القول في تأويل قوله تعالى : ( اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب    ( 17 ) إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق   ( 18 ) والطير محشورة كل له أواب   ( 19 ) وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب   ( 20 ) ) 
يقول - تعالى ذكره - لنبيه محمد   - صلى الله عليه وسلم - : اصبر يا محمد  على ما يقول مشركو قومك لك مما تكره قيلهم لك ، فإنا ممتحنوك بالمكاره امتحاننا سائر رسلنا قبلك ، ثم جاعلو العلو والرفعة والظفر لك على من كذبك وشاقك ، سنتنا في الرسل الذين أرسلناهم إلى عبادنا قبلك ، فمنهم عبدنا أيوب وداود بن إيشا ، فاذكره ذا الأيد ، ويعني بقوله ( ذا الأيد ) ذا القوة والبطش الشديد في ذات الله والصبر على طاعته . 
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . 
ذكر من قال ذلك : 
حدثني محمد بن سعد  قال : ثني أبي قال : ثني عمي قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس   ( داود ذا الأيد ) قال : ذا القوة  . 
حدثني محمد بن عمرو  قال : ثني أبو عاصم  قال : ثنا عيسى ،  وحدثني الحارث  قال : ثنا الحسن  قال : ثنا ورقاء  جميعا ، عن ابن أبي نجيح ،   [ ص: 167 ] عن مجاهد  قوله ( ذا الأيد ) قال ذا القوة في طاعة الله  . 
حدثنا بشر  قال : ثنا يزيد  قال : ثنا سعيد ،  عن قتادة   ( واذكر عبدنا داود ذا الأيد   ) قال : أعطي قوة في العبادة ، وفقها في الإسلام  . 
وقد ذكر لنا أن داود   - صلى الله عليه وسلم - كان يقوم الليل ويصوم نصف الدهر . 
حدثنا محمد بن الحسين  قال : ثنا أحمد بن المفضل  قال : ثنا أسباط ،  عن  السدي  قوله ( داود ذا الأيد   ) ذا القوة في طاعة الله  . 
 [ ص: 168 ] حدثني يونس  قال : أخبرنا ابن وهب  قال : قال ابن زيد ،  في قوله ( داود ذا الأيد   ) قال : ذا القوة في عبادة الله ، الأيد : القوة ، وقرأ : ( والسماء بنيناها بأيد   ) قال : بقوة  . 
وقوله ( إنه أواب ) يقول : إن داود  رجاع لما يكرهه الله إلى ما يرضيه أواب ، وهو من قولهم : آب الرجل إلى أهله : إذا رجع . 
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . 
ذكر من قال ذلك : 
حدثنا محمد بن عمرو  قال : ثنا أبو عاصم  قال : ثنا عيسى ،  وحدثني الحارث  قال : ثنا الحسن  قال : ثنا ورقاء  جميعا ، عن ابن أبي نجيح ،  عن مجاهد   ( إنه أواب ) قال : رجاع عن الذنوب  . 
حدثني الحارث  قال : ثنا الحسن  قال : ثنا ورقاء  جميعا ، عن ابن أبي نجيح ،  عن مجاهد   ( إنه أواب ) قال : الراجع عن الذنوب  . 
حدثنا بشر  قال : ثنا يزيد  قال : ثنا سعيد ،  عن قتادة  قوله ( إنه أواب ) : أي كان مطيعا لله كثير الصلاة  . 
حدثنا محمد بن الحسين  قال : ثنا أحمد بن المفضل  قال : ثنا أسباط ،  عن  السدي  قوله ( إنه أواب ) قال : المسبح  . 
حدثني يونس  قال : أخبرنا ابن وهب  قال : قال ابن زيد ،  في قوله ( إنه أواب ) قال : الأواب التواب الذي يئوب إلى طاعة الله ويرجع إليها ، ذلك الأواب قال : والأواب : المطيع  . 
وقوله ( إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق   ) يقول - تعالى ذكره - : إنا سخرنا الجبال يسبحن مع داود  بالعشي ، وذلك من وقت العصر إلى الليل ، والإشراق ، وذلك بالغداة وقت الضحى . 
ذكر أن داود  كان إذا سبح سبحت معه الجبال . 
كما حدثنا بشر  قال : ثنا يزيد  قال : ثنا سعيد ،  عن قتادة   ( إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق   ) يسبحن مع داود إذا سبح بالعشي والإشراق  . 
حدثني يونس  قال : أخبرنا ابن وهب  قال : قال ابن زيد ،  في قوله ( بالعشي والإشراق   ) قال : حين تشرق الشمس وتضحى  . 
حدثنا أبو كريب  قال : ثنا محمد بن بشر  عن مسعر بن عبد الكريم  عن موسى بن أبي كثير  عن ابن عباس  أنه بلغه أن أم هانئ  ذكرت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة  ، صلى الضحى ثمان ركعات ، فقال ابن عباس   : قد ظننت أن لهذه الساعة صلاة ، يقول الله : ( يسبحن بالعشي والإشراق    )  . 
حدثنا  ابن عبد الرحيم البرقي  قال : ثنا عمرو بن أبي سلمة  قال : ثنا صدقة  قال : ثني  سعيد بن أبي عروبة  عن أبي المتوكل  عن أيوب بن صفوان  عن  عبد الله بن الحارث بن نوفل  أن ابن عباس  كان لا يصلي الضحى قال : فأدخلته على أم هانئ  ، فقلت : أخبري هذا بما أخبرتني به ، فقالت أم هانئ   : دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح في بيتي ، فأمر بماء فصب في قصعة ، ثم أمر بثوب فأخذ بيني وبينه ، فاغتسل ، ثم رش ناحية البيت فصلى ثمان ركعات ، وذلك من الضحى قيامهن وركوعهن  [ ص: 169 ] وسجودهن وجلوسهن سواء ، قريب بعضهن من بعض ، فخرج ابن عباس  وهو يقول : لقد قرأت ما بين اللوحين ، ما عرفت صلاة الضحى إلا الآن ( يسبحن بالعشي والإشراق   ) وكنت أقول : أين صلاة الإشراق ، ثم قال : بعدهن صلاة الإشراق  . 
حدثنا عمرو بن علي  قال : ثنا عبد الأعلى  قال : ثنا  سعيد بن أبي عروبة  عن متوكل  عن أيوب بن صفوان  مولى عبد الله بن الحارث ،  عن عبد الله بن الحارث ،   " أن أم هانئ  ابنة أبي طالب  حدثت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح دخل عليها . ثم ذكر نحوه " . 
وعن ابن عباس  في قوله ( يسبحن بالعشي   ) مثل ذلك . 
وقوله ( والطير محشورة   ) يقول - تعالى ذكره - : وسخرنا الطير يسبحن معه محشورة ، بمعنى : مجموعة له ، ذكر أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سبح أجابته الجبال ، واجتمعت إليه الطير ، فسبحت معه واجتماعها إليه كان حشرها . وقد ذكرنا أقوال أهل التأويل في معنى الحشر فيما مضى ، فكرهنا إعادته . 
وكان قتادة  يقول في ذلك في هذا الموضع ما حدثنا بشر  قال : ثنا يزيد  قال : ثنا سعيد ،  عن قتادة   ( والطير محشورة   ) : مسخرة . 
وقوله ( كل له أواب   ) يقول : كل ذلك له مطيع رجاع إلى طاعته وأمره . ويعني بالكل : كل الطير . 
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . 
ذكر من قال ذلك : 
حدثنا بشر  قال : ثنا يزيد  قال : ثنا سعيد ،  عن قتادة   ( كل له أواب   ) : أي مطيع  . 
حدثني يونس  قال : أخبرنا ابن وهب  قال : قال ابن زيد ،  في قوله ( والطير محشورة كل له أواب   ) قال : كل له مطيع  . 
 [ ص: 170 ] وقال آخرون : معنى ذلك : كل ذلك لله مسبح . 
ذكر من قال ذلك : 
حدثني محمد بن الحسين  قال : ثنا أحمد بن المفضل  قال : ثنا أسباط ،  عن  السدي  قوله ( والطير محشورة كل له أواب   ) يقول : مسبح لله  . 
وقوله ( وشددنا ملكه   ) اختلف أهل التأويل في المعنى الذي به شدد ملكه ، فقال بعضهم : شدد ذلك بالجنود والرجال ، فكان يحرسه كل يوم وليلة أربعة آلاف ، أربعة آلاف . 
ذكر من قال ذلك : 
حدثنا محمد بن الحسين  قال : ثنا أحمد بن المفضل  قال : ثنا أسباط ،  عن  السدي  قوله ( وشددنا ملكه   ) قال : كان يحرسه كل يوم وليلة أربعة آلاف ، أربعة آلاف  . 
وقال آخرون : كان الذي شدد به ملكه ، أن أعطي هيبة من الناس له لقضية كان قضاها . 
ذكر من قال ذلك : 
حدثني ابن حرب  قال : ثنا موسى  قال : ثنا داود  عن علباء بن أحمر  عن عكرمة  عن ابن عباس  أن رجلا من بني إسرائيل  استعدى على رجل من عظمائهم ، فاجتمعا عند داود  النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال المستعدي : إن هذا اغتصبني بقرا لي ، فسأل داود الرجل عن ذلك فجحده ، فسأل الآخر البينة ، فلم يكن له بينة ، فقال لهما داود   : قوما حتى أنظر في أمركما ، فقاما من عنده ، فأوحى الله إلى داود  في منامه أن يقتل الرجل الذي استعدي عليه ، فقال : هذه رؤيا ولست أعجل حتى أتثبت ، فأوحى الله إلى داود  في منامه مرة أخرى أن يقتل الرجل ، وأوحى الله إليه الثالثة أن يقتله أو تأتيه العقوبة من الله ، فأرسل داود إلى الرجل : إن الله قد أوحى إلي أن أقتلك ،  [ ص: 171 ] فقال الرجل : تقتلني بغير بينة ولا تثبت ؟ ! فقال له داود   : نعم ، والله لأنفذن أمر الله فيك ، فلما عرف الرجل أنه قاتله قال : لا تعجل علي حتى أخبرك ، إني والله ما أخذت بهذا الذنب ، ولكني كنت اغتلت والد هذا فقتلته ، فبذلك قتلت ، فأمر به داود فقتل ، فاشتدت هيبة بني إسرائيل  عند ذلك لداود  ، وشدد به ملكه ، فهو قول الله : ( وشددنا ملكه   )  . 
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله تبارك تعالى أخبر أنه شدد ملك داود  ، ولم يحصر ذلك من تشديده على التشديد بالرجال والجنود دون الهيبة من الناس له ولا على هيبة الناس له دون الجنود . وجائز أن يكون تشديده ذلك كان ببعض ما ذكرنا ، وجائز أن يكون كان بجميعها ، ولا قول أولى في ذلك بالصحة من قول الله ، إذا لم يحصر ذلك على بعض معاني التشديد خبر يجب التسليم له . 
وقوله ( وآتيناه الحكمة   ) اختلف أهل التأويل في معنى الحكمة في هذا الموضع ، فقال بعضهم : عني بها النبوة . 
ذكر من قال ذلك : 
حدثنا محمد بن الحسين  قال : ثنا أحمد بن المفضل  قال : ثنا أسباط  عن  السدي  قوله ( وآتيناه الحكمة   ) قال : النبوة  . 
وقال آخرون : عنى بها أنه علم السنن . 
ذكر من قال ذلك : 
حدثنا بشر  قال : ثنا يزيد  قال : ثنا سعيد ،  عن قتادة   ( وآتيناه الحكمة   ) : أي السنة  . 
وقد بينا معنى الحكمة في غير هذا الموضع بشواهده ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع . 
وقوله ( وفصل الخطاب   ) اختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال  [ ص: 172 ] بعضهم : عني به أنه علم القضاء والفهم به . 
ذكر من قال ذلك : 
حدثني محمد بن سعد  قال : ثني أبي قال : ثني عمي قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس   ( وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب    ) قال : أعطي الفهم  . 
حدثنا أبو كريب  قال : ثنا ابن إدريس  عن ليث  عن مجاهد   ( وفصل الخطاب   ) قال : إصابة القضاء وفهمه  . 
حدثنا محمد بن الحسين  قال : ثنا أحمد بن المفضل  قال : ثنا أسباط ،  عن  السدي  في قوله ( وفصل الخطاب   ) قال : علم القضاء  . 
حدثني يونس  قال : أخبرنا ابن وهب  قال : قال ابن زيد ،  في قوله ( وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب   ) قال : الخصومات - التي يخاصم الناس إليه . فصل ذلك الخطاب - الكلام الفهم وإصابة القضاء والبينات . 
حدثنا ابن بشار  قال : ثنا عبد الرحمن  قال : ثنا سفيان ،  عن أبي حصين  قال : سمعت أبا عبد الرحمن  يقول : فصل الخطاب : القضاء . 
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وفصل الخطاب ، بتكليف المدعي البينة ، واليمين على المدعى عليه . 
ذكر من قال ذلك : 
حدثنا أبو كريب  قال : ثنا هشيم  قال : أخبرنا  داود بن أبي هند  قال : ثني الشعبي  أو غيره ، عن شريح  أنه قال في قوله ( وفصل الخطاب   ) قال : بينة المدعي ، أو يمين المدعى عليه  . 
حدثني يعقوب بن إبراهيم  قال : ثنا  ابن علية  عن  داود بن أبي هند  في قوله ( وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب   ) قال : نبئت عن شريح  أنه قال : شاهدان أو يمين  . 
حدثنا ابن عبد الأعلى  قال : ثنا معتمر  قال : سمعت داود  قال : بلغني  [ ص: 173 ] أن شريحا  قال ( وفصل الخطاب   ) الشاهدان على المدعي ، واليمين على من أنكر . 
حدثنا ابن بشار  قال : ثنا عبد الرحمن  قال : ثنا سفيان ،  عن منصور  عن طاوس  أن شريحا  قال لرجل : إن هذا يعيب علي ما أعطي داود  ، الشهود والأيمان . 
حدثنا  ابن المثنى  قال : ثنا محمد بن جعفر  قال : ثنا شعبة  عن الحكم  عن شريح  أنه قال في هذه الآية ( وفصل الخطاب   ) قال : الشهود والأيمان  . 
حدثنا عمران بن موسى  قال : ثنا عبد الوارث  قال : ثنا داود  عن الشعبي  في قوله ( وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب   ) قال : يمين أو شاهد  . 
حدثنا بشر  قال : ثنا يزيد  قال : ثنا سعيد ،  عن قتادة   ( وفصل الخطاب   ) البينة على الطالب ، واليمين على المطلوب ، هذا فصل الخطاب  . 
وقال آخرون : بل هو قول : أما بعد . 
ذكر من قال ذلك : 
حدثنا أبو كريب  قال : ثنا جابر بن نوح  قال : ثنا إسماعيل ،  عن الشعبي  في قوله ( وفصل الخطاب   ) قال : قول الرجل : أما بعد  . 
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب - أن يقال : إن الله أخبر أنه آتى داود  صلوات الله عليه فصل الخطاب . والفصل : هو القطع ، والخطاب هو المخاطبة ، ومن قطع مخاطبة الرجل الرجل في حال احتكام أحدهما إلى صاحبه - قطع المحتكم إليه الحكم بين المحتكم إليه وخصمه بصواب من الحكم . ومن قطع مخاطبته أيضا صاحبه - إلزام المخاطب في الحكم ما يجب عليه إن كان مدعيا ، فإقامة البينة على دعواه ، وإن كان مدعى عليه ، فتكليفه اليمين إن طلب ذلك خصمه . ومن قطع الخطاب أيضا الذي هو خطبة عند انقضاء قصة وابتداء في أخرى - الفصل بينهما بأما بعد . فإذ كان ذلك كله محتملا ظاهر الخبر ولم تكن في هذه الآية دلالة على أي ذلك المراد ، ولا ورد به خبر عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ثابت ، فالصواب أن يعم الخبر ، كما عمه الله ، فيقال : أوتي داود فصل الخطاب في القضاء والمحاورة والخطب . 
				
						
						
