القول في تأويل قوله تعالى : ( وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت    ) 
قال أبو جعفر   : اختلف أهل العلم في تأويل "ما" التي في قوله : ( وما أنزل على الملكين   ) . فقال بعضهم : معناه الجحد ، وهي بمعنى "لم" . 
ذكر من قال ذلك : 
1670 - حدثني محمد بن سعد  قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس  قوله : ( وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت   ) فإنه يقول : لم ينزل الله السحر  . 
1671 - حدثنا ابن حميد  قال : حدثني حكام ،  عن أبي جعفر  ، عن الربيع بن أنس   : ( وما أنزل على الملكين   ) ، قال : ما أنزل الله عليهما السحر . 
فتأويل الآية - على هذا المعنى الذي ذكرناه عن ابن عباس  والربيع ،  من توجيههما معنى قوله : ( وما أنزل على الملكين   ) إلى : ولم ينزل على الملكين - : واتبعوا الذي تتلو الشياطين على ملك سليمان من السحر ، وما كفر سليمان ، ولا أنزل الله السحر على الملكين ، ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر "ببابل هاروت وماروت" . فيكون حينئذ قوله : " ( ببابل هاروت وماروت   ) ، من المؤخر الذي معناه التقديم .  [ ص: 420 ] 
فإن قال لنا قائل : وكيف - وجه تقديم ذلك؟ 
قيل : وجه تقديمه أن يقال : واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان   [ من السحر ] ، وما أنزل [ الله السحر ] على الملكين ، ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل ،  هاروت  وماروت   - فيكون معنيا ب "الملكين" : جبريل  وميكائيل ،  لأن سحرة اليهود ،  فيما ذكر ، كانت تزعم أن الله أنزل السحر على لسان جبريل  وميكائيل  إلى سليمان بن داود ،  فأكذبها الله بذلك ، وأخبر نبيه محمدا  صلى الله عليه وسلم أن جبريل  وميكائيل  لم ينزلا بسحر قط ، وبرأ سليمان  مما نحلوه من السحر ، فأخبرهم أن السحر من عمل الشياطين ، وأنها تعلم الناس [ ذلك ] ببابل  ، وأن اللذين يعلمانهم ذلك رجلان : اسم أحدهما هاروت ،  واسم الآخر ماروت   . فيكون " هاروت  وماروت   " ، على هذا التأويل ، ترجمة على "الناس" وردا عليهم . 
وقال آخرون : بل تأويل "ما" التي في قوله : ( وما أنزل على الملكين   ) - "الذي" . 
ذكر من قال ذلك : 
1672 - حدثنا الحسن بن يحيى  قال : أخبرنا عبد الرزاق  قال : قال معمر  ، قال قتادة   والزهري  عن عبد الله   : ( وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت   ) ، كانا ملكين من الملائكة ، فأهبطا ليحكما بين الناس ، وذلك أن الملائكة سخروا من أحكام بني آدم   . قال : فحاكمت إليهما امرأة فحافا لها ، ثم ذهبا يصعدان ، فحيل بينهما وبين ذلك ، وخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، فاختارا عذاب الدنيا . قال معمر ،  قال قتادة   : فكانا يعلمان الناس السحر ، فأخذ عليهما أن لا يعلما أحدا حتى يقولا : "إنما نحن فتنة فلا تكفر" .  [ ص: 421 ] 
1673 - حدثني موسى  قال : حدثنا عمرو  قال : حدثنا أسباط  ، عن  السدي   : أما قوله : ( وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت   ) ، فهذا سحر آخر خاصموه به أيضا . يقول : خاصموه بما أنزل على الملكين ، وأن كلام الملائكة فيما بينهم ، إذا علمته الإنس فصنع وعمل به ، كان سحرا . 
1674 - حدثنا بشر بن معاذ  قال : حدثنا يزيد  قال : حدثنا سعيد ،  عن قتادة  قوله : ( يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت   ) . فالسحر سحران : سحر تعلمه الشياطين ، وسحر يعلمه هاروت  وماروت   . 
1675 - حدثني المثنى  قال : حدثنا عبد الله بن صالح  قال : حدثني معاوية بن صالح  ، عن علي بن أبي طلحة  ، عن ابن عباس  قوله : ( وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت   ) ، قال : التفريق بين المرء وزوجه . 
1676 - حدثني يونس  قال : أخبرنا ابن وهب  قال : قال ابن زيد   : ( ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين   ) ، فقرأ حتى بلغ : ( فلا تكفر ) ، قال : الشياطين والملكان يعلمون الناس السحر . 
قال أبو جعفر   : فمعنى الآية على تأويل هذا القول الذي ذكرنا عمن ذكرناه عنه : واتبعت اليهود  الذي تلت الشياطين في ملك سليمان  الذي أنزل على الملكين ببابل  وهاروت  وماروت  ، وهما ملكان من ملائكة الله ، سنذكر ما روي من الأخبار في شأنهما إن شاء الله تعالى . 
قال أبو جعفر  إن قال لنا قائل : وهل يجوز أن ينزل الله السحر ، أم  [ ص: 422 ] هل يجوز لملائكته أن تعلمه الناس ؟ 
قلنا له : إن الله عز وجل قد أنزل الخير والشر كله ، وبين جميع ذلك لعباده ، فأوحاه إلى رسله ، وأمرهم بتعليم خلقه وتعريفهم ما يحل لهم مما يحرم عليهم . وذلك كالزنا والسرقة وسائر المعاصي التي عرفهموها ، ونهاهم عن ركوبها . فالسحر أحد تلك المعاصي التي أخبرهم بها ، ونهاهم عن العمل بها . 
وليس في العلم بالسحر  إثم ، كما لا إثم في العلم بصنعة الخمر ونحت الأصنام والطنابير والملاعب . وإنما الإثم في عمله وتسويته . وكذلك لا إثم في العلم بالسحر ، وإنما الإثم في العمل به ، وأن يضر به ، من لا يحل ضره به . 
فليس في إنزال الله إياه على الملكين ، ولا في تعليم الملكين من علماه من الناس ، إثم ، إذ كان تعليمهما من علماه ذلك ، بإذن الله لهما بتعليمه ، بعد أن يخبراه بأنهما فتنة ، وينهاه عن السحر والعمل به والكفر . وإنما الإثم على من يتعلمه منهما ويعمل به ، إذ كان الله تعالى ذكره قد نهاه عن تعلمه والعمل به . ولو كان الله أباح لبني آدم  أن يتعلموا ذلك ، لم يكن من تعلمه حرجا ، كما لم يكونا حرجين لعلمهما  [ ص: 423 ] به؛ إذ كان علمهما بذلك عن تنزيل الله إليهما . 
وقال آخرون : معنى "ما" معنى "الذي" ، وهي عطف على "ما" الأولى . غير أن الأولى في معنى السحر ، والآخرة في معنى التفريق بين المرء وزوجه . 
فتأويل الآية على هذا القول : واتبعوا السحر الذي تتلو الشياطين في ملك سليمان  ، والتفريق الذي بين المرء وزوجه الذي أنزل على الملكين ببابل  هاروت  وماروت   . 
ذكر من قال ذلك : 
1677 - حدثني المثنى  قال : حدثنا أبو حذيفة  قال : حدثنا شبل  ، عن ابن أبي نجيح ،  عن مجاهد   : ( وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت   ) ، وهما يعلمان ما يفرقون به بين المرء وزوجه ، وذلك قول الله جل ثناؤه : ( وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا   ) . وكان يقول : أما السحر ، فإنما يعلمه الشياطين ، وأما الذي يعلم الملكان ، فالتفريق بين المرء وزوجه ، كما قال الله تعالى  . 
وقال آخرون : جائز أن تكون "ما" بمعنى "الذي" ، وجائز أن تكون "ما" بمعنى "لم" . 
ذكر من قال ذلك : 
1678 - حدثني  يونس بن عبد الأعلى  قال : أخبرنا ابن وهب  قال : حدثني الليث بن سعد  ، عن يحيى بن سعيد  ، عن  القاسم بن محمد   - وسأله رجل عن قول الله : ( يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت   ) فقال الرجل : يعلمان الناس ما أنزل عليهما ، أم يعلمان الناس ما لم ينزل عليهما؟ قال القاسم   : ما أبالي أيتهما كانت . 
1679 - حدثني  يونس بن عبد الأعلى  قال : حدثنا أنس بن عياض  ، عن  [ ص: 424 ] بعض أصحابه ، أن  القاسم بن محمد  سئل عن قول الله تعالى ذكره : ( وما أنزل على الملكين   ) ، فقيل له : أأنزل أو لم ينزل؟ فقال : لا أبالي أي ذلك كان ، إلا أني آمنت به  . . 
قال أبو جعفر   : والصواب من القول في ذلك عندي ، قول من وجه "ما" التي في قوله : ( وما أنزل على الملكين   ) إلى معنى "الذي" ، دون معنى "ما" التي هي بمعنى الجحد . وإنما اخترت ذلك ، من أجل أن "ما" إن وجهت إلى معنى الجحد ، تنفي عن "الملكين" أن يكونا منزلا إليهما ، ولم يخل الاسمان اللذان بعدهما - أعني "هاروت وماروت" - من أن يكونا بدلا منهما وترجمة عنهما أو بدلا من "الناس" في قوله : ( يعلمون الناس السحر   ) ، وترجمة عنهم . فإن جعلا بدلا من "الملكين" وترجمة عنهما ، بطل معنى قوله : ( وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه   ) ؛ لأنهما إذا لم يكونا عالمين بما يفرق به بين المرء وزوجه ، فما الذي يتعلم منهما من يفرق بين المرء وزوجه؟  [ ص: 425 ] 
وبعد ، فإن "ما" التي في قوله : ( وما أنزل على الملكين   ) ، إن كانت في معنى الجحد عطفا على قوله : ( وما كفر سليمان   ) ، فإن الله جل ثناؤه نفى بقوله : ( وما كفر سليمان   ) ، عن سليمان  أن يكون السحر من عمله أو من علمه أو تعليمه ، فإن كان الذي نفي عن الملكين من ذلك نظير الذي نفي عنسليمان  منه - وهاروت  وماروت  هما الملكان - فمن المتعلم منه إذا ما يفرق به بين المرء وزوجه؟ وعمن الخبر الذي أخبر عنه بقوله : ( وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر   ) ؟ إن خطأ هذا القول لواضح بين . 
وإن كان قوله "هاروت وماروت" ترجمة عن "الناس" الذين في قوله : ( ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر   ) ، فقد وجب أن تكون الشياطين هي التي تعلم هاروت  وماروت  السحر ، وتكون السحرة إنما تعلمت السحر من هاروت  وماروت  عن تعليم الشياطين إياهما! فإن يكن ذلك كذلك ، فلن يخلو "هاروت وماروت" - عند قائل هذه المقالة - من أحد أمرين : 
إما أن يكونا ملكين ، فإن كانا عنده ملكين ، فقد أوجب لهما من الكفر بالله والمعصية له بنسبته إياهما إلى أنهما يتعلمان من الشياطين السحر ويعلمانه الناس ، وإصرارهما على ذلك ومقامهما عليه - أعظم مما ذكر عنهما أنهما أتياه من المعصية التي استحقا عليها العقاب! وفي خبر الله عز وجل عنهما - أنهما لا يعلمان أحدا ما يتعلم منهما حتى يقولا ( إنما نحن فتنة فلا تكفر   ) - ما يغني عن الإكثار في الدلالة على خطأ هذا القول . 
أو أن يكونا رجلين من بني آدم   . فإن يكن ذلك كذلك ، فقد كان يجب أن يكونا بهلاكهما قد ارتفع السحر والعلم به والعمل - من بني آدم  ؛ لأنه إذا كان علم ذلك من قبلهما يؤخذ ومنهما يتعلم ، فالواجب أن يكون بهلاكهما وعدم وجودهما ، عدم السبيل إلى الوصول إلى المعنى الذي كان لا يوصل إليه إلا بهما .  [ ص: 426 ] وفي وجود السحر في كل زمان ووقت ، أبين الدلالة على فساد هذا القول . وقد يزعم قائل ذلك أنهما رجلان من بني آدم  ، لم يعدما من الأرض منذ خلقت ، ولا يعدمان بعدما وجد السحر في الناس ، فيدعي ما لا يخفى بطوله . 
فإذ فسدت هذه الوجوه التي دللنا على فسادها ، فبين أن معنى ( ما ) التي في قوله : ( وما أنزل على الملكين   ) بمعنى "الذي" ، وأن "هاروت وماروت" ، مترجم بهما عن الملكين ، ولذلك فتحت أواخر أسمائهما ، لأنهما في موضع خفض على الرد على "الملكين" . ولكنهما لما كانا لا يجران ، فتحت أواخر أسمائهما . 
فإن التبس على ذي غباء ما قلنا فقال : وكيف يجوز لملائكة الله أن تعلم الناس التفريق بين المرء وزوجه؟ أم كيف يجوز أن يضاف إلى الله تبارك وتعالى إنزال ذلك على الملائكة؟ 
قيل له : إن الله - جل ثناؤه - عرف عباده جميع ما أمرهم به وجميع ما نهاهم عنه ، ثم أمرهم ونهاهم بعد العلم منهم بما يؤمرون به وينهون عنه . ولو كان الأمر على غير ذلك ، لما كان للأمر والنهي معنى مفهوم . فالسحر مما قد نهى عباده من بني آدم  عنه ، فغير منكر أن يكون - جل ثناؤه - علمه الملكين اللذين سماهما في تنزيله ، وجعلهما فتنة لعباده من بني آدم   - كما أخبر عنهما أنهما يقولان لمن يتعلم ذلك منهما : ( إنما نحن فتنة فلا تكفر   ) - ليختبر بهما عباده الذين نهاهم عن التفريق بين المرء وزوجه ، وعن السحر ، فيمحص المؤمن بتركه التعلم منهما ، ويخزي الكافر بتعلمه السحر والكفر منهما ، ويكون الملكان في تعليمهما من علما ذلك - لله مطيعين ، إذ كانا عن إذن الله لهما بتعليم ذلك من علماه يعلمان . وقد عبد من دون الله جماعة من أولياء الله ، فلم يكن ذلك لهم ضائرا ،  [ ص: 427 ] إذ لم يكن ذلك بأمرهم إياهم به ، بل عبد بعضهم والمعبود عنه ناه ، فكذلك الملكان ، غير ضائرهما سحر من سحر ممن تعلم ذلك منهما ، بعد نهيهما إياه عنه ، وعظتهما له بقولهما : ( إنما نحن فتنة فلا تكفر   ) ، إذ كانا قد أديا ما أمرا به بقيلهما ذلك ، كما : - 
1680 - حدثنا  محمد بن بشار  قال : حدثنا يحيى بن سعيد  ، عن عوف  ، عن الحسن  في قوله : ( وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت   ) إلى قوله : ( فلا تكفر ) ، أخذ عليهما ذلك . 
ذكر بعض الأخبار التي في بيان الملكين ، ومن قال إن هاروت  وماروت  هما الملكان اللذان ذكر الله جل ثناؤه في قوله : ( ببابل ) : 
1681 - حدثنا  محمد بن بشار  قال : حدثنا  معاذ بن هشام  قال : حدثني أبي ، عن قتادة  قال : حدثنا أبو شعبة العدوي  في جنازة يونس بن جبير أبي غلاب  ، عن ابن عباس  قال : إن الله أفرج السماء لملائكته ينظرون إلى أعمال بني آدم  ، فلما أبصروهم يعملون الخطايا قالوا : يا رب ، هؤلاء بنو آدم  الذي خلقته بيدك ، وأسجدت له ملائكتك ، وعلمته أسماء كل شيء ، يعملون بالخطايا! قال : أما إنكم لو كنتم مكانهم لعملتم مثل أعمالهم . قالوا : سبحانك ما كان ينبغي لنا! قال : فأمروا أن يختاروا من يهبط إلى الأرض ، قال : فاختاروا هاروت  وماروت   . فأهبطا إلى الأرض ، وأحل لهما ما فيها من شيء ، غير أن لا يشركا بالله شيئا ولا يسرقا ، ولا يزنيا ، ولا يشربا الخمر ، ولا يقتلا النفس التي حرم الله إلا بالحق . قال : فما استمرا حتى عرض لهما امرأة قد قسم لها نصف الحسن ، يقال لها : " بيذخت   " فلما أبصراها أرادا بها زنا ، فقالت : لا إلا أن تشركا بالله ، وتشربا الخمر ، وتقتلا النفس ، وتسجدا لهذا الصنم! فقالا : ما كنا لنشرك بالله شيئا! فقال أحدهما  [ ص: 428 ] للآخر : ارجع إليها . فقالت : لا إلا أن تشربا الخمر ، فشربا حتى ثملا ودخل عليهما سائل فقتلاه ، فلما وقعا فيما وقع من الشر ، أفرج الله السماء لملائكته ، فقالوا : سبحانك! كنت أعلم! قال : فأوحى الله إلى سليمان بن داود  أن يخيرهما بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، فاختارا عذاب الدنيا ، فكبلا من أكعبهما إلى أعناقهما بمثل أعناق البخت ، وجعلا ببابل   . 
1682 - حدثني المثنى  قال : حدثنا الحجاج بن المنهال  قال : حدثنا حجاج  ، عن علي بن زيد  ، عن  أبي عثمان النهدي  ، عن ابن مسعود   وابن عباس  أنهما قالا : لما كثر بنو آدم  وعصوا ، دعت الملائكة عليهم والأرض والسماء والجبال : ربنا ألا تهلكهم! فأوحى الله إلى الملائكة : إني لو أنزلت الشهوة والشيطان من قلوبكم ونزلتم لفعلتم أيضا! قال : فحدثوا أنفسهم أن لو ابتلوا اعتصموا ، فأوحى الله إليهم : أن اختاروا ملكين من أفضلكم ، فاختاروا هاروت وماروت ، فأهبطا إلى الأرض ، وأنزلت الزهرة إليهما في صورة امرأة من أهل فارس  ، وكان أهل فارس  يسمونها " بيذخت   " . قال : فوقعا بالخطيئة ، فكانت الملائكة يستغفرون للذين آمنوا . ( ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا   ) . فلما وقعا بالخطيئة ، استغفروا لمن في الأرض ، ألا إن الله هو الغفور الرحيم . فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، فاختارا عذاب الدنيا  .  [ ص: 429 ] 
1683 - حدثني المثنى  قال : حدثني الحجاج  قال : حدثنا حماد  ، عن خالد الحذاء  ، عن عمير بن سعيد  قال ، سمعت عليا  يقول : كانت الزهرة امرأة جميلة من أهل فارس  ، وأنها خاصمت إلى الملكين هاروت  وماروت ،  فراوداها عن نفسها ، فأبت إلا أن يعلماها الكلام الذي إذا تكلم به يعرج به إلى السماء . فعلماها ، فتكلمت به ، فعرجت إلى السماء ، فمسخت كوكبا  . 
1684 - حدثنا  محمد بن بشار   ومحمد بن المثنى  قالا : حدثنا  مؤمل بن إسماعيل   - وحدثنا الحسن بن يحيى  قال : أخبرنا عبد الرزاق   - جميعا ، عن الثوري  ، عن  موسى بن عقبة  ، عن سالم  ، عن ابن عمر  ، عن كعب  قال : ذكرت الملائكة أعمال بني آدم  وما يأتون من الذنوب ، فقيل لهم : اختاروا منكم اثنين - وقال الحسن بن يحيى  في حديثه : اختاروا ملكين - فاختاروا هاروت  وماروت  ، فقيل لهما : إني أرسل إلى بني آدم  رسلا وليس بيني وبينكم رسول ، انزلا لا تشركا بي شيئا ، ولا تزنيا ، ولا تشربا الخمر . قال كعب   : فوالله ما أمسيا من يومهما الذي أهبطا فيه إلى الأرض حتى استكملا جميع ما نهيا عنه - وقال الحسن بن يحيى  في حديثه : فما استكملا يومهما الذي أنزلا فيه حتى عملا ما حرم الله عليهما  .  [ ص: 430 ] 
1685 - حدثني المثنى  قال : حدثنا معلى بن أسد  قال : حدثنا عبد العزيز بن المختار  ، عن  موسى بن عقبة  قال : حدثني سالم  أنه سمع عبد الله  يحدث عن كعب الأحبار  أنه حدث : أن الملائكة أنكروا أعمال بني آدم  وما يأتون في الأرض من المعاصي ، فقال الله لهم : إنكم لو كنتم مكانهم أتيتم ما يأتون من الذنوب ، فاختاروا منكم ملكين . فاختاروا هاروت وماروت ، فقال الله لهما : إني أرسل رسلي إلى الناس ، وليس بيني وبينكما رسول ، انزلا إلى الأرض ، ولا تشركا بي شيئا ، ولا تزنيا . فقال كعب   : والذي نفس كعب  بيده ، ما استكملا يومهما الذي نزلا فيه حتى أتيا ما حرم الله عليهما  .  [ ص: 431 ] 
1686 - حدثني موسى بن هارون  قال : حدثنا عمرو  قال : حدثنا أسباط  ، عن  السدي   : أنه كان من أمر هاروت  وماروت   أنهما طعنا على أهل الأرض في أحكامهم ، فقيل لهما : إني أعطيت ابن آدم  عشرا من الشهوات ، فبها يعصونني . قال هاروت  وماروت   : ربنا ، لو أعطيتنا تلك الشهوات ثم نزلنا لحكمنا بالعدل ، فقال لهما : انزلا فقد أعطيتكما تلك الشهوات العشر ، فاحكما بين الناس . فنزلا ببابل  دنباوند ، فكانا يحكمان ، حتى إذا أمسيا عرجا فإذا أصبحا هبطا ، فلم يزالا كذلك حتى أتتهما امرأة تخاصم زوجها ، فأعجبهما حسنها - واسمها بالعربية ، " الزهرة   " ، وبالنبطية "بيذخت" ، واسمها بالفارسية "أناهيذ" - فقال أحدهما لصاحبه : إنها لتعجبني! فقال الآخر : قد أردت أن أذكر لك فاستحييت منك! فقال : الآخر : هل لك أن أذكرها لنفسها؟ قال : نعم ، ولكن كيف لنا بعذاب الله؟ قال الآخر : إنا نرجو رحمة الله! فلما جاءت تخاصم زوجها ذكرا إليها نفسها ، فقالت : لا حتى تقضيا لي على زوجي ، فقضيا لها على زوجها ، ثم واعدتهما خربة من الخرب يأتيانها فيها ، فأتياها لذلك ، فلما أراد الذي يواقعها ، قالت : ما أنا بالذي أفعل حتى تخبراني بأي كلام تصعدان إلى السماء ، وبأي كلام تنزلان منها؟ فأخبراها ، فتكلمت فصعدت ، فأنساها الله ما تنزل به فبقيت مكانها ، وجعلها الله كوكبا - فكان عبد الله بن عمر  كلما رآها لعنها وقال : هذه التي فتنت هاروت  وماروت   ! - فلما كان الليل أرادا أن يصعدا فلم يستطيعا ، فعرفا الهلك ، فخيرا بين عذاب الدنيا والآخرة ، فاختارا عذاب الدنيا من عذاب الآخرة ، فعلقا ببابل ،  فجعلا يكلمان الناس كلامهما ، وهو السحر  . 
1687 - حدثني المثنى بن إبراهيم  قال : حدثنا إسحاق  قال : حدثنا ابن أبي جعفر  ، عن أبيه ، عن الربيع  قال : لما وقع الناس من بعد آدم  فيما وقعوا فيه من  [ ص: 432 ] المعاصي والكفر بالله ، قالت الملائكة في السماء : أي رب ، هذا العالم إنما خلقتهم لعبادتك وطاعتك ، وقد ركبوا الكفر ، وقتل النفس الحرام ، وأكل المال الحرام ، والسرقة ، والزنا ، وشرب الخمر! فجعلوا يدعون عليهم ولا يعذرونهم ، فقيل لهم : إنهم في غيب؛ فلم يعذروهم ، فقيل لهم : اختاروا منكم ملكين آمرهما بأمري وأنهاهما عن معصيتي ، فاختاروا هاروت  وماروت  ، فأهبطا إلى الأرض ، وجعل بهما شهوات بني آدم  ، وأمرا أن يعبدا الله ولا يشركا به شيئا ، ونهيا عن قتل النفس الحرام ، وأكل المال الحرام ، والسرقة ، والزنا ، وشرب الخمر ، فلبثا على ذلك في الأرض زمانا يحكمان بين الناس بالحق - وذلك في زمان إدريس   . وفي ذلك الزمان امرأة حسنها في سائر الناس كحسن الزهرة في سائر الكواكب ، وأنها أتت عليهما ، فخضعا لها بالقول ، وأراداها على نفسها ، وأنها أبت إلا أن يكونا على أمرها ودينها ، وأنهما سألاها عن دينها التي هي عليه ، فأخرجت لهما صنما وقالت : هذا أعبد . فقالا : لا حاجة لنا في عبادة هذا! فذهبا فغبرا ما شاء الله ، ثم أتيا عليها فخضعا لها بالقول وأراداها على نفسها ، فقالت : لا إلا أن تكونا على ما أنا عليه . فقالا : لا حاجة لنا في عبادة هذا! فلما رأت أنهما أبيا أن يعبدا الصنم ، قالت لهما : اختارا إحدى الخلال الثلاث : إما أن تعبدا الصنم ، أو تقتلا النفس ، أو تشربا الخمر . فقالا : كل هذا لا ينبغي ، وأهون الثلاثة شرب الخمر ، فسقتهما الخمر ، حتى إذا أخذت الخمر فيهما وقعا بها ، فمر بهما إنسان ، وهما في ذلك ، فخشيا أن يفشي عليهما فقتلاه . فلما أن ذهب عنهما السكر ، عرفا ما وقعا فيه من الخطيئة ، وأرادا أن يصعدا إلى السماء ، فلم يستطيعا ،  [ ص: 433 ] فحيل بينهما وبين ذلك ، وكشف الغطاء بينهما وبين أهل السماء ، فنظرت الملائكة إلى ما وقعا فيه من الذنب ، فعجبوا كل العجب ، وعلموا أن من كان في غيب فهو أقل خشية فجعلوا بعد ذلك يستغفرون لمن في الأرض - وأنهما لما وقعا فيما وقعا فيه من الخطيئة ، قيل لهما : اختارا عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة! فقالا : أما عذاب الدنيا فإنه ينقطع ، وأما عذاب الآخرة فلا انقطاع له؛ فاختارا عذاب الدنيا ، فجعلا ببابل ، فهما يعذبان  . 
1688 - حدثنا القاسم  قال : حدثنا الحسين  قال : حدثنا فرج بن فضالة  ، عن معاوية بن صالح  ، عن نافع  قال : سافرت مع ابن عمر  ، فلما كان من آخر الليل قال : يا نافع  انظر ، طلعت الحمراء؟ قلت : لا - مرتين أو ثلاثا - ثم قلت : قد طلعت! قال : لا مرحبا ولا أهلا! قلت : سبحان الله ، نجم مسخر سامع مطيع! قال : ما قلت لك إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم  "إن الملائكة قالت : يا رب ، كيف صبرك على بني آدم  في الخطايا والذنوب؟ قال : إني ابتليتهم وعافيتكم ، قالوا : لو كنا مكانهم ما عصيناك! قال : فاختاروا ملكين منكم! قال : فلم يألوا أن يختاروا ، فاختاروا هاروت  وماروت   .  [ ص: 434 ] 
1689 - حدثني المثنى  قال : حدثنا أبو حذيفة  قال : حدثنا شبل  ، عن ابن أبي نجيح  ، عن مجاهد   : وأما شأن هاروت  وماروت  ، فإن الملائكة عجبت من ظلم بني آدم ،  وقد جاءتهم الرسل والكتب والبينات . فقال لهم ربهم : اختاروا منكم ملكين أنزلهما يحكمان في الأرض بين بني آدم   . فاختاروا هاروت  وماروت   . فقال لهما حين أنزلهما : عجبتما من بني آدم  ومن ظلمهم ومعصيتهم ، وإنما تأتيهم الرسل والكتب من وراء وراء ، وأنتما ليس بيني وبينكما رسول ، فافعلا كذا وكذا ، ودعا كذا وكذا . فأمرهما بأمر ونهاهما . ثم نزلا على ذلك ليس أحد لله أطوع منهما . فحكما  [ ص: 435 ] فعدلا . فكانا يحكمان النهار بين بني آدم  ، فإذا أمسيا عرجا وكانا مع الملائكة ، وينزلان حين يصبحان فيحكمان فيعدلان ، حتى أنزلت عليهما الزهرة - في أحسن صورة امرأة - تخاصم ، فقضيا عليها ، فلما قامت ، وجد كل واحد منهما في نفسه ، فقال أحدهما لصاحبه : وجدت مثل ما وجدت؟ قال : نعم ، فبعثا إليها : أن ائتينا نقض لك ، فلما رجعت ، قالا لها - وقضيا لها - : ائتينا! فأتتهما ، فكشفا لها عن عورتهما ، وإنما كانت شهوتهما في أنفسهما ، ولم يكونا كبني آدم  في شهوة النساء ولذاتها ، فلما بلغا ذلك واستحلاه وافتتنا ، طارت الزهرة فرجعت حيث كانت ، فلما أمسيا عرجا فردا ولم يؤذن لهما ، ولم تحملهما أجنحتهما ، فاستغاثا برجل من بني آدم  ، فأتياه فقالا ادع لنا ربك! فقال : كيف يشفع أهل الأرض لأهل السماء؟ قالا : سمعنا ربك يذكرك بخير في السماء! فوعدهما يوما ، وغدا يدعو لهما ، فدعا لهما فاستجيب له ، فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، فنظر أحدهما إلى صاحبه ، فقالا : نعلم أن أنواع عذاب الله في الآخرة كذا وكذا في الخلد ، ومع الدنيا سبع مرات مثلها ، فأمرا أن ينزلا ببابل  ، فثم عذابهما . وزعم أنهما معلقان في الحديد مطويان ، يصفقان بأجنحتهما  . 
قال أبو جعفر   : وحكي عن بعض القراء أنه كان يقرأ : ) وما أنزل على الملكين ) ، يعني به رجلين من بني آدم   . وقد دللنا على خطأ القراءة بذلك من جهة الاستدلال ، فأما من جهة النقل ، فإجماع الحجة - على خطأ القراءة بها - من  [ ص: 436 ] الصحابة والتابعين وقراء الأمصار ، وكفى بذلك شاهدا على خطئها . 
وأما قوله ( ببابل ) ، فإنه اسم قرية أو موضع من مواضع الأرض . وقد اختلف أهل التأويل فيها ، فقال بعضهم : إنها " بابل دنباوند   " . 
1690 - حدثني بذلك موسى  قال : حدثنا عمرو  قال : حدثنا أسباط  ، عن  السدي   . 
وقال بعضهم : بل ذلك" بابل العراق   " . 
ذكر من قال ذلك : 
1691 - حدثنا القاسم  قال : حدثنا الحسين  قال : حدثني حجاج  ، عن ابن أبي الزناد  ، عن  هشام بن عروة  ، عن أبيه ، عن عائشة   - في قصة ذكرتها عن امرأة قدمت المدينة  ، فذكرت أنها صارت في العراق ببابل  ، فأتت بها هاروت  وماروت ،  فتعلمت منهما السحر . 
قال أبو جعفر   : واختلف في معنى السحر ، فقال بعضهم : هو خدع ومخاريق ومعان يفعلها الساحر ، حتى يخيل إلى المسحور الشيء أنه بخلاف ما هو به ، نظير الذي يرى السراب من بعيد فيخيل إليه أنه ماء ، ويرى الشيء من بعيد فيثبته بخلاف ما هو على حقيقته ، وكراكب السفينة السائرة سيرا حثيثا يخيل إليه أن ما عاين من الأشجار والجبال سائر معه! قالوا : فكذلك المسحور ذلك صفته ، يحسب بعد الذي وصل إليه من سحر الساحر ، أن الذي يراه أو يفعله بخلاف الذي هو به على حقيقته ، كالذي : -  [ ص: 437 ] 
1692 - حدثني أحمد بن الوليد   وسفيان بن وكيع ،  قالا : حدثنا يحيى بن سعيد  ، عن  هشام بن عروة  ، عن أبيه ، عن عائشة   : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سحر ، كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء ولم يفعله  . 
1693 - حدثنا ابن وكيع  قال : حدثنا ابن نمير  ، عن  هشام بن عروة ،  عن أبيه ، عن عائشة  قالت ، سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودي من يهود بني زريق  يقال له  لبيد بن الأعصم  ، حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخيل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله  .  [ ص: 438 ] 
1694 - حدثني يونس  قال : أخبرنا ابن وهب  قال ، أخبرني يونس  ، عن ابن شهاب  قال : كان عروة بن الزبير   وسعيد بن المسيب  يحدثان : أن يهود بني زريق  عقدوا عقد سحر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجعلوها في بئر حزم ،  حتى كان رسول الله ينكر بصره ، ودله الله على ما صنعوا ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بئر حزم  التي فيها العقد فانتزعها ، فكان  [ ص: 439 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : سحرتني يهود بني زريق   . 
وأنكر قائل هذه المقالة أن يكون الساحر يقدر بسحره على قلب شيء عن حقيقته ، واستسخار شيء من خلق الله - إلا نظير الذي يقدر عليه من ذلك سائر بني آدم   - أو إنشاء شيء من الأجسام سوى المخاريق والخدع المتخيلة لأبصار الناطرين بخلاف حقائقها التي وصفنا . وقالوا : لو كان في وسع السحرة إنشاء الأجسام وقلب حقائق الأعيان عما هي به من الهيئات ، لم يكن بين الحق والباطل فصل ، ولجاز أن تكون جميع المحسوسات مما سحرته السحرة فقلبت أعيانها . قالوا : وفي وصف الله جل وعز سحرة فرعون  بقوله : ( فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى   ) [ سورة طه : 66 ] ، وفي خبر عائشة  عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذ سحر يخيل إليه أنه يفعل الشيء ولا يفعله ، أوضح الدلالة على بطول دعوى المدعين : أن الساحر ينشئ أعيان الأشياء بسحره ، ويستسخر ما يتعذر استسخاره على غيره من بني آدم ،  كالموات والجماد والحيوان ، وصحة ما قلنا . 
وقال آخرون : قد يقدر الساحر بسحره أن يحول الإنسان حمارا ، وأن يسحر الإنسان والحمار ، وينشئ أعيانا وأجساما ، واعتلوا في ذلك بما : - 
1695 - حدثنا به الربيع بن سليمان  قال : حدثنا ابن وهب  قال : أخبرنا ابن أبي الزناد  قال : حدثني  هشام بن عروة  ، عن أبيه ، عن عائشة  زوج  [ ص: 440 ] النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت : قدمت علي امرأة من أهل دومة الجندل  ، جاءت تبتغي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته حداثة ذلك ، تسأله عن شيء دخلت فيه من أمر السحر ولم تعمل به . قالت عائشة  لعروة   : يا ابن أختي ، فرأيتها تبكي حين لم تجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيشفيها ، كانت تبكي حتى إني لأرحمها! وتقول : إني لأخاف أن أكون قد هلكت! كان لي زوج فغاب عني ، فدخلت علي عجوز فشكوت ذلك إليها ، فقالت : إن فعلت ما آمرك به ، فأجعله يأتيك! فلما كان الليل جاءتني بكلبين أسودين ، فركبت أحدهما وركبت الآخر ، فلم يكن كشيء حتى وقفنا ببابل  ، فإذا برجلين معلقين بأرجلهما ، فقالا : ما جاء بك؟ فقلت : أتعلم السحر؟ فقالا : إنما نحن فتنة فلا تكفري وارجعي ، فأبيت وقلت : لا ، قالا : فاذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه ، فذهبت ففزعت فلم أفعل ، فرجعت إليهما ، فقالا : أفعلت؟ قلت : نعم . فقالا : فهل رأيت شيئا؟ قلت : لم أر شيئا! فقالا لي : لم تفعلي ، ارجعي إلى بلادك ولا تكفري فأرببت وأبيت ، فقالا : اذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه ، فذهبت ، فاقشعررت ، ثم رجعت إليهما فقلت : قد فعلت ، فقالا : فما رأيت؟  [ ص: 441 ] فقلت : لم أر شيئا . فقالا : كذبت لم تفعلي ، ارجعي إلى بلادك ولا تكفري ، فإنك على رأس أمرك! فأرببت وأبيت ، فقالا : اذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه . فذهبت إليه فبلت فيه ، فرأيت فارسا متقنعا بحديد خرج مني حتى ذهب في السماء ، وغاب عني حتى ما أراه ، فجئتهما فقلت : قد فعلت! فقالا : ما رأيت؟ فقلت : فارسا متقنعا خرج مني فذهب في السماء حتى ما أراه ، فقالا : صدقت ، ذلك إيمانك خرج منك ، اذهبي! فقلت للمرأة : والله ما أعلم شيئا! وما قالا لي شيئا! فقالت : بلى ، لن تريدي شيئا إلا كان! خذي هذا القمح فابذري ، فبذرت ، وقلت : أطلعي! فأطلعت ، وقلت : أحقلي! فأحقلت ، ثم قلت : أفركي! فأفركت ، ثم قلت : أيبسي! فأيبست ، ثم قلت : أطحني! فأطحنت ، ثم قلت : أخبزي ، فأخبزت ، فلما رأيت أني لا أريد شيئا إلا كان ، سقط في يدي وندمت والله يا أم المؤمنين! والله ما فعلت شيئا قط ولا أفعله أبدا  .  [ ص: 442 ] 
قال أهل هذه المقالة بما وصفنا ، واعتلوا بما ذكرنا ، وقالوا : لولا أن الساحر يقدر على فعل ما ادعى أنه يقدر على فعله ، ما قدر أن يفرق بين المرء وزوجه . قالوا : وقد أخبر الله تعالى ذكره عنهم أنهم يتعلمون من الملكين ما يفرقون به بين المرء وزوجه ، وذلك لو كان على غير الحقيقة ، وكان على وجه التخييل والحسبان ، لم يكن تفريقا على صحة ، وقد أخبر الله تعالى ذكره عنهم أنهم يفرقون على صحة . 
وقال آخرون : بل "السحر" أخذ بالعين . 
				
						
						
