قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في قراءة ذلك . فقرأه عامة أهل المدينة والشام : "ولو ترى الذين ظلموا " بالتاء "إذ يرون العذاب " بالياء " أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب " بفتح "أن " و "أن " كلتيهما - بمعنى : ولو ترى يا محمد [ ص: 282 ] الذين كفروا وظلموا أنفسهم ، حين يرون عذاب الله ويعاينونه "أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب " .
ثم في نصب "أن " و "أن " في هذه القراءة وجهان : أحدهما : أن تفتح بالمحذوف من الكلام الذي هو مطلوب فيه ، فيكون تأويل الكلام حينئذ : ولو ترى يا محمد الذين ظلموا إذ يرون عذاب الله ، لأقروا - ومعنى ترى : تبصر - أن القوة لله جميعا ، وأن الله شديد العذاب . ويكون الجواب حينئذ - إذا فتحت "أن " على هذا الوجه - متروكا ، قد اكتفى بدلالة الكلام عليه ، ويكون المعنى ما وصفت . فهذا أحد وجهي فتح "أن " ، على قراءة من قرأ : "ولو ترى " ب "التاء " .
والوجه الآخر في الفتح : أن يكون معناه : ولو ترى ، يا محمد ، إذ [ ص: 283 ] يرى الذين ظلموا عذاب الله ، لأن القوة لله جميعا ، وأن الله شديد العذاب ، لعلمت مبلغ عذاب الله . ثم تحذف "اللام " ، فتفتح بذلك المعنى ، لدلالة الكلام عليها .
وقرأ ذلك آخرون من سلف القراء : "ولو ترى الذين ظلموا إذ يرون العذاب إن القوة لله جميعا وإن الله شديد العذاب " . بمعنى : ولو ترى ، يا محمد ، الذين ظلموا حين يعاينون عذاب الله ، لعلمت الحال التي يصيرون إليها . ثم أخبر تعالى ذكره خبرا مبتدأ عن قدرته وسلطانه ، بعد تمام الخبر الأول فقال : "إن القوة لله جميعا " في الدنيا والآخرة ، دون من سواه من الأنداد والآلهة ، "وإن الله شديد العذاب " لمن أشرك به ، وادعى معه شركاء ، وجعل له ندا .
وقد يحتمل وجها آخر في قراءة من كسر "إن " في "ترى " بالتاء . وهو أن يكون معناه : ولو ترى ، يا محمد الذين ظلموا إذ يرون العذاب يقولون : إن القوة لله جميعا وإن الله شديد العذاب . ثم تحذف "القول " وتكتفي منه بالمقول .
وقرأ ذلك آخرون : "ولو يرى الذين ظلموا " بالياء "إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب " بفتح "الألف " من "أن " "وأن " ، بمعنى : ولو يرى الذين ظلموا عذاب الله الذي أعد لهم في جهنم ، لعلموا حين يرونه فيعاينونه أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب ، إذ يرون العذاب . فتكون "أن " الأولى منصوبة لتعلقها بجواب "لو " المحذوف ، ويكون الجواب متروكا ، وتكون الثانية معطوفة على الأولى . وهذه قراءة عامة القراء الكوفيين والبصريين وأهل مكة .
وقد زعم بعض نحويي البصرة أن تأويل قراءة من قرأ : "ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب " بالياء في "يرى " وفتح "الألفين " في "أن " "وأن " - : ولو يعلمون ، لأنهم لم يكونوا علموا قدر ما يعاينون من العذاب . وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم علم ، فإذا قال : "ولو ترى " ، فإنما يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم .
ولو كسر "إن " على الابتداء ، إذا قال : "ولو يرى " جاز ، لأن "لو يرى " ، لو يعلم .
وقد تكون "لو " في معنى لا يحتاج معها إلى شيء . تقول للرجل : "أما والله لو يعلم ، ولو تعلم " كما قال الشاعر :
إن يكن طبك الدلال ، فلو في سالف الدهر والسنين الخوالي!
[ ص: 284 ]هذا ليس له جواب إلا في المعنى ، وقال الشاعر
وبحظ مما نعيش ، ولا تذهب بك الترهات في الأهوال
فأضمر : فعيشي .
قال : وقرأ بعضهم : "ولو ترى " ، وفتح "أن " على "ترى " . وليس بذلك ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم ، ولكن أراد أن يعلم ذلك الناس ، كما قال تعالى ذكره : ( أم يقولون افتراه ) [ سورة السجدة : 3 ] ، ليخبر الناس عن جهلهم ، وكما قال : ( ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض ) [ سورة البقرة : 107 ] .
قال أبو جعفر : وأنكر قوم أن تكون "أن " عاملا فيها قوله : "ولو يرى " . وقالوا : إن الذين ظلموا قد علموا حين يرون العذاب أن القوة لله جميعا ، فلا وجه لمن تأول ذلك : ولو يرى الذين ظلموا أن القوة لله . وقالوا : إنما عمل في "أن " جواب "لو " الذي هو بمعنى "العلم " ، لتقدم "العلم " الأول . [ ص: 285 ]
وقال بعض نحويي الكوفة : من نصب : "أن القوة لله وأن الله شديد العذاب " ممن قرأ : "ولو يرى " بالياء ، فإنما نصبها بإعمال "الرؤية " فيها ، وجعل "الرؤية " واقعة عليها . وأما من نصبها ممن قرأ : "ولو ترى " بالتاء ، فإنه نصبها على تأويل : لأن القوة لله جميعا ، ولأن الله شديد العذاب . قال : ومن كسرهما ممن قرأ بالتاء ، فإنه يكسرهما على الخبر .
وقال آخرون منهم : فتح "أن " في قراءة من قرأ : "ولو يرى الذين ظلموا " بالياء ، بإعمال "يرى " ، وجواب الكلام حينئذ متروك ، كما ترك جواب : ( ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض ) [ سورة الرعد : 31 ] ، لأن معنى الجنة والنار مكرر معروف . وقالوا : جائز كسر "إن " ، في قراءة من قرأ ب "الياء " ، وإيقاع "الرؤية " على "إذ " في المعنى ، وأجازوا نصب "أن " على قراءة من قرأ ذلك ب "التاء " ، لمعنى نية فعل آخر ، وأن يكون تأويل الكلام : "ولو ترى الذين ظلموا إذ يرون العذاب " ، [ يرون ] أن القوة لله جميعا ، وزعموا أن كسر "إن " الوجه ، إذا قرئت : "ولو ترى " ب "التاء " على الاستئناف ، لأن قوله : "ولو ترى " قد وقع على "الذين ظلموا " .
قال أبو جعفر : والصواب من القراءة عندنا في ذلك : "ولو ترى الذين ظلموا " - بالتاء من "ترى " - "إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب " بمعنى : لرأيت أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب . فيكون قوله : "لرأيت " الثانية ، محذوفة مستغنى بدلالة قوله : "ولو ترى الذين ظلموا " ، عن ذكره ، إذ [ ص: 286 ] كان جوابا ل "لو " .
ويكون الكلام ، وإن كان مخرجه مخرج الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم - معنيا به غيره . لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا شك عالما بأن القوة لله جميعا ، وأن الله شديد العذاب . ويكون ذلك نظير قوله : ( ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض ) [ سورة البقرة : 107 ] وقد بيناه في موضعه .
وإنما اخترنا ذلك على قراءة "الياء " ، لأن القوم إذا رأوا العذاب ، قد أيقنوا أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب ، فلا وجه أن يقال : لو يرون أن القوة لله جميعا - حينئذ . لأنه إنما يقال : "لو رأيت " ، لمن لم ير ، فأما من قد رآه ، فلا معنى لأن يقال له : "لو رأيت " .
ومعنى قوله : "إذ يرون العذاب " ، إذ يعاينون العذاب ، كما : -
2412 - حدثت عن عمار بن الحسن قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : " ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب " ، يقول : لو عاينوا العذاب .
وإنما عنى تعالى ذكره بقوله : "ولو ترى الذين ظلموا " ، ولو ترى ، يا محمد ، الذين ظلموا أنفسهم ، فاتخذوا من دوني أندادا يحبونهم كحبكم إياي ، حين يعاينون عذابي يوم القيامة الذي أعددت لهم ، لعلمتم أن القوة كلها لي دون الأنداد والآلهة ، وأن الأنداد والآلهة لا تغني عنهم هنالك شيئا ، ولا تدفع عنهم عذابا أحللت بهم ، وأيقنتم أني شديد عذابي لمن كفر بي ، وادعى معي إلها غيري .