يعني تعالى ذكره بقوله : ( ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ) ثم جعلنا الإنسان الذي جعلناه من سلالة من طين نطفة في قرار مكين ، وهو حيث استقرت فيه نطفة الرجل من رحم المرأة ، ووصفه بأنه مكين; لأنه مكن لذلك ، وهيأ له ليستقر فيه إلى بلوغ أمره الذي جعله له قرارا . وقوله : ( ثم خلقنا النطفة علقة ) يقول : ثم صيرنا النطفة التي جعلناها في قرار مكين علقة ، وهي القطعة من الدم ، ( فخلقنا العلقة مضغة ) يقول : فجعلنا ذلك الدم مضغة ، وهي القطعة من اللحم .
وقوله : ( فخلقنا المضغة عظاما ) يقول : فجعلنا تلك المضغة اللحم عظاما . وقد اختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء الحجاز والعراق سوى عاصم : ( فخلقنا المضغة عظاما ) على الجمع ، وكان عاصم وعبد الله يقرءان ذلك : ( عظما ) في الحرفين على التوحيد جميعا .
[ ص: 17 ] والقراءة التي نختار في ذلك الجمع ; لإجماع الحجة من القراء عليه .
وقوله : ( فكسونا العظام لحما ) يقول : فألبسنا العظام لحما . وقد ذكر أن ذلك في قراءة عبد الله : ( ثم خلقنا المضغة عظما ) وعصبا ، فكسوناه لحما . وقوله : ( ثم أنشأناه خلقا آخر ) يقول : ثم أنشأنا هذا الإنسان خلقا آخر . وهذه الهاء التي في : ( أنشأناه ) عائدة على الإنسان في قوله : ( ولقد خلقنا الإنسان ) قد يجوز أن تكون من ذكر العظم والنطفة والمضغة ، جعل ذلك كله كالشيء الواحد . فقيل : ثم أنشأنا ذلك خلقا آخر .
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : ( ثم أنشأناه خلقا آخر ) فقال بعضهم : إنشاؤه إياه خلقا آخر : نفخه الروح فيه ; فيصير حينئذ إنسانا ، وكان قبل ذلك صورة .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا حجاج ، عن عطاء ، عن ابن عباس في قوله : ( ثم أنشأناه خلقا آخر ) قال : نفخ فيه الروح .
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا هشيم عن الحجاج بن أرطأة ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، بمثله .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن قال : قال ابن جريج ، ابن عباس : ( ثم أنشأناه خلقا آخر ) قال : الروح .
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن عبد الرحمن بن الأصبهاني ، عن عكرمة ، في قوله : ( ثم أنشأناه خلقا آخر ) قال : نفخ فيه الروح .
حدثنا ابن بشار وابن المثنى ، قالا ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سلمة ، عن عن داود بن أبي هند ، الشعبي : ( ثم أنشأناه خلقا آخر ) قال : نفخ فيه الروح .
قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، بمثله .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، في قوله : ( ثم أنشأناه خلقا آخر ) قال : نفخ فيه الروح ، فهو الخلق الآخر الذي ذكر .
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : ( ثم أنشأناه خلقا ) يعني الروح تنفخ فيه بعد الخلق .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : [ ص: 18 ] ( ثم أنشأناه خلقا آخر ) قال : الروح الذي جعله فيه . وقال آخرون : إنشاؤه خلقا آخر ، تصريفه إياه في الأحوال بعد الولادة في الطفولة والكهولة ، والاغتذاء ، ونبات الشعر والسن ، ونحو ذلك من أحوال الأحياء في الدنيا .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثنا أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : ( ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ) يقول : خرج من بطن أمه بعدما خلق ، فكان من بدء خلقه الآخر أن استهل ، ثم كان من خلقه أن دل على ثدي أمه ، ثم كان من خلقه أن علم كيف يبسط رجليه إلى أن قعد ، إلى أن حبا ، إلى أن قام على رجليه ، إلى أن مشى ، إلى أن فطم ، فعلم كيف يشرب ويأكل من الطعام ، إلى أن بلغ الحلم ، إلى أن بلغ أن يتقلب في البلاد .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : ( ثم أنشأناه خلقا آخر ) قال : يقول بعضهم : هو نبات الشعر ، وبعضهم يقول : هو نفخ الروح .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، مثله .
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك : ( ثم أنشأناه خلقا آخر ) قال : يقال الخلق الآخر بعد خروجه من بطن أمه بسنه وشعره .
وقال آخرون : بل عنى بإنشائه خلقا آخر : سوى شبابه .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( ثم أنشأناه خلقا آخر ) قال : حين استوى شبابه .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن قال : قال ابن جريج ، مجاهد : حين استوى به الشباب .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : عنى بذلك نفخ الروح فيه ، وذلك أنه بنفخ الروح فيه يتحول خلقا آخر إنسانا ، وكان قبل ذلك بالأحوال التي وصفه الله أنه كان بها ، من نطفة وعلقة ومضغة وعظم وبنفخ الروح فيه ، يتحول عن تلك المعاني كلها إلى معنى الإنسانية ، كما تحول أبوه آدم بنفخ الروح في الطينة التي خلق منها إنسانا ، وخلقا آخر غير الطين الذي خلق منه .
وقوله : ( فتبارك الله أحسن الخالقين ) اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال [ ص: 19 ] بعضهم : معناه فتبارك الله أحسن الصانعين .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عنبسة ، عن ليث ، عن مجاهد : ( فتبارك الله أحسن الخالقين ) قال : يصنعون ويصنع الله ، والله خير الصانعين .
وقال آخرون : إنما قيل : ( فتبارك الله أحسن الخالقين ) لأن عيسى ابن مريم كان يخلق ، فأخبر جل ثناؤه عن نفسه أنه يخلق أحسن مما كان يخلق .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال في قوله : ( ابن جريج ، فتبارك الله أحسن الخالقين ) قال : عيسى ابن مريم يخلق .
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول مجاهد ; لأن العرب تسمي كل صانع خالقا ، ومنه قول زهير :
ولأنت تفري ما خلقت وبع ض القوم يخلق ثم لا يفري
ويروى :
ولأنت تخلق ما فريت وبع ض القوم يخلق ثم لا يفري