القول في تأويل فاجتباه ربه فجعله من الصالحين ( 50 ) قوله تعالى : ( وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون ( 51 ) وما هو إلا ذكر للعالمين ( 52 ) )
يقول تعالى ذكره : فاجتبى صاحب الحوت ربه ، يعني : اصطفاه واختاره لنبوته ( فجعله من الصالحين ) يعني من المرسلين العاملين بما أمرهم به ربهم ، المنتهين عما نهاهم عنه .
وقوله : ( وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم ) يقول جل ثناؤه : وإن يكاد الذين كفروا يا محمد ينفذونك بأبصارهم من شدة عداوتهم لك ، ويزيلونك فيرموا بك عند نظرهم إليك غيظا عليك . وقد قيل : إنه عني بذلك : وإن يكاد الذين كفروا مما عانوك بأبصارهم ليرمون بك يا محمد ، ويصرعونك ، كما تقول العرب : كاد فلان يصرعني بشدة نظره إلي ، قالوا : وإنما كانت قريش عانوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصيبوه بالعين ، فنظروا إليه ليعينوه ، وقالوا : ما رأينا رجلا مثله ، أو : إنه لمجنون ، فقال الله لنبيه عند ذلك : وإن يكاد الذين كفروا ليرمونك بأبصارهم ( لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون ) .
وبنحو الذي قلنا في معنى ( ليزلقونك ) قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن عيينة ، عن عمرو ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، في قوله : ( وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ) يقول : ينفذونك بأبصارهم من شدة النظر ، يقول ابن عباس : يقال للسهم : زهق السهم أو زلق .
حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : ( ليزلقونك بأبصارهم ) [ ص: 565 ] يقول : لينفذونك بأبصارهم .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم ) يقول : ليزهقونك بأبصارهم .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا معاوية ، عن إبراهيم ، عن عبد الله أنه كان يقرأ : ( وإن يكاد الذين كفروا ليزهقونك ) .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : ( ليزلقونك ) قال : لينفذونك بأبصارهم .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة في قوله : ( ليزلقونك بأبصارهم ) قال : ليزهقونك ، وقال الكلبي : ليصرعونك .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم ) لينفذونك بأبصارهم معاداة لكتاب الله ، ولذكر الله .
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم ) يقول : ينفذونك بأبصارهم من العداوة والبغضاء .
واختلفت القراء في قراءة قوله : ( ليزلقونك ) فقرأ ذلك عامة قراء المدينة ( ليزلقونك ) بفتح الياء ، من زلقته أزلقه زلقا . وقرأته عامة قراء الكوفة والبصرة ( ليزلقونك ) بضم الياء من أزلقه يزلقه .
والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان معروفتان ، ولغتان مشهورتان في العرب متقاربتا المعنى; والعرب تقول للذي يحلق الرأس : قد أزلقه وزلقه ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب .
وقوله : ( لما سمعوا الذكر ) يقول : لما سمعوا كتاب الله يتلى ( ويقولون إنه لمجنون ) يقول تعالى ذكره : يقول هؤلاء المشركون الذين وصف صفتهم : إن محمدا لمجنون ، وهذا الذي جاءنا به من الهذيان الذي يهذي به في جنونه ( وما هو إلا ذكر للعالمين ) وما محمد إلا ذكر ذكر الله به العالمين الثقلين الجن والإنس .
آخر تفسير سورة ن والقلم .