يقول تعالى ذكره : فالتقطه آل فرعون فأصابوه وأخذوه ; وأصله من اللقطة ، وهو ما وجد ضالا فأخذ ، والعرب تقول لما وردت عليه فجأة من غير طلب له ولا إرادة ، أصبته التقاطا ، ولقيت فلانا التقاطا ; ومنه قول الراجز :
ومنهل وردته التقاطا لم ألق إذ وردته فراطا
[ ص: 522 ]يعني فجأة .
واختلف أهل التأويل في المعني بقوله : ( آل فرعون ) في هذا الموضع ، فقال بعضهم : عنى بذلك : جواري امرأة فرعون .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن قال : أقبل الموج بالتابوت يرفعه مرة ويخفضه أخرى ، حتى أدخله بين أشجار عند بيت السدي ، فرعون ، فخرج جواري آسية امرأة فرعون يغسلن ، فوجدن التابوت ، فأدخلنه إلى آسية ، وظنن أن فيه مالا فلما نظرت إليه آسية ، وقعت عليها رحمته فأحبته ; فلما أخبرت به فرعون أراد أن يذبحه ، فلم تزل آسية تكلمه حتى تركه لها ، قال : إني أخاف أن يكون هذا من بني إسرائيل ، وأن يكون هذا الذي على يديه هلاكنا ، فذلك قول الله : ( فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا ) .
وقال آخرون : بل عني به ابنة فرعون .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي معشر ، عن محمد بن قيس ، قال : كانت بنت فرعون برصاء ، فجاءت إلى النيل ، فإذا التابوت في النيل تخفقه الأمواج ، فأخذته بنت فرعون ، فلما فتحت التابوت ، فإذا هي بصبي ، فلما اطلعت في وجهه برأت من البرص ، فجاءت به إلى أمها ، فقالت : إن هذا الصبي مبارك لما نظرت إليه برئت ، فقال فرعون : هذا من صبيان بني إسرائيل ، هلم حتى أقتله ، فقالت : ( قرة عين لي ولك لا تقتلوه ) . [ ص: 523 ]
وقال آخرون : عنى به أعوان فرعون .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : أصبح فرعون في مجلس له كان يجلسه على شفير النيل كل غداة : فبينما هو جالس ، إذ مر النيل بالتابوت يقذف به ، وآسية بنت مزاحم امرأته جالسة إلى جنبه ، فقالت : إن هذا لشيء في البحر ، فأتوني به ، فخرج إليه أعوانه ، حتى جاءوا به ، ففتح التابوت فإذا فيه صبي في مهده ، فألقى الله عليه محبته ، وعطف عليه نفسه ، قالت امرأته آسية : ( لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا ) .
ولا قول في ذلك عندنا أولى بالصواب مما قال الله عز وجل : ( فالتقطه آل فرعون )
وقد بينا معنى الآل فيما مضى بما فيه الكفاية من إعادته ههنا .
وقوله : ( ليكون لهم عدوا وحزنا ) فيقول القائل : ليكون موسى لآل فرعون عدوا وحزنا فالتقطوه ، فيقال : ( فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا ) قيل : إنهم حين التقطوه لم يلتقطوه لذلك ، بل لما تقدم ذكره ، ولكنه إن شاء الله كما حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة عن ابن إسحاق ، في قوله : ( فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا ) قال : ليكون في عاقبة أمره عدوا وحزنا لما أراد الله به ، وليس لذلك أخذوه ، ولكن امرأة فرعون قالت : ( قرة عين لي ولك ) فكان قول الله : ( ليكون لهم عدوا وحزنا ) لما هو كائن في عاقبة أمره لهم ، وهو كقول الآخر إذا قرعه لفعل كان فعله وهو يحسب محسنا في فعله ، فأداه فعله ذلك إلى مساءة مندما له على فعله : فعلت هذا لضر نفسك ، ولتضر به نفسك فعلت . وقد كان الفاعل في حال فعله ذلك عند نفسه يفعله راجيا نفعه ، غير أن العاقبة جاءت بخلاف ما كان يرجو . فكذلك قوله : ( فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا ) إنما هو : فالتقطه آل فرعون ظنا منهم أنهم محسنون إلى أنفسهم ، ليكون قرة عين لهم ، فكانت عاقبة التقاطهم إياه منه هلاكهم على يديه .
وقوله : ( عدوا وحزنا ) يقول : يكون لهم عدوا في دينهم ، وحزنا على ما ينالهم منه من المكروه . [ ص: 524 ]
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا ) عدوا لهم في دينهم ، وحزنا لما يأتيهم .
واختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء أهل المدينة والبصرة ، وبعض أهل الكوفة : ( وحزنا ) بفتح الحاء والزاي . وقرأته عامة قراء الكوفة : " وحزنا " بضم الحاء وتسكين الزاي . والحزن بفتح الحاء والزاي مصدر من حزنت حزنا ، والحزن بضم الحاء وتسكين الزاي الاسم : كالعدم والعدم ، ونحوه .
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان متقاربتا المعنى ، وهما على اختلاف اللفظ فيهما بمنزلة العدم والعدم ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب .
وقوله : ( إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين ) يقول تعالى ذكره : إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا بربهم آثمين ، فلذلك كان لهم موسى عدوا وحزنا .