القول في تأويل قوله تعالى : ( وما يستوي الأعمى والبصير ( 19 ) ولا الظلمات ولا النور ( 20 ) ولا الظل ولا الحرور ( 21 ) وما يستوي الأحياء ولا الأموات إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور ( 22 ) إن أنت إلا نذير ( 23 ) ) [ ص: 457 ]
يقول - تعالى ذكره - : ( وما يستوي الأعمى ) عن دين الله الذي ابتعث به نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - ( والبصير ) الذي قد أبصر فيه رشده ; فاتبع محمدا وصدقه ، وقبل عن الله ما ابتعثه به ( ولا الظلمات ) يقول : وما تستوي ظلمات الكفر ونور الإيمان ( ولا الظل ) قيل : ولا الجنة ( ولا الحرور ) قيل : النار ، كأن معناه عندهم : وما تستوي الجنة والنار ، والحرور بمنزلة السموم ، وهي الرياح الحارة . وذكر عن أبو عبيدة معمر بن المثنى ، أنه كان يقول : الحرور بالليل والسموم بالنهار . وأما رؤبة بن العجاج ، أبو عبيدة فإنه قال : الحرور في هذا الموضع والنهار مع الشمس ، وأما الفراء فإنه كان يقول : الحرور يكون بالليل والنهار ، والسموم لا يكون بالليل إنما يكون بالنهار .
والقول في ذلك عندي : أن الحرور يكون بالليل والنهار ، غير أنه في هذا الموضع بأن يكون كما قال أبو عبيدة : أشبه مع الشمس لأن الظل إنما يكون في يوم شمس ، فذلك يدل على أنه أريد بالحرور : الذي يوجد في حال وجود الظل .
وما يستوي الأحياء ولا الأموات ) يقول : وما يستوي وقوله ( بالإيمان بالله ورسوله ، ومعرفة تنزيل الله ، الأحياء القلوب لغلبة الكفر عليها ، حتى صارت لا تعقل عن الله أمره ونهيه ، ولا تعرف الهدى من الضلال ، وكل هذه أمثال ضربها الله للمؤمن والإيمان والكافر والكفر . والأموات القلوب
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي قال : ثني عمي قال : ثني [ ص: 458 ] أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله ( وما يستوي الأعمى والبصير ) الآية قال : هو مثل ضربه الله لأهل الطاعة وأهل المعصية ; يقول : وما يستوي الأعمى والظلمات والحرور ولا الأموات ، فهو مثل أهل المعصية ، ولا يستوي البصير ولا النور ولا الظل والأحياء ، فهو مثل أهل الطاعة .
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله ( وما يستوي الأعمى ) الآية ، خلقا فضل بعضه على بعض ; فأما المؤمن فعبد حي الأثر ، حي البصر ، حي النية ، حي العمل ، وأما الكافر فعبد ميت ; ميت البصر ، ميت القلب ، ميت العمل .
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله ( وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وما يستوي الأحياء ولا الأموات ) قال : هذا مثل ضربه الله ; فالمؤمن بصير في دين الله ، والكافر أعمى ، كما لا يستوي الظل ولا الحرور ولا الأحياء ولا الأموات ، فكذلك لا يستوي هذا المؤمن الذي يبصر دينه ولا هذا الأعمى ، وقرأ ( أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس ) قال : الهدى الذي هداه الله به ونور له ، هذا مثل ضربه الله لهذا المؤمن الذي يبصر دينه ، وهذا الكافر الأعمى ، فجعل المؤمن حيا وجعل الكافر ميتا ميت القلب ( أومن كان ميتا فأحييناه ) قال : هديناه إلى الإسلام كمن مثله في الظلمات أعمى القلب وهو في الظلمات ، أهذا وهذا سواء؟ .
واختلف أهل العربية في وجه دخول " لا " مع حرف العطف في قوله ( ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور ) فقال بعض نحويي البصرة : قال : ولا الظل ولا الحرور ، فيشبه أن تكون " لا " زائدة ، لأنك لو قلت : لا يستوي عمرو ولا زيد في هذا المعنى لم يجز إلا أن تكون " لا " زائدة ، وكان غيره يقول : إذا لم تدخل " لا " مع الواو ، فإنما لم تدخل اكتفاء بدخولها في أول الكلام ، فإذا أدخلت فإنه يراد بالكلام أن كل واحد منهما لا يساوي صاحبه ، [ ص: 459 ] فكان معنى الكلام إذا أعيدت " لا " مع الواو عند صاحب هذا القول لا يساوي الأعمى البصير ولا يساوي البصير الأعمى ، فكل واحد منهما لا يساوي صاحبه .
إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور ) يقول - تعالى ذكره - : كما لا يقدر أن يسمع من في القبور كتاب الله فيهديهم به إلى سبيل الرشاد ، فكذلك لا يقدر أن ينفع بمواعظ الله وبيان حججه من كان ميت القلب من أحياء عباده ، عن معرفة الله ، وفهم كتابه وتنزيله ، وواضح حججه . وقوله (
كما حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور ) كذلك الكافر لا يسمع ، ولا ينتفع بما يسمع .
وقوله ( إن أنت إلا نذير ) يقول - تعالى ذكره - لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - : ما أنت إلا نذير تنذر هؤلاء المشركين بالله الذين طبع الله على قلوبهم ، ولم يرسلك ربك إليهم إلا لتبلغهم رسالته ، ولم يكلفك من الأمر ما لا سبيل لك إليه ، فأما اهتداؤهم وقبولهم منك ما جئتهم به فإن ذلك بيد الله لا بيدك ولا بيد غيرك من الناس ; فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن هم لم يستجيبوا لك .