يقول تعالى ذكره : إن الذين جحدوا توحيد الله ، وكذبوا رسله وأنكروا ما جاءهم به من عند ربهم ( ويصدون عن سبيل الله ) يقول : ويمنعون الناس عن دين الله أن يدخلوا فيه ، وعن المسجد الحرام الذي جعله الله للناس الذين آمنوا به كافة لم يخصص منها بعضا دون بعض ; ( سواء العاكف فيه والباد ) يقول : معتدل في الواجب عليه من تعظيم حرمة المسجد الحرام ، وقضاء نسكه به ، والنزول فيه حيث شاء العاكف فيه ، وهو المقيم به; والباد : وهو المنتاب إليه من غيره .
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معناه : سواء العاكف فيه وهو المقيم فيه; والباد في أنه ليس أحدهما بأحق بالمنزل فيه من الآخر .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد قال : ثنا حكام عن عمرو عن عن يزيد بن أبي زياد ابن سابط قال : كان الحجاج إذا قدموا مكة [ ص: 596 ] لم يكن أحد من أهل مكة بأحق بمنزله منهم ، وكان الرجل إذا وجد سعة نزل . ففشا فيهم السرق ، وكل إنسان يسرق من ناحيته ، فاصطنع رجل بابا ، فأرسل إليه عمر : أتخذت بابا من حجاج بيت الله ؟ فقال : لا إنما جعلته ليحرز متاعهم ، وهو قوله : ( سواء العاكف فيه والباد ) قال : الباد فيه كالمقيم ، ليس أحد أحق بمنزله من أحد إلا أن يكون أحد سبق إلى منزل .
حدثنا قال : ثنا محمد بن بشار عبد الرحمن قال : ثنا سفيان عن أبي حصين قال : قلت : أعتكف لسعيد بن جبير بمكة ، قال : أنت عاكف . وقرأ : ( سواء العاكف فيه والباد ) .
حدثنا ابن حميد قال : ثنا حكام عن عنبسة عمن ذكره ، عن أبي صالح : ( سواء العاكف فيه والباد ) العاكف : أهله ، والباد : المنتاب في المنزل سواء .
حدثني علي قال : ثنا أبو صالح قال : ثني معاوية عن علي عن ابن عباس قوله : ( سواء العاكف فيه والباد ) يقول : ينزل أهل مكة وغيرهم في المسجد الحرام .
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : ( سواء العاكف فيه والباد ) قال : العاكف فيه : المقيم بمكة; والباد : الذي يأتيه هم فيه سواء في البيوت .
حدثنا ابن عبد الأعلى قال : ثنا ابن ثور عن معمر عن قتادة : ( سواء العاكف فيه والباد ) سواء فيه أهله وغير أهله .
حدثنا الحسن قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر عن قتادة مثله .
حدثنا ابن حميد ، قال ثنا جرير عن منصور عن مجاهد في قوله : ( سواء العاكف فيه والباد ) قال : أهل مكة وغيرهم في المنازل سواء .
وقال آخرون في ذلك نحو الذي قلنا فيه .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، [ ص: 597 ] عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قوله : ( سواء العاكف فيه ) قال : الساكن ، ( والباد ) الجانب سواء حق الله عليهما فيه .
حدثنا القاسم قال : ثنا الحسين قال : ثني حجاج عن عن ابن جريج مجاهد في قوله : ( سواء العاكف فيه ) قال : الساكن ( والباد ) الجانب .
قال : ثنا الحسين قال : ثنا أبو تميلة عن أبي حمزة عن جابر عن مجاهد : ( وعطاء سواء العاكف فيه ) قالا من أهله ، ( والباد ) الذي يأتونه من غير أهله هما في حرمته سواء .
وإنما اخترنا القول الذي اخترنا في ذلك ، لأن الله تعالى ذكره ، ذكر في أول الآية صد من كفر به من أراد من المؤمنين قضاء نسكه في الحرم عن المسجد الحرام ، فقال : ( إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام ) ثم ذكر جل ثناؤه صفة المسجد الحرام ، فقال : ( الذي جعلناه للناس ) فأخبر جل ثناؤه أنه جعله للناس كلهم ، فالكافرون به يمنعون من أراده من المؤمنين به عنه ، ثم قال : ( سواء العاكف فيه والباد ) فكان معلوما أن خبره عن استواء العاكف فيه والباد ، إنما هو في المعنى الذي ابتدأ الله الخبر عن الكفار أنهم صدوا عنه المؤمنين به ، وذلك لا شك طوافهم وقضاء مناسكهم به والمقام ، لا الخبر عن ملكهم إياه وغير ملكهم . وقيل : ( إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله ) فعطف ب " يصدون " وهو مستقبل على كفروا ، وهو ماض ، لأن الصد بمعنى الصفة لهم والدوام . وإذا كان ذلك معنى الكلام ، لم يكن إلا بلفظ الاسم أو الاستقبال ، ولا يكون بلفظ الماضي . وإذا كان ذلك كذلك ، فمعنى الكلام : إن الذين كفروا من صفتهم الصد عن سبيل الله ، وذلك نظير قول الله : ( الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ) . وأما قوله : ( سواء العاكف فيه ) فإن قراء الأمصار على رفع " سواء " بالعاكف ، والعاكف به ، وإعمال جعلناه في الهاء المتصلة به ، واللام التي في قوله للناس ، ثم استأنف الكلام بسواء ، وكذلك تفعل العرب بسواء إذا جاءت بعد حرف قد تم الكلام به ، فتقول : مررت برجل سواء عنده الخير والشر ، وقد يجوز في ذلك الخفض ، وإنما يختار الرفع في ذلك لأن سواء في مذهب واحد عندهم ، فكأنهم قالوا : مررت برجل واحد عنده الخير والشر . وأما من خفضه فإنه يوجهه إلى معتدل عنده الخير والشر ، ومن قال ذلك في [ ص: 598 ] سواء فاستأنف به ، ورفع لم يقله في معتدل ، لأن معتدل فعل مصرح ، وسواء مصدر فإخراجهم إياه إلى الفعل كإخراجهم حسب في قولهم : مررت برجل حسبك من رجل إلى الفعل . وقد ذكر عن بعض القراء أنه قرأه نصبا على إعمال جعلناه فيه ، وذلك وإن كان له وجه في العربية ، فقراءة لا أستجيز القراءة بها لإجماع الحجة من القراء على خلافه .
وقوله : ( ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم ) يقول تعالى ذكره : ومن يرد فيه إلحادا بظلم نذقه من عذاب أليم ، وهو أن يميل في البيت الحرام بظلم ، وأدخلت الباء في قوله بإلحاد ، والمعنى فيه ما قلت ، كما أدخلت في قوله : ( تنبت بالدهن ) والمعنى : تنبت الدهن ، كما قال الشاعر :
بواد يمان ينبت الشث صدره وأسفله بالمرخ والشبهان
والمعنى : وأسفله ينبت المرخ والشبهان; وكما قال أعشى بني ثعلبة :
ضمنت برزق عيالنا أرماحنا بين المراجل والصريح الأجرد
فلما رجت بالشرب هز لها العصا شحيح له عند الأداء نهيم
وقال امرؤ القيس :
ألا هل أتاها والحوادث جمة بأن امرأ القيس بن تملك بيقرا
قال : فأدخل الباء على أن وهي في موضع رفع كما أدخلها على إلحاد ، وهو في موضع نصب ، قال : وقد أدخلوا الباء على ما إذا أرادوا بها المصدر ، كما قال الشاعر : [ ص: 600 ]
ألم يأتيك والأنباء تنمي بما لاقت لبون بني زياد
وقال : وهو في " ما " أقل منه في " أن " ، لأن " أن " أقل شبها بالأسماء من " ما " . قال : وسمعت أعرابيا من ربيعة ، وسألته عن شيء ، فقال : أرجو بذاك : يريد أرجو ذاك .
واختلف أهل التأويل في معنى الظلم الذي من أراد الإلحاد به في المسجد الحرام أذاقه الله من العذاب الأليم ، فقال بعضهم : ذلك هو الشرك بالله وعبادة غيره به : أي بالبيت .
ذكر من قال ذلك :
حدثني علي قال : ثنا أبو صالح قال : ثني معاوية عن علي عن ابن عباس قوله : ( ومن يرد فيه بإلحاد بظلم ) يقول : بشرك .
حدثنا علي قال : ثنا حكام عن عنبسة عن محمد بن عبد الرحمن عن القاسم بن أبي بزة عن مجاهد في قوله : ( ومن يرد فيه بإلحاد بظلم ) هو أن يعبد فيه غير الله .
حدثنا ابن عبد الأعلى قال : ثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه ، قال : ( ومن يرد فيه بإلحاد بظلم ) قال : هو الشرك ، من أشرك في بيت الله عذبه الله .
حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر عن قتادة مثله .
وقال آخرون : هو استحلال الحرام فيه أو ركوبه .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : ( ومن يرد فيه بإلحاد [ ص: 601 ] بظلم نذقه من عذاب أليم ) يعني أن تستحل من الحرام ما حرم الله عليك من لسان أو قتل ، فتظلم من لا يظلمك ، وتقتل من لا يقتلك ، فإذا فعل ذلك فقد وجب له عذاب أليم .
حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد : ( ومن يرد فيه بإلحاد بظلم ) قال : يعمل فيه عملا سيئا .
حدثنا القاسم قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج عن عن ابن جريج مجاهد مثله .
حدثنا أبو كريب ونصر بن عبد الرحمن الأودي قالا ثنا المحاربي عن سفيان عن عن السدي مرة عن عن عبد الله قال : ما من رجل يهم بسيئة فتكتب عليه ، ولو أن رجلا بعد أن بين هم أن يقتل رجلا بهذا البيت ، لأذاقه الله من العذاب الأليم .
حدثنا مجاهد بن موسى قال : ثنا يزيد قال : ثنا شعبة عن عن السدي مرة عن عبد الله قال مجاهد قال يزيد قال لنا شعبة رفعه ، وأنا لا أرفعه لك في قول الله : ( ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم ) قال : لو أن رجلا هم فيه بسيئة وهو بعدن أبين ، لأذاقه الله عذابا أليما .
حدثنا الفضل بن الصباح قال : ثنا عن أبيه ، عن محمد بن فضيل الضحاك بن مزاحم في قوله : ( ومن يرد فيه بإلحاد بظلم ) قال : إن الرجل ليهم بالخطيئة بمكة وهو في بلد آخر ولم يعملها ، فتكتب عليه .
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قول الله : ( ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم ) قال : الإلحاد : الظلم في الحرم .
وقال آخرون : بل معنى ذلك الظلم : استحلال الحرم متعمدا .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم قال : ثنا الحسين قال : ثني حجاج عن قال : قال ابن جريج ابن عباس : ( بإلحاد بظلم ) قال : الذي يريد استحلاله متعمدا ، ويقال الشرك . [ ص: 602 ] وقال آخرون : بل ذلك احتكار الطعام بمكة .
ذكر من قال ذلك :
حدثني هارون بن إدريس الأصم قال : ثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي عن أشعث عن حبيب بن أبي ثابت في قوله : ( ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم ) قال : هم المحتكرون الطعام بمكة .
وقال آخرون : بل ذلك كل ما كان منهيا عنه من الفعل ، حتى قول القائل : لا والله ، وبلى والله .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا قال : ثنا ابن المثنى محمد بن جعفر قال : ثنا شعبة عن منصور عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو قال : كان له فسطاطان : أحدهما في الحل ، والآخر في الحرم ، فإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الحل ، فسئل عن ذلك ، فقال : كنا نحدث أن من الإلحاد فيه أن يقول الرجل : كلا والله ، وبلى والله .
حدثنا ابن حميد قال : ثنا يعقوب عن أبي ربعي عن الأعمش قال : كان عبد الله بن عمرو يقول : لا والله وبلى والله من الإلحاد فيه .
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال التي ذكرناها في تأويل ذلك بالصواب القول الذي ذكرناه عن ابن مسعود من أنه معني بالظلم في هذا الموضع كل معصية لله ، وذلك أن الله عم بقوله ( وابن عباس ومن يرد فيه بإلحاد بظلم ) ولم يخصص به ظلم دون ظلم في خبر ولا عقل ، فهو على عمومه . فإذا كان ذلك كذلك ، فتأويل الكلام : ومن يرد في المسجد الحرام بأن يميل بظلم ، فيعصى الله فيه ، نذقه يوم القيامة من عذاب موجع له . وقد ذكر عن بعض القراء أنه كان يقرأ ذلك ( ومن يرد فيه ) بفتح الياء بمعنى : ومن يرده بإلحاد من وردت المكان أرده . وذلك قراءة لا تجوز القراءة عندي بها لخلافها ما عليه الحجة من القراء مجمعة مع بعدها من فصيح كلام العرب ، وذلك أن يرد فعل واقع ، يقال منه : وهو يرد مكان كذا أو بلدة كذا ، ولا يقال : يرد في مكان كذا . وقد زعم بعض أهل المعرفة بكلام العرب ، أن طيئا تقول : رغبت فيك ، تريد : رغبت بك ، وذكر أن بعضهم أنشده بيتا : [ ص: 603 ]
وأرغب فيها عن لقيط ورهطه ولكنني عن سنبس لست أرغب
بمعنى : وأرغب بها . فإن كان ذلك صحيحا كما ذكرنا ، فإنه يجوز في الكلام ، فأما القراءة به فغير جائزة لما وصفت .