يقول تعالى ذكره : وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس من الدنيا ، وغناه وكثرة ماله ، وما بسط له منها بالأمس ، يعني قبل أن ينزل به ما نزل من سخط الله وعقابه ، يقولون : ويكأن الله . . .
اختلف في معنى ( ويكأن الله ) فأما قتادة ، فإنه روي عنه في ذلك قولان : أحدهما ما :
حدثنا به ابن بشار ، قال : ثنا محمد بن خالد بن عثمة ، قال : ثنا ، عن سعيد بن بشير قتادة ، قال في قوله : ( ويكأنه ) قال : ألم تر أنه .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( ويكأنه ) أولا ترى أنه .
وحدثني إسماعيل بن المتوكل الأشجعي ، قال : ثنا محمد بن كثير ، قال : ثني معمر ، عن قتادة ( ويكأنه ) قال : ألم تر أنه .
والقول الآخر : ما حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : ( ويكأن الله يبسط الرزق ) قال : أولم يعلم أن الله ( ويكأنه ) أولا يعلم أنه .
وتأول هذا التأويل الذي ذكرناه عن قتادة في ذلك أيضا بعض أهل المعرفة بكلام العرب من أهل البصرة ، واستشهد لصحة تأويله ذلك كذلك ، بقول الشاعر :
سألتاني الطلاق أن رأتاني قل مالي قد جئتما بنكر ويكأن من يكن له نشب يح
بب ومن يفتقر يعش عيش ضر
وقال بعض نحويي الكوفة : " ويكأن " في كلام العرب : تقرير ، كقول الرجل : أما ترى إلى صنع الله وإحسانه ، وذكر أنه أخبره من سمع أعرابية تقول لزوجها : أين ابننا ؟ فقال : ويكأنه وراء البيت . معناه : أما ترينه وراء البيت ؟ قال : وقد يذهب بها بعض النحويين إلى أنها كلمتان ، يريد : ويك أنه ، كأنه أراد : ويلك ، فحذف اللام ، فتجعل " أن " مفتوحة بفعل مضمر ، كأنه قال : ويلك أعلم أنه وراء البيت ، فأضمر " أعلم " .
قال : ولم نجد العرب تعمل الظن مضمرا ، ولا العلم وأشباهه في " أن " ، وذلك أنه يبطل إذا كان بين الكلمتين ، أو في آخر الكلمة ، فلما أضمر جرى مجرى المتأخر ; ألا ترى أنه لا يجوز في الابتداء أن يقول : يا هذا أنك قائم ، ويا هذا أن قمت ، يريد : علمت ، أو أعلم ، أو ظننت ، أو أظن ، وأما حذف اللام من قولك : ويلك حتى تصير : ويك ، فقد تقوله : العرب ، لكثرتها في الكلام ، قال عنترة :
ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها قول الفوارس ويك عنتر أقدم
قال : وقال آخرون : إن معنى قوله : ( ويكأن ) : " وي " منفصلة من كأن ، كقولك للرجل : وي أما ترى ما بين يديك ؟ فقال : " وي " ثم استأنف ، كأن الله يبسط الرزق ، وهي تعجب ، وكأن في معنى الظن والعلم ، فهذا وجه يستقيم . قال : ولم تكتبها العرب منفصلة ، ولو كانت على هذا لكتبوها منفصلة ، وقد يجوز أن تكون كثر بها الكلام ، فوصلت بما ليست منه .
وقال آخر منهم : إن " وي " : تنبيه ، وكأن حرف آخر غيره ، بمعنى : لعل الأمر كذا ، وأظن الأمر كذا ، لأن كأن بمنزلة أظن وأحسب وأعلم .
وأولى الأقوال في ذلك بالصحة : القول الذي ذكرنا عن قتادة ، من أن معناه : ألم تر ، ألم تعلم ، للشاهد الذي ذكرنا فيه من قول الشاعر ، والرواية عن العرب ; وأن " ويكأن " في خط المصحف حرف واحد . ومتى وجه ذلك إلى غير التأويل الذي ذكرنا عن قتادة ، فإنه يصير حرفين ، وذلك أنه إن وجه إلى قول من تأوله بمعنى : ويلك اعلم أن الله ; وجب أن يفصل " ويك " من " أن " ، وذلك خلاف خط جميع المصاحف ، مع فساده في العربية ، لما ذكرنا . وإن وجه إلى قول من يقول : " وي " بمعنى التنبيه ، ثم استأنف الكلام بكأن ، وجب أن يفصل " وي " من " كأن " ، وذلك أيضا خلاف خطوط المصاحف كلها .
فإذا كان ذلك حرفا واحدا ، فالصواب من التأويل : ما قاله قتادة ، وإذ كان ذلك هو الصواب ، فتأويل الكلام : وأصبح الذين تمنوا مكان قارون وموضعه من الدنيا بالأمس ، يقولون لما عاينوا ما أحل الله به من نقمته : ألم تر يا هذا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ، فيوسع عليه ، لا لفضل منزلته عنده ، ولا لكرامته عليه ، كما كان بسط من ذلك لقارون ، لا لفضله ولا لكرامته عليه ( ويقدر ) يقول : ويضيق على من يشاء من خلقه ذلك ، ويقتر عليه ، لا لهوانه ، ولا لسخطه عمله .
وقوله : ( لولا أن من الله علينا ) يقول : لولا أن تفضل علينا ، فصرف عنا ما كنا نتمناه بالأمس ( لخسف بنا ) . [ ص: 637 ]
واختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء الأمصار سوى شيبة : " لخسف بنا " بضم الخاء ، وكسر السين وذكر عن شيبة والحسن : ( لخسف بنا ) بفتح الخاء والسين ، بمعنى : لخسف الله بنا .
وقوله : ( ويكأنه لا يفلح الكافرون ) يقول : ألم تعلم أنه لا يفلح الكافرون ، فتنجح طلباتهم .