فقرأ حتى بلغ ( ولم يؤمن بآيات ربه ) قال : هؤلاء أهل الكفر ، قال : ومعيشة ضنكا في النار شوك من نار وزقوم وغسلين ، والضريع : شوك من نار ، وليس في القبر ولا في الدنيا معيشة ، ما المعيشة والحياة إلا في الآخرة ، وقرأ قول الله عز وجل ( ياليتني قدمت لحياتي ) قال : لمعيشتي ، قال : والغسلين والزقوم : شيء لا يعرفه أهل الدنيا .
حدثنا الحسن قال : ثنا عبد الرزاق عن معمر عن قتادة ( فإن له معيشة ضنكا ) قال : في النار .
وقال آخرون : بل عنى بذلك : فإن له معيشة في الدنيا حراما قال : ووصف الله جل وعز معيشتهم بالضنك ، لأن الحرام وإن اتسع فهو ضنك .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن حميد قال : ثنا قال : ثنا يحيى بن واضح الحسين بن واقد عن يزيد عن عكرمة في قوله : ( معيشة ضنكا ) [ ص: 392 ] قال : هي المعيشة التي أوسع الله عليه من الحرام .
حدثني داود بن سليمان بن يزيد المكتب من أهل البصرة ، قال : ثنا عمرو بن جرير البجلي عن إسماعيل بن أبي خالد عن في قول الله ( قيس بن أبي حازم معيشة ضنكا ) قال : رزقا في معصيته .
حدثني عبد الأعلى بن واصل قال : ثنا يعلى بن عبيد ، قال : ثنا أبو بسطام ، عن الضحاك ( فإن له معيشة ضنكا ) قال : الكسب الخبيث .
حدثني محمد بن إسماعيل الصراري قال : ثنا محمد بن سوار قال : ثنا أبو اليقظان عمار بن محمد عن هارون بن محمد التيمي عن الضحاك في قوله ( فإن له معيشة ضنكا ) قال : العمل الخبيث ، والرزق السيئ .
وقال آخرون ممن قال عنى أن لهؤلاء القوم المعيشة الضنك في الدنيا ، إنما قيل لها ضنك وإن كانت واسعة لأنهم ينفقون ما ينفقون من أموالهم على تكذيب منهم بالخلف من الله ، وإياس من فضل الله ، وسوء ظن منهم بربهم ، فتشتد لذلك عليهم معيشتهم وتضيق .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله ( ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ) يقول : كل مال أعطيته عبدا من عبادي قل أو كثر لا يتقيني فيه ، لا خير فيه ، وهو الضنك في المعيشة . ويقال : إن قوما ضلالا أعرضوا عن الحق وكانوا أولي سعة من الدنيا مكثرين ، فكانت معيشتهم ضنكا ، وذلك أنهم كانوا يرون أن الله عز وجل ليس بمخلف لهم معايشهم من سوء ظنهم بالله والتكذيب به ، فإذا كان العبد يكذب بالله ، ويسيء الظن به ، اشتدت عليه معيشته ، فذلك الضنك .
وقال آخرون : بل عنى بذلك : أن ذلك لهم في البرزخ ، وهو عذاب القبر .
ذكر من قال ذلك :
حدثني يزيد بن مخلد الواسطي قال : ثنا عن خالد بن عبد الله عبد الرحمن بن إسحاق عن أبي حازم عن النعمان بن أبي عياش عن قال في قول الله ( أبي سعيد الخدري معيشة ضنكا ) قال : عذاب [ ص: 393 ] القبر .
حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع قال : ثنا بشر بن المفضل قال : ثنا عبد الرحمن بن إسحاق عن أبي حازم عن النعمان بن أبي عياش عن قال : إن المعيشة الضنك التي قال الله عذاب القبر . أبي سعيد الخدري
حدثني حوثرة بن محمد المنقري قال : ثنا سفيان عن أبي حازم عن أبي سلمة عن ( أبي سعيد الخدري فإن له معيشة ضنكا ) قال : يضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه .
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال : ثنا أبي وشعيب بن الليث عن الليث قال : ثنا خالد بن زيد عن ابن أبي هلال عن أبي حازم عن أبي سعيد أنه كان يقول : المعيشة الضنك : عذاب القبر ، إنه يسلط على الكافر في قبره تسعة وتسعون تنينا تنهشه وتخدش لحمه حتى يبعث ، وكان يقال : لو أن تنينا منها نفخ الأرض لم تنبت زرعا .
حدثنا مجاهد بن موسى قال : ثنا يزيد قال : ثنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن قال : يطبق على الكافر قبره حتى تختلف فيه أضلاعه ، وهي المعيشة الضنك التي قال الله ( أبي هريرة معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى ) .
حدثنا أبو كريب قال : ثنا جابر بن نوح عن إسماعيل بن أبي خالد عن أبي صالح في قوله ( والسدي معيشة ضنكا ) قال : عذاب القبر .
حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي قال : ثنا محمد بن عبيد قال : ثنا عن سفيان الثوري إسماعيل بن أبي خالد عن أبي صالح في قوله ( فإن له معيشة ضنكا ) قال : عذاب القبر .
حدثني قال : ثنا عبد الرحمن بن الأسود محمد بن ربيعة قال : ثنا أبو عميس عن عبد الله بن مخارق عن أبيه ، عن عبد الله في قوله ( معيشة ضنكا ) قال : عذاب القبر .
حدثني عبد الرحيم البرقي قال : ثنا ابن أبي مريم قال : ثنا محمد بن جعفر وابن أبي حازم قالا ثنا أبو حازم عن النعمان بن أبي عياش عن ( أبي سعيد الخدري معيشة ضنكا ) قال : عذاب القبر . [ ص: 394 ] قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : هو عذاب القبر الذي حدثنا به ، قال : ثنا عمي أحمد بن عبد الرحمن بن وهب قال : أخبرني عبد الله بن وهب عمرو بن الحارث عن دراج عن ابن حجيرة عن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : أبي هريرة " . " أتدرون فيم أنزلت هذه الآية ( فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى ) أتدرون ما المعيشة الضنك ؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : عذاب الكافر في قبره ، والذي نفسي بيده أنه ليسلط عليه تسعة وتسعون تنينا ، أتدرون ما التنين : تسعة وتسعون حية ، لكل حية سبعة رءوس ، ينفخون في جسمه ويلسعونه ويخدشونه إلى يوم القيامة
وإن الله تبارك وتعالى اتبع ذلك بقوله : ( ولعذاب الآخرة أشد وأبقى ) فكان معلوما بذلك أن المعيشة الضنك التي جعلها الله لهم قبل عذاب الآخرة ، لأن ذلك لو كان في الآخرة لم يكن لقوله : ( ولعذاب الآخرة أشد وأبقى ) معنى مفهوم ، لأن ذلك إن لم يكن تقدمه عذاب لهم قبل الآخرة ، حتى يكون الذي في الآخرة أشد منه ، بطل معنى قوله ( ولعذاب الآخرة أشد وأبقى ) ، فإذ كان ذلك كذلك ، فلا تخلو تلك المعيشة الضنك التي جعلها الله لهم من أن تكون لهم في حياتهم الدنيا ، أو في قبورهم قبل البعث ، إذ كان لا وجه لأن تكون في الآخرة لما قد بينا ، فإن كانت لهم في حياتهم الدنيا ، فقد يجب أن يكون كل من أعرض عن ذكر الله من الكفار ، فإن معيشته فيها ضنك ، وفي وجودنا كثيرا منهم أوسع معيشة من كثير من المقبلين على ذكر الله تبارك وتعالى ، القائلين له المؤمنين في ذلك ، ما يدل على أن ذلك ليس كذلك ، وإذ خلا القول في ذلك من هذين الوجهين صح الوجه الثالث ، وهو أن ذلك في البرزخ .
وقوله ( ونحشره يوم القيامة أعمى ) اختلف أهل التأويل في صفة العمى الذي ذكر الله في هذه الآية ، أنه يبعث هؤلاء الكفار يوم القيامة به ، فقال بعضهم : ذلك عمى عن الحجة ، لا عمى عن البصر .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي قال : ثنا محمد بن عبيد قال : ثنا ، عن سفيان الثوري إسماعيل بن أبي خالد عن أبي صالح [ ص: 395 ] في قوله : ( ونحشره يوم القيامة أعمى ) قال : ليس له حجة .
حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله : ( ونحشره يوم القيامة أعمى ) قال : عن الحجة .
حدثنا القاسم قال : ثنا الحسين قال : ثني حجاج عن عن ابن جريج مجاهد مثله ، وقيل : يحشر أعمى البصر .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك ما قال الله تعالى ذكره ، وهو أنه يحشر أعمى عن الحجة ورؤية الشيء كما أخبر جل ثناؤه ، فعم ولم يخصص .
وقوله ( قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا ) اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك . فقال بعضهم في ذلك ، ما حدثنا ابن بشار قال : ثنا عبد الرزاق عن ابن أبي نجيح عن مجاهد ( قال رب لم حشرتني أعمى ) لا حجة لي .
وقوله ( وقد كنت بصيرا ) اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معناه : وقد كنت بصيرا بحجتي .
ذكر من قال ذلك : حدثنا القاسم قال : ثنا الحسين قال : ثني حجاج عن عن ابن جريج مجاهد ( وقد كنت بصيرا ) قال : عالما بحجتي .
وقال آخرون . بل معناه : وقد كنت ذا بصر أبصر به الأشياء .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد ( وقد كنت بصيرا ) في الدنيا .
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد عن قتادة قوله ( قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا ) قال : كان بعيد البصر ، قصير النظر ، أعمى عن الحق .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندنا أن الله عز شأنه وجل ثناؤه عم بالخبر عنه بوصفه نفسه بالبصر ، ولم يخصص منه معنى دون [ ص: 396 ] معنى ، فذلك على ما عمه ، فإذا كان ذلك كذلك ، فتأويل الآية : قال رب لم حشرتني أعمى عن حجتي ورؤية الأشياء ، وقد كنت في الدنيا ذا بصر بذلك كله .
فإن قال قائل : وكيف قال هذا لربه ( لم حشرتني أعمى ) مع معاينته عظيم سلطانه ، أجهل في ذلك الموقف أن يكون لله أن يفعل به ما شاء ، أم ما وجه ذلك ؟ قيل : إن ذلك منه مسألة لربه يعرفه الجرم الذي استحق به ذلك ، إذ كان قد جهله ، وظن أن لا جرم له ، استحق ذلك به منه ، فقال : رب لأي ذنب ولأي جرم حشرتني أعمى ، وقد كنت من قبل في الدنيا بصيرا وأنت لا تعاقب أحدا إلا بدون ما يستحق منك من العقاب .
وقوله ( قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها ) يقول تعالى ذكره ، قال الله حينئذ للقائل له : ( لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا ) فعلت ذلك بك فحشرتك أعمى كما أتتك آياتي - وهي حججه وأدلته وبيانه الذي بينه في كتابه - فنسيتها : يقول : فتركتها وأعرضت عنها ، ولم تؤمن بها ، ولم تعمل . وعنى بقوله ( كذلك أتتك ) هكذا أتتك . وقوله : ( وكذلك اليوم تنسى ) يقول : فكما نسيت آياتنا في الدنيا ، فتركتها وأعرضت عنها ، فكذلك اليوم ننساك ، فنتركك في النار .
وقد اختلف أهل التأويل في معنى قوله ( وكذلك اليوم تنسى ) فقال بعضهم بمثل الذي قلنا في ذلك .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي قال ، ثنا محمد بن عبيد قال : ثنا عن سفيان الثوري إسماعيل بن أبي خالد عن أبي صالح في قوله ( وكذلك اليوم تنسى ) قال : في النار .
حدثنا الحسن قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله ( كذلك أتتك آياتنا فنسيتها ) قال : فتركتها ( وكذلك اليوم تنسى ) وكذلك اليوم تترك في النار .
وروي عن قتادة في ذلك ما حدثني بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد عن قتادة ( قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى ) قال : نسي من الخير ، ولم ينس من الشر . وهذا القول الذي قاله قتادة قريب المعنى مما [ ص: 397 ] قاله أبو صالح ومجاهد لأن تركه إياهم في النار أعظم الشر لهم .