يقول تعالى ذكره : ( وقدمنا ) وعمدنا إلى ما عمل هؤلاء المجرمون ( من عمل ) ; ومنه قول الراجز :
[ ص: 257 ]
وقدم الخوارج الضلال إلى عباد ربهم وقالوا
إن دماءكم لنا حلال
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( وقدمنا ) قال : عمدنا .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ، عن ابن جريج مجاهد ، مثله وقوله : ( فجعلناه هباء منثورا ) يقول : فجعلناه باطلا لأنهم لم يعملوه لله وإنما عملوه للشيطان .
والهباء : هو الذي يرى كهيئة الغبار إذا دخل ضوء الشمس من كوة يحسبه الناظر غبارا ليس بشيء تقبض عليه الأيدي ولا تمسه ، ولا يرى ذلك في الظل .
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم نحو الذي قلنا فيه .
ذكر من قال ذلك :
حدثني ، قال : ثنا محمد بن المثنى محمد ، قال : ثنا شعبة ، عن سماك ، عن عكرمة أنه قال في هذه الآية ( هباء منثورا ) قال : الغبار الذي يكون في الشمس .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ، عن ابن علية أبي رجاء ، عن الحسن ، في قوله : ( وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا ) قال : الشعاع في كوة أحدهم إن ذهب يقبض عليه لم يستطع .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( هباء منثورا ) قال : شعاع الشمس من الكوة .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ، عن [ ص: 258 ] ابن جريج مجاهد ، مثله .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن ، في قوله : ( هباء منثورا ) قال : ما رأيت شيئا يدخل البيت من الشمس تدخله من الكوة ، فهو الهباء .
وقال آخرون : بل هو ما تسفيه الرياح من التراب ، وتذروه من حطام الأشجار ، ونحو ذلك .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ابن عباس ، قوله : ( هباء منثورا ) قال : ما تسفي الريح تبثه .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ( هباء منثورا ) قال : هو ما تذرو الريح من حطام هذا الشجر .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( هباء منثورا ) قال : الهباء : الغبار .
وقال آخرون : هو الماء المهراق .
ذكر من قال ذلك :
حدثني علي ، قال : ثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : ( هباء منثورا ) يقال : الماء المهراق .
وقوله جل ثناؤه : ( أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا ) يقول تعالى ذكره : أهل الجنة يوم القيامة خير مستقرا ، وهو الموضع الذي يستقرون فيه من منازلهم في الجنة من مستقر هؤلاء المشركين الذين يفتخرون بأموالهم ، وما أوتوا من عرض هذه الدنيا في الدنيا ، وأحسن منهم فيها مقيلا .
فإن قال قائل : وهل في الجنة قائلة؟ فيقال : ( وأحسن مقيلا ) فيها؟ قيل : معنى ذلك : وأحسن فيها قرارا في أوقات قائلتهم في الدنيا ، وذلك أنه ذكر أن أهل الجنة لا يمر فيهم في الآخرة إلا قدر ميقات النهار من أوله إلى وقت القائلة ، حتى يسكنوا مساكنهم في الجنة ، فذلك معنى قوله : ( وأحسن مقيلا ) .
[ ص: 259 ] ذكر الرواية عمن قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا ) يقول : قالوا في الغرف في الجنة ، وكان حسابهم أن عرضوا على ربهم عرضة واحدة ، وذلك الحساب اليسير ، وهو مثل قوله : ( فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا وينقلب إلى أهله مسرورا ) .
حدثني أبو السائب ، قال : ثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، في قوله : ( أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا ) قال : كانوا يرون أنه يفرغ من حساب الناس يوم القيامة في نصف النهار ، فيقيل هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ( ابن جريج أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا ) قال : لم ينتصف النهار حتى يقضي الله بينهم ، فيقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار . قال : وفي قراءة ابن مسعود : ( ثم إن مقيلهم لإلى الجحيم ) .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا ) قال : قال ابن عباس : كان الحساب من ذلك في أوله ، وقال القوم حين قالوا في منازلهم من الجنة ، وقرأ ( أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا ) .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرنا عمرو بن الحارث أن سعيدا الصواف حدثه أنه بلغه أن يوم القيامة يقضى على المؤمنين حتى يكون كما بين العصر إلى غروب الشمس ، وأنهم يقيلون في رياض الجنة حتى يفرغ من الناس ، فذلك قول الله : ( أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا ) .
قال أبو جعفر : وإنما قلنا : معنى ذلك : خير مستقرا في الجنة منهم في الدنيا ، لأن الله تعالى ذكره عم بقوله : ( أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا ) جميع أحوال الجنة في الآخرة أنها خير في الاستقرار فيها ، والقائلة من جميع أحوال أهل النار ، ولم يخص بذلك أنه خير من أحوالهم في النار دون الدنيا ، ولا في الدنيا دون الآخرة ، فالواجب أن يعم كما عم ربنا جل ثناؤه ، فيقال : أصحاب الجنة يوم القيامة خير مستقرا [ ص: 260 ] في الجنة من أهل النار في الدنيا والآخرة ، وأحسن منهم مقيلا وإذا كان ذلك معناه ، صح فساد قول من توهم أن تفضيل أهل الجنة بقول الله : ( خير مستقرا ) على غير الوجه المعروف من كلام الناس بينهم في قولهم : هذا خير من هذا ، وهذا أحسن من هذا .