يقول - تعالى ذكره - : ( وما ينظر هؤلاء ) المشركون بالله من قريش ( إلا صيحة واحدة ) يعني بالصيحة الواحدة : النفخة الأولى في الصور ( ما لها من فواق ) يقول : ما لتلك الصيحة من فيقة ، يعني من فتور ولا انقطاع .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله [ ص: 161 ] ( وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ) يعني : أمة محمد ( ما لها من فواق )
حدثنا أبو كريب قال : ثنا المحاربي عن إسماعيل بن رافع عن يزيد بن زياد عن رجل من الأنصار ، عن عن محمد بن كعب القرظي قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أبي هريرة إسرافيل ، فهو واضعه على فيه شاخص ببصره إلى العرش ينتظر متى يؤمر " . قال : يا رسول الله وما الصور ؟ قال : " قرن " قال : كيف هو ؟ قال : " قرن عظيم ينفخ فيه ثلاث نفخات : نفخة الفزع الأولى ، والثانية : نفخة الصعق ، والثالثة : نفخة القيام لرب العالمين ، يأمر الله إسرافيل بالنفخة الأولى ، فيقول : انفخ نفخة الفزع ، فيفزع أهل السماوات وأهل الأرض إلا من شاء الله ، ويأمره الله فيديمها ويطولها ، فلا يفتر وهي التي يقول الله ( أبو هريرة ما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق ) . واختلف أهل التأويل في معنى قوله ( إن الله لما فرغ من خلق السماوات والأرض خلق الصور ، فأعطاه ما لها من فواق ) فقال بعضهم : يعني بذلك : ما لتلك الصيحة من ارتداد ولا رجوع .
ذكر من قال ذلك :
حدثني علي قال : ثنا عبد الله قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ( ما لها من فواق ) يقول : من ترداد .
حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي قال : ثني عمي قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ( ما لها من فواق ) يقول : ما لها من رجعة .
حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله ( ما لها من فواق ) قال : من رجوع .
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( ما لها من فواق ) يعني الساعة ما لها من رجوع ولا ارتداد .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ما لهؤلاء المشركين بعد ذلك إفاقة ولا [ ص: 162 ] رجوع إلى الدنيا .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين قال : ثنا أحمد بن المفضل قال : ثنا أسباط ، عن ( السدي ما لها من فواق ) يقول : ليس لهم بعدها إفاقة ولا رجوع إلى الدنيا .
وقال آخرون : الصيحة في هذا الموضع : العذاب . ومعنى الكلام : ما ينتظر هؤلاء المشركون إلا عذابا يهلكهم ، لا إفاقة لهم منه .
ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله ( ما لها من فواق ) قال : ما ينتظرون إلا صيحة واحدة ما لها من فواق ، يا لها من صيحة لا يفيقون فيها كما يفيق الذي يغشى عليه وكما يفيق المريض تهلكهم ، ليس لهم فيها إفاقة .
واختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء المدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة ( من فواق ) بفتح الفاء . وقرأته عامة أهل الكوفة : " من فواق " بضم الفاء .
واختلفت أهل العربية في معناها إذا قرئت بفتح الفاء وضمها ، فقال بعض البصريين منهم : معناها ، إذا فتحت الفاء : ما لها من راحة ، وإذا ضمت جعلها فواق ناقة ما بين الحلبتين . وكان بعض الكوفيين منهم يقول : معنى الفتح والضم فيها واحد ، وإنما هما لغتان مثل السواف والسواف ، وجمام المكوك وجمامه ، وقصاص الشعر وقصاصه .
والصواب من القول في ذلك أنهما لغتان ، وذلك أنا لم نجد أحدا من المتقدمين على اختلافهم في قراءته يفرقون بين معنى الضم فيه والفتح ، ولو كان مختلف المعنى باختلاف الفتح فيه والضم ، لقد كانوا فرقوا بين ذلك في المعنى .
[ ص: 163 ] فإذ كان ذلك كذلك ، فبأي القراءتين قرأ القارئ فمصيب ، وأصل ذلك من قولهم : أفاقت الناقة ، فهي تفيق إفاقة ، وذلك إذا ردت ما بين الرضعتين ولدها إلى الرضعة الأخرى ، وذلك أن ترضع البهيمة أمها ، ثم تتركها حتى ينزل شيء من اللبن ، فتلك الإفاقة ، يقال إذا اجتمع ذلك في الضرع فيقة ، كما قال الأعشى :
حتى إذا فيقة في ضرعها اجتمعت جاءت لترضع شق النفس لو رضعا
وقوله ( وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب ) يقول - تعالى ذكره - : وقال هؤلاء المشركون بالله من قريش : يا ربنا عجل لنا كتبنا قبل يوم القيامة . والقط في كلام العرب : الصحيفة المكتوبة ، ومنه قول الأعشى :
ولا الملك النعمان يوم لقيته بنعمته يعطي القطوط ويأفق
[ ص: 164 ] يعني بالقطوط : جمع القط ، وهي الكتب بالجوائز .
واختلف أهل التأويل في المعنى الذي أراد هؤلاء المشركون بمسألتهم تعجيل القط لهم ، فقال بعضهم : إنما سألوا ربهم تعجيل حظهم من العذاب الذي أعد لهم في الآخرة في الدنيا ، كما قال بعضهم : ( إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ) .
[ ص: 165 ] ذكر من قال ذلك :
حدثني علي قال : ثنا عبد الله قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله ( ربنا عجل لنا قطنا ) يقول : العذاب .
حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي قال : ثني عمي قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله ( وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب ) قال : سألوا الله أن يعجل لهم العذاب قبل يوم القيامة .
حدثنا ابن حميد قال : ثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن عن القاسم بن أبي بزة عن مجاهد ، في قوله ( لنا قطنا ) قال : عذابنا .
حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله ( عجل لنا قطنا ) قال : عذابنا .
حدثني بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله ( وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب ) أي نصيبنا حظنا من العذاب قبل يوم القيامة قال : قد قال ذلك أبو جهل : اللهم إن كان ما يقول محمد حقا ( فأمطر علينا حجارة من السماء ) . . . الآية .
وقال آخرون : بل إنما سألوا ربهم تعجيل أنصبائهم ومنازلهم من الجنة حتى يروها فيعلموا حقيقة ما يعدهم محمد - صلى الله عليه وسلم - فيؤمنوا حينئذ به ويصدقوه .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن الحسين قال : ثنا أحمد بن المفضل قال : ثنا أسباط ، عن قوله ( السدي عجل لنا قطنا ) قالوا : أرنا منازلنا في الجنة حتى نتابعك .
وقال آخرون : مسألتهم نصيبهم من الجنة ، ولكنهم سألوا تعجيله لهم في الدنيا .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار قال : ثنا عبد الرحمن قال : ثنا سفيان ، عن ثابت الحداد قال : سمعت سعيد بن جبير يقول في قوله ( عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب ) قال : نصيبنا من الجنة .
وقال آخرون : بل سألوا ربهم تعجيل الرزق .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمر بن علي قال : ثنا أشعث السجستاني قال : ثنا شعبة عن إسماعيل بن أبي خالد في قوله ( عجل لنا قطنا ) قال : رزقنا .
وقال آخرون : سألوا أن يعجل لهم كتبهم التي قال الله ( فأما من أوتي كتابه بيمينه ) ( وأما من أوتي كتابه بشماله ) في الدنيا ، لينظروا بأيمانهم يعطونها أم بشمائلهم ، ولينظروا من أهل الجنة هم ، أم من أهل النار قبل يوم القيامة - استهزاء منهم بالقرآن وبوعد الله .
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب أن يقال : إن القوم سألوا ربهم تعجيل صكاكهم بحظوظهم من الخير أو الشر الذي وعد الله عباده أن يؤتيهموها في الآخرة قبل يوم القيامة في الدنيا - استهزاء بوعيد الله .
وإنما قلنا إن ذلك كذلك ، لأن القط هو ما وصفت من الكتب بالجوائز والحظوظ ، وقد أخبر الله عن هؤلاء المشركين أنهم سألوه تعجيل ذلك لهم ، ثم أتبع ذلك قوله لنبيه : ( اصبر على ما يقولون ) فكان معلوما بذلك أن مسألتهم [ ص: 166 ] ما سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - لو لم تكن على وجه الاستهزاء منهم لم يكن بالذي يتبع الأمر بالصبر عليه ، ولكن لما كان ذلك استهزاء ، وكان فيه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أذى ، أمره الله بالصبر عليه حتى يأتيه قضاؤه فيهم ، ولما لم يكن في قوله ( عجل لنا قطنا ) بيان أي القطوط إرادتهم ، لم يكن توجيه ذلك إلى أنه معني به القطوط ببعض معاني الخير أو الشر ، فلذلك قلنا إن مسألتهم كانت بما ذكرت من حظوظهم من الخير والشر .