القول في ويل لكل همزة لمزة ( 1 ) تأويل قوله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه : ( الذي جمع مالا وعدده ( 2 ) يحسب أن ماله أخلده ( 3 ) كلا لينبذن في الحطمة ( 4 ) وما أدراك ما الحطمة ( 5 ) نار الله الموقدة ( 6 ) التي تطلع على الأفئدة ( 7 ) إنها عليهم مؤصدة ( 8 ) في عمد ممددة ( 9 ) ) .
يعني تعالى ذكره بقوله :
( ويل لكل همزة ) الوادي يسيل من صديد أهل النار وقيحهم ، ( لكل همزة ) : يقول : لكل مغتاب للناس ، يغتابهم ويبغضهم ، كما قال زياد الأعجم :
تدلي بودي إذا لاقيتني كذبا وإن أغيب فأنت الهامز اللمزه
ويعني باللمزة : الذي يعيب الناس ، ويطعن فيهم .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا مسروق بن أبان ، قال : ثنا ، عن رجل لم يسمه ، عن وكيع أبي الجوزاء ، [ ص: 596 ] قال : قلت : من هؤلاء هم الذين بدأهم الله بالويل ؟ قال : هم المشاءون بالنميمة ، المفرقون بين الأحبة ، الباغون أكبر العيب . لابن عباس
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ، عن أبيه ، عن رجل من أهل وكيع البصرة ، عن أبي الجوزاء ، قال : قلت : : من هؤلاء الذين ندبهم الله إلى الويل ؟ ثم ذكر نحو حديث لابن عباس مسروق بن أبان .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ( ويل لكل همزة لمزة ) قال : الهمزة : يأكل لحوم الناس ، واللمزة : الطعان .
وقد روي عن مجاهد خلاف هذا القول ، وهو ما حدثنا به أبو كريب ، قال : ثنا ، عن وكيع سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ( ويل لكل همزة ) قال : الهمزة : الطعان ، واللمزة : الذي يأكل لحوم الناس .
حدثنا مسروق بن أبان الحطاب ، قال : ثنا ، قال : ثنا وكيع سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
وروي عنه أيضا خلاف هذين القولين ، وهو ما حدثنا به ابن بشار ، قال : ثنا يحيى ، قال : ثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ( ويل لكل همزة لمزة ) قال : أحدهما الذي يأكل لحوم الناس ، والآخر الطعان . وهذا يدل على أن الذي حدث بهذا الحديث قد كان أشكل عليه تأويل الكلمتين ، فلذلك اختلف نقل الرواة عنه فيما رووا على ما ذكرت .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( ويل لكل همزة لمزة ) أما الهمزة : فأكل لحوم الناس ، وأما اللمزة : فالطعان عليهم .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن عن سعيد بن أبي عروبة ، قتادة ، قال : الهمزة : آكل لحوم الناس ، واللمزة : الطعان عليهم .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن ابن خثيم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( ويل لكل همزة لمزة ) قال : ويل لكل طعان مغتاب .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، قال : الهمزة : يهمزه في وجهه ، واللمزة : من خلفه .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : [ ص: 597 ] يهمزه ويلمزه بلسانه وعينه ، ويأكل لحوم الناس ، ويطعن عليهم .
حدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : الهمزة باليد ، واللمزة باللسان .
وقال آخرون في ذلك ما حدثني به يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله : ( ويل لكل همزة لمزة ) قال : الهمزة : الذي يهمز الناس بيده ، ويضربهم بلسانه ، واللمزة : الذي يلمزهم بلسانه ويعيبهم .
واختلف في المعني بقوله : ( ويل لكل همزة ) فقال بعضهم : عني بذلك : رجل من أهل الشرك بعينه ، فقال بعض من قال هذا القول : هو جميل بن عامر الجمحي . وقال آخرون منهم : هو الأخنس بن شريق .
ذكر من قال : عني به مشرك بعينه .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( ويل لكل همزة لمزة ) قال : مشرك كان يلمز الناس ويهمزهم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن رجل من أهل الرقة قال : نزلت في جميل بن عامر الجمحي .
حدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، في قوله ( همزة لمزة ) قال : ليست بخاصة لأحد ، نزلت في جميل بن عامر ; قال ورقاء : زعم . الرقاشي
وقال بعض أهل العربية : هذا من نوع ما تذكر العرب اسم الشيء العام ، وهي تقصد به الواحد ، كما يقال في الكلام ، إذا قال رجل لأحد : لا أزورك أبدا : كل من لم يزرني ، فلست بزائره ، وقائل ذلك يقصد جواب صاحبه القائل له : لا أزورك أبدا .
وقال آخرون : بل معني به ؛ كل من كانت هذه الصفة صفته ، ولم يقصد به قصدا آخر .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو . قال : ثنا أبو عاصم ، قاله : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، [ ص: 598 ] في قول الله : ( ويل لكل همزة لمزة ) قال : ليست بخاصة لأحد .
والصواب من القول في ذلك : أن يقال : إن الله عم بالقول كل همزة لمزة ، كل من كان بالصفة التي وصف هذا الموصوف بها ، سبيله سبيله كائنا من كان من الناس .
وقوله : ( الذي جمع مالا وعدده )
يقول : الذي جمع مالا وأحصى عدده ، ولم ينفقه في سبيل الله ، ولم يؤد حق الله فيه ، ولكنه جمعه فأوعاه وحفظه .
واختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأه من قراء أهل المدينة أبو جعفر ، وعامة قراء الكوفة سوى عاصم : " جمع " بالتشديد ، وقرأ ذلك عامة قراء المدينة والحجاز ، سوى أبي جعفر وعامة قراء البصرة ، ومن الكوفة عاصم ، " جمع " بالتخفيف ، وكلهم مجمعون على تشديد الدال من ( وعدده ) على الوجه الذي ذكرت من تأويله . وقد ذكر عن بعض المتقدمين بإسناد غير ثابت ، أنه قرأه : "جمع مالا وعدده " بتخفيف الدال ، بمعنى : جمع مالا وجمع عشيرته وعدده . هذه قراءة لا أستجيز القراءة بها ، بخلافها قراءة الأمصار ، وخروجها عما عليه الحجة مجمعة في ذلك .
وأما قوله : ( جمع مالا ) فإن التشديد والتخفيف فيهما صوابان ؛ لأنهما قراءتان معروفتان في قراءة الأمصار ، متقاربتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب .
وقوله : ( يحسب أن ماله أخلده )
يقول : يحسب أن ماله الذي جمعه وأحصاه ، وبخل بإنفاقه ، مخلده في الدنيا ، فمزيل عنه الموت . وقيل : أخلده ، والمعنى : يخلده ، كما يقال للرجل الذي يأتي الأمر الذي يكون سببا لهلاكه : عطب والله فلان ، هلك والله فلان ، بمعنى : أنه يعطب من فعله ذلك ، ولما يهلك بعد ولم يعطب ; وكالرجل يأتي الموبقة من الذنوب : دخل والله فلان النار .
وقوله : ( كلا ) يقول تعالى ذكره : ما ذلك كما ظن ، ليس ماله مخلده ،
ثم أخبر جل ثناؤه أنه هالك ومعذب على أفعاله ومعاصيه التي كان يأتيها في الدنيا ، فقال جل ثناؤه : ( لينبذن في الحطمة ) يقول : ليقذفن يوم القيامة في الحطمة ، والحطمة : اسم من أسماء النار ، كما قيل لها : جهنم وسقر ولظى ، وأحسبها سميت بذلك لحطمها كل ما ألقي فيها ، كما يقال للرجل الأكول : الحطمة . ذكر عن أنه كان يقرأ ذلك : " لينبذان في الحطمة " يعني : هذا الهمزة اللمزة وماله ، فثناه لذلك . [ ص: 599 ] الحسن البصري
وقوله : ( وما أدراك ما الحطمة ) يقول : وأي شيء أشعرك يا محمد ما الحطمة ، ثم أخبره عنها ما هي ، فقال جل ثناؤه : هي ( نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة ) يقول : التي يطلع ألمها ووهجها القلوب ; والاطلاع والبلوغ قد يكونان بمعنى حكي عن العرب سماعا : متى طلعت أرضنا ; وطلعت أرضي : بلغت .
وقوله : ( إنها عليهم مؤصدة ) يقول تعالى ذكره : إن الحطمة التي وصفت صفتها عليهم ، يعني : على هؤلاء الهمازين اللمازين ( مؤصدة ) : يعني : مطبقة ; وهي تهمز ولا تهمز ; وقد قرئتا جميعا .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا طلق ، عن ابن ظهير ، عن ، عن السدي أبي مالك ، عن ابن عباس في ( مؤصدة ) : قال : مطبقة .
حدثني عبيد بن أسباط ، قال : ثني أبي ، عن ، عن فضيل بن مرزوق عطية ، في قوله : ( إنها عليهم مؤصدة ) قال : مطبقة .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد ، قال : في النار رجل في شعب من شعابها ينادي مقدار ألف عام : يا حنان يا حنان ، فيقول رب العزة لجبريل : أخرج عبدي من النار ، فيأتيها فيجدها مطبقة ، فيرجع فيقول : يا رب ( إنها عليهم مؤصدة ) فيقول : يا جبريل فكها ، وأخرج عبدي من النار ، فيفكها ، ويخرج مثل الخيال ، فيطرح على ساحل الجنة حتى ينبت الله له شعرا ولحما ودما .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ، عن ابن علية أبي رجاء ، عن الحسن ، في قوله : ( إنها عليهم مؤصدة ) قال : مطبقة .
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ، عن وكيع مضرس بن عبد الله ، قال : سمعت الضحاك ( إنها عليهم مؤصدة ) قال : مطبقة .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ( إنها عليهم مؤصدة ) قال : عليهم مغلقة .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( إنها عليهم مؤصدة ) أي : مطبقة . [ ص: 600 ]
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( إنها عليهم مؤصدة ) قال : مطبقة ، والعرب تقول : أوصد الباب : أغلق .
وقوله : ( في عمد ممددة ) اختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء المدينة والبصرة : ( في عمد ) بفتح العين والميم . وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة : " في عمد " بضم العين والميم . والقول في ذلك عندنا أنهما قراءتان معروفتان ، قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القراء ، ولغتان صحيحتان . والعرب تجمع العمود : عمدا وعمدا ، بضم الحرفين وفتحهما ، وكذلك تفعل في جمع إهاب ، تجمعه : أهبا ، بضم الألف والهاء ، وأهبا بفتحهما ، وكذلك القضم ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب .
واختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : ( إنها عليهم مؤصدة بعمد ممددة ) أي : مغلقة مطبقة عليهم ، وكذلك هو في قراءة عبد الله فيما بلغنا .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن قتادة ، في قراءة عبد الله : " إنها عليهم مؤصدة بعمد ممددة " .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : إنما دخلوا في عمد ، ثم مدت عليهم تلك العمد بعماد .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ( في عمد ممددة ) قال : أدخلهم في عمد ، فمدت عليهم بعماد ، وفي أعناقهم السلاسل ، فسدت بها الأبواب .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ( في عمد ) من حديد مغلولين فيها ، وتلك العمد من نار قد احترقت من النار ، فهي من نار ( ممددة ) لهم .
وقال آخرون : هي عمد يعذبون بها .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( في عمد ممددة ) كنا نحدث أنها عمد يعذبون بها في النار ، قال بشر : قال يزيد : في قراءة قتادة : ( عمد ) .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سعيد ، عن قتادة ( في عمد ممددة ) قال : عمود يعذبون به في النار .
وأولى الأقوال بالصواب في ذلك قول من قال : معناه : أنهم يعذبون بعمد في [ ص: 601 ] النار ، والله أعلم كيف تعذيبه إياهم بها ، ولم يأتنا خبر تقوم به الحجة بصفة تعذيبهم بها ، ولا وضع لنا عليها دليل ، فندرك به صفة ذلك ، فلا قول فيه ، غير الذي قلنا يصح عندنا ، والله أعلم . آخر تفسير سورة الهمزة
[ ص: 602 ]