القول في تأويل قوله تعالى : ( وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين    ( 31 ) اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء واضمم إليك جناحك من الرهب فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه إنهم كانوا قوما فاسقين   ( 32 ) )  [ ص: 574 ] 
يقول تعالى ذكره : نودي موسى   : ( أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين وأن ألق عصاك   ) فألقاها موسى  ، فصارت حية تسعى . 
( فلما رآها ) موسى   ( تهتز ) يقول : تتحرك وتضطرب ( كأنها جان ) والجان واحد الجنان ، وهي نوع معروف من أنواع الحيات ، وهي منها عظام . ومعنى الكلام : كأنها جان من الحيات ( ولى مدبرا ) يقول : ولى موسى  هاربا منها . 
كما حدثنا بشر  ، قال : ثنا يزيد  ، قال : ثنا سعيد  ، عن قتادة   ( ولى مدبرا ) فارا منها ، ( ولم يعقب ) يقول : ولم يرجع على عقبه  . 
وقد ذكرنا الرواية في ذلك ، وما قاله أهل التأويل فيما مضى ، فكرهنا إعادته ، غير أنا نذكر في ذلك بعض ما لم نذكره هنالك . 
حدثنا بشر  ، قال : ثنا يزيد  ، قال : ثنا سعيد  ، عن قتادة   ( ولم يعقب   ) يقول : ولم يعقب ، أي لم يلتفت من الفرق  . 
حدثنا موسى  ، قال : ثنا عمرو  ، قال : ثنا أسباط  ، عن  السدي   ( ولم يعقب ) يقول : لم ينتظر  . 
وقوله : ( يا موسى أقبل ولا تخف   ) يقول تعالى ذكره : فنودي موسى   : يا موسى  أقبل إلي ولا تخف من الذي تهرب منه ( إنك من الآمنين   ) من أن يضرك ، إنما هو عصاك . 
وقوله : ( اسلك يدك في جيبك   ) يقول : أدخل يدك ، وفيه لغتان : سلكته ، وأسلكته ( في جيبك ) يقول : في جيب قميصك . 
كما حدثنا بشر  ، قال : ثنا يزيد  ، قال : ثنا سعيد  ، عن قتادة   ( اسلك يدك في جيبك   ) : أي في جيب قميصك  . 
وقد بينا فيما مضى السبب الذي من أجله أمر أن يدخل يده في الجيب دون الكم . 
وقوله : ( تخرج بيضاء من غير سوء   ) يقول : تخرج بيضاء من غير برص . 
كما حدثنا بشر  ، قال : ثنا ابن المفضل  ، قال : ثنا قرة بن خالد  ، عن الحسن ،  في قوله : ( اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء   ) قال : فخرجت كأنها المصباح ، فأيقن موسى  أنه لقي ربه  . 
وقوله : ( واضمم إليك جناحك   ) يقول : واضمم إليك يدك . 
كما حدثنا القاسم  ، قال : ثنا الحسين  ، قال : ثني حجاج ،  عن  ابن جريج ،  قال :  [ ص: 575 ] قال ابن عباس   ( واضمم إليك جناحك   ) قال : يدك  . 
حدثنا ابن حميد ،  قال : ثنا جرير  ، عن ليث  ، عن مجاهد   ( واضمم إليك جناحك   ) قال : وجناحاه : الذراع . والعضد : هو الجناح . والكف : اليد ، اضمم ( يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء   )  . 
وقوله : ( من الرهب   ) يقول : من الخوف والفرق الذي قد نالك من معاينتك ما عاينت من هول الحية . 
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . 
ذكر من قال ذلك : 
حدثنا محمد بن عمرو  ، قال : ثنا أبو عاصم ،  قال : حدثنا عيسى   ; وحدثني الحارث  ، قال : ثنا الحسن  قال : ثنا ورقاء  جميعا ، عن ابن أبي نجيح ،  عن مجاهد ،  في قوله : ( من الرهب   ) قال : الفرق  . 
حدثنا القاسم  ، قال : ثنا الحسين  ، قال : ثنا حجاج ،  عن  ابن جريج ،  عن مجاهد ،  مثله . 
حدثنا بشر  ، قال : ثنا يزيد  ، قال : ثنا سعيد  ، عن قتادة   ( واضمم إليك جناحك من الرهب   ) : أي من الرعب  . 
حدثني يونس  ، قال : أخبرنا ابن وهب ،  قال : قال ابن زيد ،  في قوله : ( من الرهب   ) قال : مما دخله من الفرق من الحية والخوف ، وقال : ذلك الرهب ، وقرأ قول الله : ( يدعوننا رغبا ورهبا   ) قال : خوفا وطمعا  . 
واختلف القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء أهل الحجاز  والبصرة   : " من الرهب " بفتح الراء والهاء . وقرأته عامة قراء الكوفة   : " من الرهب " بضم الراء وتسكين الهاء ، والقول في ذلك أنهما قراءتان متفقتا المعنى مشهورتان في قراء الأمصار ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب . 
وقوله : ( فذانك برهانان من ربك   ) يقول تعالى ذكره : فهذان اللذان أريتكهما يا موسى  من تحول العصا حية ، ويدك وهي سمراء بيضاء تلمع من غير برص ، برهانان : يقول : آيتان وحجتان . وأصل البرهان : البيان ، يقال للرجل يقول القول إذا سئل الحجة عليه : هات برهانك على ما تقول : أي هات تبيان ذلك ومصداقه .  [ ص: 576 ] 
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . 
ذكر من قال ذلك : 
حدثنا موسى  ، قال : ثنا عمرو  ، قال : ثنا أسباط  ، عن  السدي   ( فذانك برهانان من ربك   ) العصا واليد آيتان  . 
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا الحسين  ، قال : ثنا ورقاء  ، عن ابن أبي نجيح ،  عن مجاهد ،  في قول الله ( فذانك برهانان من ربك   ) تبيانان من ربك  . 
حدثنا ابن حميد ،  قال : ثنا سلمة  ، عن ابن إسحاق   ( فذانك برهانان من ربك   ) هذان برهانان  . 
حدثني يونس  ، قال : أخبرنا ابن وهب ،  قال : قال ابن زيد ،  في قوله : ( فذانك برهانان من ربك   ) فقرأ : ( هاتوا برهانكم   ) على ذلك آية نعرفها ، وقال : ( برهانان   ) آيتان من الله  . 
واختلفت القراء في قراءة قوله : ( فذانك ) فقرأته عامة قراء الأمصار ، سوى ابن كثير  وأبي عمرو   : ( فذانك ) بتخفيف النون ، لأنها نون الاثنين ، وقرأه ابن كثير  وأبو عمرو   : " فذانك " بتشديد النون . 
واختلف أهل العربية في وجه تشديدها ، فقال بعض نحويي البصرة   : ثقل النون من ثقلها للتوكيد ، كما أدخلوا اللام في ذلك . وقال بعض نحويي الكوفة   : شددت فرقا بينها وبين النون التي تسقط للإضافة ، لأن هاتان وهذان لا تضاف . وقال آخر منهم : هو من لغة من قال : هذاآ قال ذلك ، فزاد على الألف ألفا ، كذا زاد على النون نونا ليفصل بينهما وبين الأسماء المتمكنة ، وقال في ( ذانك ) إنما كانت ذلك فيمن قال : هذان يا هذا ، فكرهوا تثنية الإضافة فأعقبوها باللام ، لأن الإضافة تعقب باللام . وكان أبو عمرو  يقول : التشديد في النون في " ذانك " من لغة قريش   . 
يقول : ( إلى فرعون وملئه   ) إلى فرعون  وأشراف قومه ، حجة عليهم ، ودلالة على حقيقة نبوتك يا موسى   ( إنهم كانوا قوما فاسقين   ) يقول : إن فرعون  وملأه كانوا قوما كافرين . 
				
						
						
