القول في تأويل قوله تعالى : ( والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم ( 39 ) لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون ( 40 ) )
اختلفت القراء في قراءة قوله ( والقمر قدرناه منازل ) فقرأه بعض المكيين وبعض المدنيين وبعض البصريين : ( والقمر ) رفعا عطفا بها على الشمس ، إذ كانت الشمس معطوفة على الليل ، فأتبعوا القمر أيضا الشمس في الإعراب ، لأنه أيضا من الآيات ، كما الليل والنهار آيتان ، فعلى هذه القراءة تأويل الكلام : وآية لهم القمر قدرناه منازل . وقرأ ذلك بعض المكيين وبعض المدنيين وبعض البصريين ، وعامة قراء الكوفة نصبا ( والقمر قدرناه ) بمعنى : وقدرنا القمر منازل ، كما فعلنا ذلك بالشمس ، فردوه على الهاء من الشمس في المعنى ، لأن الواو التي فيها للفعل المتأخر .
[ ص: 518 ] والصواب من القول في ذلك عندنا أنهما قراءتان مشهورتان صحيحتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب ، فتأويل الكلام : وآية لهم : تقديرنا القمر منازل للنقصان بعد تناهيه وتمامه واستوائه ، حتى عاد كالعرجون القديم ; والعرجون : من العذق من الموضع النابت في النخلة إلى موضع الشماريخ ; وإنما شبهه - جل ثناؤه - بالعرجون القديم ، والقديم هو اليابس ، لأن ذلك من العذق ، لا يكاد يوجد إلا متقوسا منحنيا إذا قدم ويبس ، ولا يكاد أن يصاب مستويا معتدلا كأغصان سائر الأشجار وفروعها ، فكذلك القمر إذا كان في آخر الشهر قبل استسراره ، صار في انحنائه وتقوسه نظير ذلك العرجون .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني علي قال : ثنا أبو صالح قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله ( حتى عاد كالعرجون القديم ) يقول : أصل العذق العتيق .
حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي قال : ثني عمي قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله ( حتى عاد كالعرجون القديم ) يعني بالعرجون : العذق اليابس .
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : ثنا عن ابن علية ، أبي رجاء ، عن الحسن في قوله ( والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم ) قال : كعذق النخلة إذا قدم فانحنى .
حدثني قال : ثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي أبو يزيد الخراز ، يعني خالد بن حيان الرقي ، عن جعفر بن برقان ، عن يزيد بن الأصم في قوله ( حتى عاد كالعرجون القديم ) قال : عذق النخلة إذا قدم انحنى .
حدثنا ابن حميد قال : ثنا قال : ثنا يحيى بن واضح عيسى بن عبيد ، عن عكرمة في قوله ( كالعرجون القديم ) قال : النخلة القديمة .
[ ص: 519 ] حدثني محمد بن عمارة الأسدي قال : ثنا قال : أخبرنا عبيد الله بن موسى إسرائيل ، عن أبي يحيى ، عن مجاهد ( كالعرجون القديم ) قال : العذق اليابس .
حدثني محمد بن عمر بن علي المقدمي ، وابن سنان القزاز ، قالا : ثنا أبو عاصم ، والمقدمي قال : سمعت أبا عاصم يقول : سمعت سليمان التيمي في قوله ( حتى عاد كالعرجون القديم ) قال : العذق .
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( حتى عاد كالعرجون القديم ) قال : قدره الله منازل ، فجعل ينقص حتى كان مثل عذق النخلة ، شبهه بعذق النخلة .
وقوله ( لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ) يقول - تعالى ذكره - : لا الشمس يصلح لها إدراك القمر ، فيذهب ضوءها بضوئه ، فتكون الأوقات كلها نهارا لا ليل فيها ( ولا الليل سابق النهار ) يقول - تعالى ذكره - : ولا الليل بفائت النهار حتى تذهب ظلمته بضيائه ، فتكون الأوقات كلها ليلا .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل على اختلاف منهم في ألفاظهم في تأويل ذلك ، إلا أن معاني عامتهم الذي قلناه .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد قال : ثنا حكام عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بزة ، عن مجاهد في قوله ( لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ) قال : لا يشبه ضوءها ضوء الآخر ، لا ينبغي لها ذلك .
حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله ( لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ) قال : لا يشبه ضوء أحدهما ضوء الآخر ، ولا ينبغي ذلك لهما
وفي قوله ( ولا الليل سابق النهار ) قال : يتطالبان حثيثين ينسلخ أحدهما من الآخر .
[ ص: 520 ] حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : ثنا الأشجعي ، عن سفيان ، عن إسماعيل ، عن أبي صالح ( لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار ) قال : لا يدرك هذا ضوء هذا ولا هذا ضوء هذا .
حدثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله ( لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ) وهذا في ضوء القمر وضوء الشمس ، إذا طلعت الشمس لم يكن للقمر ضوء ، وإذا طلع القمر بضوئه لم يكن للشمس ضوء ( ولا الليل سابق النهار ) قال : في قضاء الله وعلمه أن لا يفوت الليل النهار حتى يدركه ، فيذهب ظلمته ، وفي قضاء الله أن لا يفوت النهار الليل حتى يدركه ، فيذهب بضوئه .
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار ) ولكل حد وعلم لا يعدوه ، ولا يقصر دونه ; إذا جاء سلطان هذا ، ذهب سلطان هذا ، وإذا جاء سلطان هذا ذهب سلطان هذا .
وروي عن ابن عباس في ذلك ما حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي قال : ثني عمي قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله ( لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار ) يقول : إذا اجتمعا في السماء كان أحدهما بين يدي الآخر ، فإذا غابا غاب أحدهما بين يدي الآخر ، وأن من قوله ( أن تدرك ) في موضع رفع بقوله : ينبغي .
وقوله ( وكل في فلك يسبحون ) يقول : وكل ما ذكرنا من الشمس والقمر والليل والنهار في فلك يجرون .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا قال : ثنا محمد بن المثنى أبو النعمان الحكم بن عبد الله العجلي قال : ثنا شعبة ، عن مسلم البطين ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ( وكل في فلك يسبحون ) قال : في [ ص: 521 ] فلك كفلك المغزل .
حدثنا قال : ثنا ابن المثنى عبد الصمد قال : ثنا شعبة قال : ثنا الأعمش ، عن مسلم البطين ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، مثله .
حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : مجرى كل واحد منهما ، يعني الليل والنهار ، في فلك يسبحون : يجرون .
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( وكل في فلك يسبحون ) أي : في فلك السماء يسبحون .
حدثني علي قال : ثنا أبو صالح قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله ( وكل في فلك يسبحون ) دورانا ، يقول : دورانا يسبحون ; يقول : يجرون .
حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي قال : ثني عمي قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله ( وكل في فلك يسبحون ) يعني : كل في فلك في السماوات ؟ .