يقول تعالى ذكره : والذين إذا أنفقوا أموالهم لم يسرفوا في إنفاقها .
ثم اختلف أهل التأويل في النفقة التي عناها الله في هذا الموضع ، وما الإسراف فيها والإقتار . فقال بعضهم : الإسراف ما كان من نفقة في معصية الله وإن قلت : قال : وإياها عنى الله ، وسماها إسرافا . قالوا : والإقتار : المنع من حق الله .
ذكر من قال ذلك :
حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : ( والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما ) قال : هم المؤمنون لا يسرفون فينفقون في معصية الله ، ولا يقترون فيمنعون حقوق الله تعالى .
[ ص: 299 ] حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن يمان ، عن عثمان بن الأسود ، عن مجاهد ، قال : لو أنفقت مثل أبي قبيس ذهبا في طاعة الله ما كان سرفا ، ولو أنفقت صاعا فى معصية الله كان سرفا .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ، قوله : ( ابن جريج والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا ) قال : في النفقة فيما نهاهم وإن كان درهما واحدا ، ولم يقتروا ولم يقصروا عن النفقة في الحق .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : ( والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما ) قال : لم يسرفوا فينفقوا في معاصي الله كل ما أنفق في معصية الله ، وإن قل فهو إسراف ، ولم يقتروا فيمسكوا عن طاعة الله . قال : وما أمسك عن طاعة الله وإن كثر فهو إقتار .
قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني إبراهيم بن نشيط ، عن عمر مولى غفرة أنه سئل عن الإسراف ما هو؟ قال : كل شيء أنفقته في غير طاعة الله فهو سرف .
وقال آخرون : السرف : المجاوزة في النفقة الحد ، والإقتار : التقصير عن الذي لا بد منه .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا عبد السلام بن حرب ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قوله : ( والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا ) قال : لا يجيعهم ولا يعريهم ولا ينفق نفقة يقول الناس قد أسرف .
حدثني سليمان بن عبد الجبار ، قال : ثنا محمد بن يزيد بن خنيس أبو عبد الله المخزومي المكي ، قال : سمعت وهيب بن الورد أبا الورد مولى بني مخزوم ، قال : لقي عالم عالما هو فوقه في العلم ، فقال : يرحمك الله أخبرني عن هذا البناء الذي لا إسراف فيه ما هو؟ قال : هو ما سترك من الشمس ، وأكنك من المطر ، قال : يرحمك الله ، فأخبرني عن هذا الطعام الذي نصيبه لا إسراف فيه ما هو؟ قال : ما سد الجوع ودون الشبع ، قال : يرحمك الله ، فأخبرني عن هذا اللباس الذي لا إسراف فيه ما هو؟ قال : ما ستر عورتك ، وأدفأك من البرد .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني عبد الرحمن بن شريح ، [ ص: 300 ] عن يزيد بن أبي حبيب في هذه الآية : ( والذين إذا أنفقوا ) . . الآية ، قال : كانوا لا يلبسون ثوبا للجمال ، ولا يأكلون طعاما للذة ، ولكن كانوا يريدون من اللباس ما يسترون به عورتهم ، ويكتنون به من الحر والقر ، ويريدون من الطعام ما سد عنهم الجوع ، وقواهم على عبادة ربهم .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عنبسة ، عن العلاء بن عبد الكريم ، عن يزيد بن مرة الجعفي . قال : العلم خير من العمل ، والحسنة بين السيئتين ، يعني : إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا ، وخير الأعمال أوساطها .
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا مسلم بن إبراهيم ، قال : ثنا كعب بن فروخ ، قال : ثنا قتادة ، عن مطرف بن عبد الله ، قال : خير هذه الأمور أوساطها ، والحسنة بين السيئتين . فقلت لقتادة : ما الحسنة بين السيئتين؟ فقال : ( والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا ) . . الآية .
وقال آخرون : الإسراف هو أن تأكل مال غيرك بغير حق .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا سالم بن سعيد ، عن أبي معدان ، قال : كنت عند ، فقال : ليس المسرف من يأكل ماله ، إنما المسرف من يأكل مال غيره . عون بن عبد الله بن عتبة
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك ، قول من قال : الإسراف في النفقة الذي عناه الله في هذا الموضع : ما جاوز الحد الذي أباحه الله لعباده إلى ما فوقه ، والإقتار : ما قصر عما أمر الله به ، والقوام بين ذلك .
وإنما قلنا إن ذلك كذلك ، لأن المسرف والمقتر كذلك ، ولو كان الإسراف والإقتار في النفقة مرخصا فيهما ما كانا مذمومين ، ولا كان المسرف ولا المقتر مذموما ، لأن ما أذن الله في فعله فغير مستحق فاعله الذم .
فإن قال قائل : فهل لذلك من حد معروف تبينه لنا ؟ قيل : نعم ذلك مفهوم في كل شيء من المطاعم والمشارب والملابس والصدقة وأعمال البر وغير ذلك ، نكره تطويل الكتاب بذكر كل نوع من ذلك مفصلا غير أن جملة ذلك هو ما بينا وذلك نحو أكل آكل من الطعام فوق الشبع ما يضعف بدنه ، وينهك قواه ويشغله عن طاعة [ ص: 301 ] ربه ، وأداء فرائضه ; فذلك من السرف ، وأن يترك الأكل وله إليه سبيل حتى يضعف ذلك جسمه وينهك قواه ويضعفه عن أداء فرائض ربه ; فذلك من الإقتار ، وبين ذلك القوام على هذا النحو ، كل ما جانس ما ذكرنا ، فأما اتخاذ الثوب للجمال يلبسه عند اجتماعه مع الناس ، وحضوره المحافل والجمع والأعياد دون ثوب مهنته ، أو أكله من الطعام ما قواه على عبادة ربه ، مما ارتفع عما قد يسد الجوع ، مما هو دونه من الأغذية ، غير أنه لا يعين البدن على القيام لله بالواجب معونته ، فذلك خارج عن معنى الإسراف ، بل ذلك من القوام ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر ببعض ذلك ، وحض على بعضه ، كقوله : " " وكقوله : " ما على أحدكم لو اتخذ ثوبين : ثوبا لمهنته ، وثوبا لجمعته وعيده " وما أشبه ذلك من الأخبار التي قد بيناها في مواضعها . إذا أنعم الله على عبد نعمة أحب أن يرى أثرها عليه
وأما قوله : ( وكان بين ذلك قواما ) فإنه النفقة بالعدل والمعروف على ما قد بينا .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا سفيان ، عن أبي سليمان ، عن ، في قوله : ( وهب بن منبه وكان بين ذلك قواما ) قال : الشطر من أموالهم .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ، قوله : ( ابن جريج وكان بين ذلك قواما ) النفقة بالحق .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وكان بين ذلك قواما ) قال : القوام : أن ينفقوا في طاعة الله ، ويمسكوا عن محارم الله .
قال : أخبرني إبراهيم بن نشيط ، عن عمر مولى غفرة ، قال : قلت له : ما القوام ؟ قال : القوام : أن لا تنفق في غير حق ، ولا تمسك عن حق هو عليك . والقوام في كلام العرب ، بفتح القاف ، وهو الشيء بين الشيئين . تقول للمرأة المعتدلة الخلق : إنها لحسنة القوام في اعتدالها ، كما قال الحطيئة :
طافت أمامة بالركبان آونة يا حسنه من قوام ما ومنتقبا
[ ص: 302 ]فأما إذا كسرت القاف فقلت : إنه قوام أهله ، فإنه يعني به : أن به يقوم أمرهم وشأنهم . وفيه لغات أخر ، يقال منه : هو قيام أهله وقيمهم في معنى قوامهم . فمعنى الكلام : وكان إنفاقهم بين الإسراف والإقتار قواما معتدلا لا مجاوزة عن حد الله ، ولا تقصيرا عما فرضه الله ، ولكن عدلا بين ذلك على ما أباحه جل ثناؤه ، وأذن فيه ورخص .
واختلفت القراء في قراءة قوله : ( ولم يقتروا ) فقرأته عامة قراء المدينة " ولم يقتروا " بضم الياء وكسر التاء من أقتر يقتر . وقرأته عامة قراء الكوفيين ( ولم يقتروا ) بفتح الياء وضم التاء من قتر يقتر . وقرأته عامة قراء البصرة " ولم يقتروا " بفتح الياء وكسر التاء من قتر يقتر .
والصواب من القول في ذلك ، أن كل هذه القراءات على اختلاف ألفاظها لغات مشهورات في العرب ، وقراءات مستفيضات ، وفي قراء الأمصار بمعنى واحد ، فبأيتها قرأ القارئ فمصيب .
وقد بينا معنى الإسراف والإقتار بشواهدهما فيما مضى في كتابنا في كلام العرب ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع . وفي نصب القوام وجهان : أحدهما ما ذكرت ، وهو : أن يجعل في كان اسم الإنفاق بمعنى : وكان إنفاقهم ما أنفقوا بين ذلك قواما : أي عدلا ، والآخر : أن يجعل بين هو الاسم ، فتكون وإن كانت في اللفظة نصبا في معنى رفع ، كما يقال : كان دون هذا لك كافيا ، يعني به : أقل من هذا كان لك كافيا ، فكذلك يكون في قوله : ( وكان بين ذلك قواما ) لأن معناه : وكان الوسط من ذلك قواما .