يقول - تعالى ذكره - : جماعة من الأمم الماضية ، وقليل من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - وهم الآخرون . وقيل لهم : الآخرون ؛ لأنهم آخر الأمم ( على سرر موضونة ) يقول : فوق سرر منسوجة ، قد أدخل بعضها في بعض ، كما يوضن حلق الدرع بعضها فوق بعض مضاعفة . ومنه قول الأعشى :
ومن نسج داود موضونة تساق مع الحي عيرا فعيرا
ومنه وضين الناقة ، وهو البطان من السيور إذا نسج بعضه على بعض [ ص: 99 ] مضاعفا كالحلق حلق الدرع . وقيل : وضين وإنما هو موضون ، صرف من مفعول إلى فعيل كما قيل : قتيل لمقتول . وحكي سماعا من بعض العرب أزيار الآجر موضون بعضها على بعض ، يراد مشرج صفيف .
وقيل : إنما قيل لها سرر موضونة ؛ لأنها مشبكة بالذهب والجوهر .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار قال : ثنا مؤمل قال : ثنا سفيان قال : ثنا حصين ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ( على سرر موضونة ) قال : مرمولة بالذهب .
حدثنا ابن حميد قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن الحصين ، عن مجاهد ( على سرر موضونة ) قال : مرمولة بالذهب .
حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي قال : ثني عمي قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : ( على سرر موضونة ) قال : يعني الأسرة المرملة .
حدثنا هناد قال : ثنا أبو الأحوص ، عن حصين ، عن مجاهد قال : الموضونة : المرملة بالذهب .
حدثنا ابن حميد قال : ثنا قال : ثنا يحيى بن واضح الحسين بن واقد ، عن يزيد ، عن عكرمة قوله : ( على سرر موضونة ) قال : مشبكة بالدر والياقوت .
حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن [ ص: 100 ] أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : ( موضونة ) قال : مرمولة بالذهب .
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( على سرر موضونة ) والموضونة : المرمولة ، وهى أوثر السرر .
حدثنا ابن بشار قال : ثنا سليمان قال : ثنا أبو هلال في قوله : ( موضونة ) قال : مرمولة .
حدثنا ابن عبد الأعلى قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر في قوله : ( على سرر موضونة ) قال : مرملة مشبكة .
حدثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( على سرر موضونة ) الوضن : التشبيك والنسج . يقول : وسطها مشبك منسوج .
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : ( على سرر موضونة ) الموضونة : المرمولة بالجلد - ذاك الوضين - منسوجة .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أنها مصفوفة .
ذكر من قال ذلك :
حدثني علي قال : ثنا أبو صالح قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : ( على سرر موضونة ) يقول : مصفوفة .
وقوله : ( متكئين عليها متقابلين ) يقول - تعالى ذكره - متكئين على السرر الموضونة ، متقابلين بوجوههم ، لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض .
كما حدثنا ابن حميد قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : ( على سرر متقابلين ) قال : لا ينظر أحدهم في قفا صاحبه ، وذكر أن ذلك في قراءة عبد الله " متكئين عليها ناعمين " .
حدثنا قال : ثنا محمد بن المثنى محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن أبي إسحاق ، في قراءة " متكئين عليها ناعمين " . [ ص: 101 ] عبد الله - يعني - ابن مسعود
وقد بينا ذلك في غير هذا الموضع ، وذكرنا ما فيه من الرواية .
وقوله : ( يطوف عليهم ولدان مخلدون ) يقول - تعالى ذكره - : يطوف على هؤلاء السابقين - الذين قربهم الله في جنات النعيم - ولدان على سن واحدة ، لا يتغيرون ولا يموتون .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ( مخلدون ) قال : لا يموتون .
وقال آخرون : عني بذلك أنهم مقرطون مسورون .
والذي هو أولى بالصواب في ذلك قول من قال معناه : إنهم لا يتغيرون ، ولا يموتون ؛ لأن ذلك أظهر معنييه ، والعرب تقول للرجل إذا كبر ولم يشمط : إنه لمخلد ، وإنما هو مفعل من الخلد .
وقوله : ( بأكواب وأباريق ) والأكواب : جمع كوب ، وهو من الأباريق ما اتسع رأسه ، ولم يكن له خرطوم .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي قال : ثني عمي قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : ( بأكواب ) قال : الأكواب : الجرار من الفضة .
حدثنا ابن بشار قال : ثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ( بأكواب وأباريق ) قال : الأباريق : ما كان لها آذان ، والأكواب ما ليس لها آذان .
حدثنا ابن بشار قال : ثنا عبد الرحمن قال : ثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد قال : الأكواب ليس لها آذان . [ ص: 102 ]
حدثنا يعقوب قال : ثنا ، عن ابن علية أبي رجاء قال : سئل الحسن عن الأكواب قال : هي الأباريق التي يصب لهم منها .
حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا : ثنا ابن إدريس قال : سمعت أبي قال : مر أبو صالح صاحب الكلبي قال : فقال أبي ، قال لي الحسن وأنا جالس : سله ، فقلت : ما الأكواب ؟ قال : جرار الفضة المستديرة أفواهها ، والأباريق ذوات الخراطيم .
حدثنا ابن حميد قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ( بأكواب ) قال : ليس لها عرى ولا آذان .
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( بأكواب وأباريق ) والأكواب التي يغترف بها ليس لها خراطيم ، وهي أصغر من الأباريق .
حدثنا ابن عبد الأعلى قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة في قوله : ( بأكواب وأباريق ) قال : الأكواب التي دون الأباريق ليس لها عرى .
حدثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد قال : سمعت الضحاك يقول : الأكواب جرار ليست لها عرى ، وهي بالنبطية كوبا ، وإياها عنى الأعشى بقوله :
صريفية طيب طعمها لها زبد بين كوب ودن
وأما الأباريق : فهي التي لها عرى .
وقوله : ( وكأس من معين ) وكأس خمر من شراب معين ظاهر [ ص: 103 ] العيون جار . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني علي قال : ثنا أبو صالح قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : ( وكأس من معين ) : قال الخمر .
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( وكأس من معين ) أي من خمر جارية .
حدثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( وكأس من معين ) الكأس : الخمر .
حدثنا أبو سنان قال : ثنا سليمان قال : ثنا أبو هلال ، عن قتادة في قوله : ( وكأس من معين ) قال : الخمر الجارية .
حدثنا ابن حميد قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن سلمة بن نبيط ، عن الضحاك مثله .
وقوله : ( لا يصدعون عنها ) يقول : لا تصدع رءوسهم عن شربها فتسكر .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني إسماعيل بن موسى السدي قال : أخبرنا شريك ، عن سالم ، عن سعيد قوله : ( لا يصدعون عنها ) قال : لا تصدع رءوسهم .
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( لا يصدعون عنها ) ليس لها وجع رأس .
حدثنا ابن بشار قال : ثنا سليمان قال : ثنا أبو هلال ، عن قتادة [ ص: 104 ] ( لا يصدعون عنها ) قال : لا تصدع رءوسهم .
حدثنا ابن حميد قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ( لا يصدعون عنها ) يقول : لا تصدع رءوسهم .
حدثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( لا يصدعون عنها ) يعني وجع الرأس .
وقوله : ( ولا ينزفون ) اختلفت القراء في قراءته ، فقرأت عامة قراء المدينة والبصرة " ينزفون " بفتح الزاي ، ووجهوا ذلك إلى أنه لا تنزف عقولهم . وقرأته عامة قراء الكوفة ( لا ينزفون ) بكسر الزاي بمعنى : ولا ينفد شرابهم .
والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان معروفتان صحيحتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب فيها الصواب .
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك على نحو اختلاف القراء فيه . وقد ذكرنا اختلاف أقوالهم في ذلك ، وبينا الصواب من القول فيه في سورة الصافات ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع ، غير أنا سنذكر قول بعضهم في هذا الموضع لئلا يظن ظان أن معناه في هذا الموضع مخالف معناه هنالك .
ذكر قول من قال منهم معناه : لا تنزف عقولهم :
حدثنا إسماعيل بن موسى قال : أخبرنا شريك ، عن سالم ، عن سعيد " ولا ينزفون " قال : لا تنزف عقولهم .
حدثنا ابن حميد قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد " ولا ينزفون " قال : لا تنزف عقولهم .
وحدثنا ابن حميد - مرة أخرى - فقال : ولا تذهب عقولهم .
حدثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : " ولا ينزفون " لا تنزف عقولهم .
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : " ولا [ ص: 105 ] ينزفون " قال : لا يغلب أحد على عقله .
حدثنا ابن بشار قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد في قوله : " ولا ينزفون " قال : لا يغلب أحد على عقله .
حدثنا ابن بشار قال : ثنا سليمان قال : ثنا أبو هلال ، عن قتادة في قول الله " ولا ينزفون " قال : لا تغلب على عقولهم .
وقوله : ( وفاكهة مما يتخيرون ) يقول - تعالى ذكره - : ويطوف هؤلاء الولدان المخلدون على هؤلاء السابقين بفاكهة من الفواكه التي يتخيرونها من الجنة لأنفسهم ، وتشتهيها نفوسهم ( ولحم طير مما يشتهون ) يقول : ويطوفون أيضا عليهم بلحم طير مما يشتهون من الطير الذي تشتهيه نفوسهم .