القول في تأويل قوله جل ثناؤه : ( هدى )
259 - حدثني أحمد بن حازم الغفاري ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا [ ص: 230 ] سفيان ، عن بيان ، عن الشعبي ، "هدى " قال : هدى من الضلالة .
260 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط بن نصر ، عن إسماعيل السدي ، في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس وعن ، عن مرة الهمداني ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، "هدى للمتقين " ، يقول : نور للمتقين .
والهدى في هذا الموضع مصدر من قولك : هديت فلانا الطريق - إذا أرشدته إليه ، ودللته عليه ، وبينته له - أهديه هدى وهداية .
فإن قال لنا قائل : أو ما كتاب الله نورا إلا للمتقين ، ولا رشادا إلا للمؤمنين ؟ قيل : ذلك كما وصفه ربنا عز وجل . ولو كان نورا لغير المتقين ، ورشادا لغير المؤمنين ، لم يخصص الله عز وجل المتقين بأنه لهم هدى ، بل كان يعم به جميع المنذرين . ولكنه هدى للمتقين ، وشفاء لما في صدور المؤمنين ، ووقر في آذان المكذبين ، وعمى لأبصار الجاحدين ، وحجة لله بالغة على الكافرين . فالمؤمن به مهتد ، والكافر به محجوج .
وقوله "هدى " يحتمل أوجها من المعاني :
أحدها : أن يكون نصبا ، لمعنى القطع من الكتاب ، لأنه نكرة والكتاب معرفة . فيكون التأويل حينئذ : الم ذلك الكتاب هاديا للمتقين . و"ذلك " مرفوع ب "الم " ، و " الم " به ، والكتاب نعت ل "ذلك " .
وقد يحتمل أن يكون نصبا ، على القطع من راجع ذكر الكتاب الذي في [ ص: 231 ] "فيه " ، فيكون معنى ذلك حينئذ : الم الذي لا ريب فيه هاديا .
وقد يحتمل أن يكون أيضا نصبا على هذين الوجهين ، أعني على وجه القطع من الهاء التي في "فيه " ، ومن "الكتاب " ، على أن "الم " كلام تام ، كما قال ابن عباس إن معناه : أنا الله أعلم . ثم يكون " ذلك الكتاب " خبرا مستأنفا ، فيرفع حينئذ "الكتاب " ب "ذلك " ، و "ذلك " ب "الكتاب " ، ويكون "هدى " قطعا من "الكتاب " ، وعلى أن يرفع "ذلك " بالهاء العائدة عليه التي في "فيه " ، و "الكتاب " نعت له; والهدى قطع من الهاء التي في " فيه " . وإن جعل الهدى في موضع رفع ، لم يجز أن يكون "ذلك الكتاب " إلا خبرا مستأنفا ، و "الم " كلاما تاما مكتفيا بنفسه ، إلا من وجه واحد ، وهو أن يرفع حينئذ "هدى " بمعنى المدح ، كما قال الله جل وعز : ( الم تلك آيات الكتاب الحكيم هدى ورحمة للمحسنين ) [ سورة لقمان : 1 - 3 ] في قراءة من قرأ "رحمة " . بالرفع ، على المدح للآيات .
والرفع في "هدى " حينئذ يجوز من ثلاثة أوجه : أحدها ما ذكرنا من أنه مدح مستأنف . والآخر : على أن يجعل مرافع " ذلك " ، و "الكتاب " نعت "لذلك " . والثالث : أن يجعل تابعا لموضع " لا ريب فيه " ، ويكون " ذلك الكتاب " مرفوعا بالعائد في "فيه " . فيكون كما قال تعالى ذكره : ( وهذا كتاب أنزلناه مبارك ) سورة الأنعام : 92 .
وقد زعم بعض المتقدمين في العلم بالعربية من الكوفيين ، أن "الم " مرافع " ذلك الكتاب " بمعنى : هذه الحروف من حروف المعجم ، ذلك الكتاب الذي وعدتك أن أوحيه إليك . ثم نقض ذلك من قوله فأسرع نقضه ، وهدم ما بنى فأسرع هدمه ، فزعم أن الرفع في "هدى " من وجهين ، والنصب من وجهين . وأن أحد وجهي الرفع : أن يكون "الكتاب " نعتا ل "ذلك " و "الهدى " في موضع رفع خبر ل "ذلك " . [ ص: 232 ] كأنك قلت : ذلك هدى لا شك فيه . قال : وإن جعلت " لا ريب فيه " خبره ، رفعت أيضا "هدى " ، بجعله تابعا لموضع " لا ريب فيه " ، كما قال الله جل ثناؤه : ( وهذا كتاب أنزلناه مبارك ) ، كأنه قال : وهذا كتاب هدى من صفته كذا وكذا . قال : وأما أحد وجهي النصب فأن تجعل الكتاب خبرا ل "ذلك " ، وتنصب "هدى " على القطع ، لأن "هدى " نكرة اتصلت بمعرفة ، وقد تم خبرها فنصبتها لأن النكرة لا تكون دليلا على معرفة . وإن شئت نصبت "هدى " على القطع من الهاء التي في "فيه " كأنك قلت : لا شك فيه هاديا .
قال أبو جعفر : فترك الأصل الذي أصله في "الم " وأنها مرفوعة ب " ذلك الكتاب " ، ونبذه وراء ظهره . واللازم كان له على الأصل الذي أصله ، أن لا يجيز الرفع في "هدى " بحال إلا من وجه واحد ، وذلك من قبل الاستئناف ، إذ كان مدحا . فأما على وجه الخبر "لذلك " ، أو على وجه الإتباع لموضع "لا ريب فيه " ، فكان اللازم له على قوله أن يكون خطأ . وذلك أن "الم " إذا رافعت " ذلك الكتاب " ، فلا شك أن "هدى " غير جائز حينئذ أن يكون خبرا "لذلك " ، بمعنى المرافع له ، أو تابعا لموضع "لا ريب فيه " ، لأن موضعه حينئذ نصب ، لتمام الخبر قبله ، وانقطاعه - بمخالفته إياه - عنه .