القول في تأويل قوله تعالى : ( وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين    ( 10 ) ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين   ( 11 ) ) 
يقول - تعالى ذكره - : وجعل في الأرض التي خلق في يومين جبالا رواسي ، وهي الثوابت في الأرض من فوقها ، يعني : من فوق الأرض على ظهرها . 
وقوله : ( وبارك فيها   ) يقول : وبارك في الأرض فجعلها دائمة الخير لأهلها . 
وقد ذكر عن  السدي  في ذلك ما حدثنا موسى  قال : ثنا عمرو  قال : ثنا أسباط  ، عن  السدي   : ( وبارك فيها   ) قال : أنبت شجرها . ( وقدر فيها أقواتها   )  [ ص: 435 ] 
اختلف أهل التأويل في ذلك ، فقال بعضهم : وقدر فيها أقوات أهلها بمعنى أرزاقهم ومعايشهم . 
ذكر من قال ذلك : 
حدثنا ابن عبد الأعلى  قال : ثنا ابن ثور  ، عن معمر  ، عن الحسن   ( وقدر فيها أقواتها   ) قال : أرزاقها . 
حدثني موسى  قال : أخبرنا ابن وهب  قال : قال ابن زيد  ، في قول الله : ( وقدر فيها أقواتها   ) قال : قدر فيها أرزاق العباد ، ذلك الأقوات . 
حدثنا موسى  قال : ثنا عمرو  قال : ثنا أسباط  ، عن  السدي   ( وقدر فيها أقواتها   ) يقول : أقواتها لأهلها . 
وقال آخرون : بل معناه : وقدر فيها ما يصلحها . 
ذكر من قال ذلك : 
حدثني علي بن سهل  قال : ثنا  الوليد بن مسلم  ، عن خليد بن دعلج  ، عن قتادة  قوله : ( وقدر فيها أقواتها   ) قال : صلاحها . 
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وقدر فيها جبالها وأنهارها وأشجارها . 
ذكر من قال ذلك : 
حدثنا بشر  قال : ثنا يزيد  قال : ثنا سعيد  ، عن قتادة   ( وقدر فيها أقواتها   ) : خلق فيها جبالها وأنهارها وبحارها وشجرها ، وساكنها من الدواب كلها . 
حدثنا ابن عبد الأعلى  قال : ثنا ابن ثور  ، عن معمر  ، عن قتادة   ( وقدر فيها أقواتها   ) قال : جبالها ودوابها وأنهارها وبحارها . 
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وقدر فيها أقواتها من المطر .  [ ص: 436 ] 
ذكر من قال ذلك : 
حدثني محمد بن عمرو  قال : ثنا أبو عاصم  قال : ثنا عيسى  ، وحدثني الحارث  قال : ثنا الحسن  قال : ثنا ورقاء  جميعا ، عن ابن أبي نجيح  ، عن مجاهد  ، في قوله : ( وقدر فيها أقواتها   ) قال : من المطر . 
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وقدر في كل بلدة منها ما لم يجعله في الآخر منها لمعاش بعضهم من بعض بالتجارة من بلدة إلى بلدة . 
ذكر من قال ذلك : 
حدثني الحسين بن محمد الذارع  قال : ثنا أبو محصن  قال : ثنا حسين  ، عن عكرمة  ، في قوله : ( وقدر فيها أقواتها   ) قال : اليماني باليمن  ، والسابري بسابور   . 
حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع  قال : ثنا أبو محصن  ، عن حصين  قال : قال عكرمة   ( وقدر فيها أقواتها   ) اليمانية باليمن  ، والسابرية بسابور  ، وأشباه هذا . 
حدثنا أبو كريب  قال : ثنا ابن إدريس  قال : سمعت حصينا  عن عكرمة  في قوله : ( وقدر فيها أقواتها   ) قال : في كل أرض قوت لا يصلح في غيرها ، اليماني باليمن ،  والسابري بسابور   . 
حدثني يعقوب بن إبراهيم  قال : ثنا هشيم  قال : أخبرنا حصين  عن عكرمة  في قوله : ( وقدر فيها أقواتها   ) قال : البلد يكون فيه القوت أو الشيء لا يكون لغيره ، ألا ترى أن السابري إنما يكون بسابور  ، وأن العصب إنما يكون باليمن  ونحو ذلك . 
حدثني إسماعيل بن سيف  قال : ثنا ابن عبد الواحد بن زياد  ، عن خصيف  ، عن مجاهد  ، في قوله : ( وقدر فيها أقواتها   ) قال : السابري بسابور  ، والطيالسة من الري   .  [ ص: 437 ] 
حدثني إسماعيل  قال : ثنا أبو النضر صاحب البصري  قال : ثنا أبو عوانة  ، عن مطرف  ، عن الضحاك  في قوله : ( وقدر فيها أقواتها   ) قال : السابري بسابور  ، والطيالسة من الري   . 
فى قوله ( وقدر فيها أقواتها   ) قال : السابري من سابور  ، والطيالسة من الري  ، والحبر من اليمن   . 
والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله تعالى أخبر أنه قدر في الأرض أقوات أهلها ، وذلك ما يقوتهم من الغذاء ، ويصلحهم من المعاش ، ولم يخصص - جل ثناؤه - بقوله ( وقدر فيها أقواتها   ) أنه قدر فيها قوتا دون قوت ، بل عم الخبر عن تقديره فيها جميع الأقوات ، ومما يقوت أهلها ما لا يصلحهم غيره من الغذاء ، وذلك لا يكون إلا بالمطر والتصرف في البلاد لما خص به بعضا دون بعض ، ومما أخرج من الجبال من الجواهر ، ومن البحر من المأكل والحلي ، ولا قول في ذلك أصح مما قال - جل ثناؤه - : قدر في الأرض أقوات أهلها ، لما وصفنا من العلة . 
وقال - جل ثناؤه - : ( في أربعة أيام   ) لما ذكرنا قبل من الخبر الذي روينا عن ابن عباس  ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه فرغ من خلق الأرض وجميع أسبابها ومنافعها من الأشجار والماء والمدائن والعمران والخراب في أربعة أيام ، أولهن يوم الأحد ، وآخرهن يوم الأربعاء . 
حدثني موسى  قال : ثنا عمرو  قال : ثنا أسباط  ، عن  السدي  قال : خلق الجبال فيها وأقوات أهلها وشجرها وما ينبغي لها في يومين ، في الثلاثاء والأربعاء . 
وقال بعض نحويي البصرة :  قال . خلق الأرض في يومين ، ثم قال في أربعة أيام ، لأنه يعني أن هذا مع الأول أربعة أيام ، كما تقول : تزوجت أمس امرأة ، واليوم ثنتين ، وإحداهما التي تزوجتها أمس . 
وقوله : ( سواء للسائلين   ) اختلف أهل التأويل في تأويله ، فقال بعضهم :  [ ص: 438 ] تأويله : سواء لمن سأل عن مبلغ الأجل الذي خلق الله فيه الأرض ، وجعل فيها الرواسي من فوقها والبركة ، وقدر فيها الأقوات بأهلها ، وجده كما أخبر الله أربعه أيام لا يزدن على ذلك ولا ينقصن منه . 
ذكر من قال ذلك : 
حدثنا بشر  قال : ثنا يزيد  قال : ثنا سعيد  ، عن قتادة   ( سواء للسائلين   ) من سأل عن ذلك وجده ، كما قال الله . 
حدثنا ابن عبد الأعلى  قال : ثنا ابن ثور  ، عن معمر  ، عن قتادة   ( سواء للسائلين   ) قال : من سأل فهو كما قال الله . 
حدثنا موسى بن هارون  قال : ثنا عمرو  قال : ثنا أسباط  ، عن  السدي   ( في أربعة أيام سواء للسائلين   ) يقول : من سأل فهكذا الأمر . 
وقال آخرون : بل معنى ذلك : سواء لمن سأل ربه شيئا مما به الحاجة إليه من الرزق ، فإن الله قد قدر له من الأقوات في الأرض ، على قدر مسألة كل سائل منهم لو سأله لما نفذ من علمه فيهم قبل أن يخلقهم . 
ذكر من قال ذلك : 
حدثني يونس  قال : أخبرنا ابن وهب  قال : قال ابن زيد  في قوله ( سواء للسائلين   ) قال : قدر ذلك على قدر مسائلهم ، يعلم ذلك أنه لا يكون من مسائلهم شيء إلا شيء قد علمه قبل أن يكون . واختلفت القراء في قراءة ذلك . فقرأته عامة قراء الأمصار غير أبي جعفر  والحسن  البصري   : ( سواء ) بالنصب . وقرأه أبو جعفر  القارئ : " سواء " بالرفع . وقرأ الحسن   : " سواء " بالجر . 
والصواب من القراءة في ذلك ما عليه قراء الأمصار ، وذلك قراءته بالنصب لإجماع الحجة من القراء عليه ، ولصحة معناه . وذلك أن معنى الكلام : قدر فيها أقواتها سواء لسائليها على ما بهم إليه الحاجة ، وعلى ما يصلحهم .  [ ص: 439 ] 
وقد ذكر عن ابن مسعود  أنه كان يقرأ ذلك : " وقسم فيها أقواتها " . 
وقد اختلف أهل العربية في وجه نصب سواء ، فقال بعض نحويي البصرة :  من نصبه جعله مصدرا ، كأنه قال : استواء . قال : وقد قرئ بالجر وجعل اسما للمستويات : أي في أربعة أيام تامة . وقال بعض نحويي الكوفة   : من خفض سواء ، جعلها من نعت الأيام ، وإن شئت من نعت الأربعة ، ومن نصبها جعلها متصلة بالأقوات . قال : وقد ترفع كأنه ابتداء ، كأنه قال : ذلك ( سواء للسائلين   ) يقول : لمن أراد علمه . 
والصواب من القول في ذلك أن يكون نصبه إذا نصب حالا من الأقوات ، إذ كانت سواء قد شبهت بالأسماء النكرة ، فقيل : مررت بقوم سواء ، فصارت تتبع النكرات ، وإذا تبعت النكرات انقطعت من المعارف فنصبت ، فقيل : مررت بإخوتك سواء ، وقد يجوز أن يكون إذا لم يدخلها تثنية ولا جمع أن تشبه بالمصادر . وأما إذا رفعت ، فإنما ترفع ابتداء بضمير ذلك ونحوه ، وإذا جرت فعلى الاتباع للأيام أو للأربعة . 
وقوله : ( ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين   ) يعني - تعالى ذكره - : ثم استوى إلى السماء ، ثم ارتفع إلى السماء . 
وقد بينا أقوال أهل العلم في ذلك فيما مضى قبل . 
وقوله : ( فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها   ) يقول - جل ثناؤه - : فقال الله للسماء والأرض : جيئا بما خلقت فيكما ، أما أنت يا سماء فأطلعي ما خلقت فيك من الشمس والقمر والنجوم ، وأما أنت يا أرض فأخرجي ما خلقت فيك من الأشجار والثمار والنبات ، وتشققي عن الأنهار ( قالتا أتينا طائعين   ) جئنا بما أحدثت فينا من خلقك ، مستجيبين لأمرك لا نعصي أمرك . 
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . 
ذكر من قال ذلك : 
حدثنا أبو هشام  قال : ثنا ابن يمان  قال : ثنا سفيان  ، عن  ابن جريج  ،  [ ص: 440 ] عن  سليمان بن موسى  ، عن مجاهد  ، عن ابن عباس  ، ( فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين   ) قال : قال الله للسموات : أطلعي شمسي وقمري ، وأطلعي نجومي ، وقال للأرض : شققي أنهارك وأخرجي ثمارك ، فقالتا : أعطينا طائعين  . 
حدثني يعقوب بن إبراهيم  قال : ثنا  ابن علية  ، عن  ابن جريج  ، عن سليمان الأحول  ، عن طاوس  ، عن ابن عباس  ، في قوله ( ائتيا ) : أعطيا . وفي قوله : ( قالتا أتينا   ) قالتا : أعطينا . 
وقيل : أتينا طائعين ، ولم يقل طائعتين ، والسماء والأرض مؤنثتان ، لأن النون والألف اللتين هما كناية أسمائهما في قوله ( أتينا ) نظيره كناية أسماء المخبرين من الرجال عن أنفسهم ، فأجرى قوله ( طائعين ) على ما جرى به الخبر عن الرجال كذلك . وقد كان بعض أهل العربية يقول : ذهب به إلى السموات والأرض ومن فيهن . 
وقال آخرون منهم : قيل ذلك كذلك لأنهما لما تكلمتا أشبهتا الذكور من بني آدم . 
				
						
						
