القول في تأويل قوله تعالى ( والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون ( 164 ) )
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : "والسحاب المسخر " ، وفي السحاب ، جمع "سحابة " . يدل على ذلك قوله تعالى ذكره : ( وينشئ السحاب الثقال ) [ سورة الرعد : 12 ] فوحد المسخر وذكره ، كما قالوا : "هذه تمرة وهذا تمر كثير " . في جمعه ، "وهذه نخلة وهذا نخل " .
وإنما قيل للسحاب "سحاب " إن شاء الله ، لجر بعضه بعضا وسحبه إياه ، من قول القائل : "مر فلان يجر ذيله " ، يعني : "يسحبه " .
فأما معنى قوله : "لآيات " ، فإنه علامات ودلالات على أن خالق ذلك كله ومنشئه ، إله واحد . [ ص: 277 ]
"لقوم يعقلون " ، لمن عقل مواضع الحجج ، وفهم عن الله أدلته على وحدانيته . فأعلم تعالى ذكره عباده ، بأن الأدلة والحجج إنما وضعت معتبرا لذوي العقول والتمييز ، دون غيرهم من الخلق ، إذ كانوا هم المخصوصين بالأمر والنهي ، والمكلفين بالطاعة والعبادة ، ولهم الثواب ، وعليهم العقاب .
فإن قال قائل : وكيف احتج على أهل الكفر بقوله : " إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار " الآية ، في توحيد الله ؟ وقد علمت أن أصنافا من أصناف الكفرة تدفع أن تكون السماوات والأرض وسائر ما ذكر في هذه الآية مخلوقة ؟
قيل : إن إنكار من أنكر ذلك غير دافع أن يكون جميع ما ذكر تعالى ذكره في هذه الآية ، دليلا على خالقه وصانعه ، وأن له مدبرا لا يشبهه [ شيء ] ، وبارئا لا مثل له . وذلك وإن كان كذلك ، فإن الله إنما حاج بذلك قوما كانوا مقرين بأن الله خالقهم ، غير أنهم يشركون في عبادته عبادة الأصنام والأوثان . فحاجهم تعالى ذكره فقال - إذ أنكروا قوله : "وإلهكم إله واحد " ، وزعموا أن له شركاء من الآلهة - : [ إن إلهكم الذي خلق السماوات وأجرى فيها الشمس والقمر لكم بأرزاقكم دائبين في سيرهما . وذلك هو معنى اختلاف الليل والنهار في الشمس والقمر ] وذلك هو معنى قوله : "والفلك التي تجري في البحر بما [ ص: 278 ] ينفع الناس " - وأنزل إليكم الغيث من السماء ، فأخصب به جنابكم بعد جدوبه ، وأمرعه بعد دثوره ، فنعشكم به بعد قنوطكم - ، وذلك هو معنى قوله : "وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها " - وسخر لكم الأنعام فيها لكم مطاعم ومآكل ، ومنها جمال ومراكب ، ومنها أثاث وملابس - وذلك هو معنى قوله : "وبث فيها من كل دابة " - وأرسل لكم الرياح لواقح لأشجار ثماركم وغذائكم وأقواتكم ، وسير لكم السحاب الذي بودقه حياتكم وحياة نعمكم ومواشيكم - وذلك هو معنى قوله : " وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض " .
فأخبرهم أن إلههم هو الله الذي أنعم عليهم بهذه النعم ، وتفرد لهم بها . ثم قال : هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء ، فتشركوه في عبادتكم إياي ، وتجعلوه لي ندا وعدلا ؟ فإن لم يكن من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء ، ففي الذي عددت عليكم من نعمتي ، وتفردت لكم بأيادي ، دلالات لكم إن كنتم تعقلون مواقع الحق والباطل ، والجور والإنصاف . وذلك أنى لكم بالإحسان إليكم متفرد دون غيري ، وأنتم تجعلون لي في عبادتكم إياي أندادا . فهذا هو معنى الآية .
والذين ذكروا بهذه الآية واحتج عليهم بها ، هم القوم الذين وصفت صفتهم ، دون المعطلة والدهرية ، وإن كان في أصغر ما عد الله في هذه الآية ، من الحجج البالغة ، المقنع لجميع الأنام ، تركنا البيان عنه ، كراهة إطالة الكتاب بذكره .