فائدة ذكرها المؤلف في تسمية أحد : قال : سمي أحد أحدا ; لتوحده من بين تلك الجبال ، وفي " الصحيح " : أحد جبل يحبنا ونحبه قيل معناه أهله . وقيل : لأنه كان يبشره بقرب أهله إذا رجع من سفره ، كما يفعل المحب . وقيل : على ظاهره ، كقوله : وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله [ البقرة : 74 ] . وفي الحديث عن : أبي عبس بن جبر أحد يحبنا ونحبه ، وهو على باب الجنة ، وعير يبغضنا ونبغضه ، وهو على باب من أبواب النار . قال السهيلي : مقويا لهذا الحديث : وقد ثبت أنه ، عليه الصلاة والسلام ، قال : المرء مع من أحب . وهذا [ ص: 338 ] من غريب صنع السهيلي ; فإن هذا الحديث إنما يراد به الناس ، ولا يسمى الجبل امرأ .
وكانت هذه الغزوة في شوال سنة ثلاث . قاله الزهري ، وقتادة ، ، وموسى بن عقبة ، ومحمد بن إسحاق . قال ومالك ابن إسحاق : للنصف من شوال . وقال قتادة : يوم السبت الحادي عشر منه . قال مالك : وكانت الوقعة في أول النهار . وهي على المشهور التي أنزل الله فيها قوله تعالى : وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين الآيات وما بعدها إلى قوله : ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب [ آل عمران : 121 - 179 ] . وقد تكلمنا على تفاصيل ذلك كله في كتابنا " التفسير " بما فيه كفاية ولله الحمد والمنة . [ ص: 339 ]
ولنذكر هاهنا ملخص الوقعة مما ساقه محمد بن إسحاق وغيره من علماء هذا الشأن .
قال ابن إسحاق رحمه الله : وكان من حديث أحد كما حدثني ، محمد بن مسلم الزهري ، ومحمد بن يحيى بن حبان ، وعاصم بن عمر بن قتادة وغيرهم من علمائنا ، كلهم قد حدث ببعض هذا الحديث عن يوم والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ أحد وقد اجتمع حديثهم كلهم فيما سقت ، قالوا - أو من قال منهم - : لما أصيب يوم بدر من كفار قريش أصحاب القليب ورجع فلهم إلى مكة ، ورجع بعيره ، مشى أبو سفيان بن حرب عبد الله بن أبي ربيعة ، ، وعكرمة بن أبي جهل في رجال من وصفوان بن أمية قريش ممن أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم يوم بدر ، فكلموا أبا سفيان ومن كانت له تلك العير من قريش تجارة ، فقالوا : يا معشر قريش ، إن محمدا قد وتركم وقتل خياركم ; فأعينونا بهذا المال على حربه ، لعلنا ندرك منه ثأرنا . ففعلوا . قال ابن إسحاق : ففيهم كما ذكر لي بعض أهل العلم أنزل الله تعالى : كنتم تكفرون إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون [ الأنفال : 36 ] . قالوا : فأجمعت قريش لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حين فعل ذلك أبو سفيان وأصحاب العير بأحابيشها ومن أطاعها من قبائل كنانة وأهل تهامة ، وكان أبو عزة عمرو بن عبد الله الجمحي قد من عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر وكان فقيرا ذا عيال وحاجة ، وكان في الأسارى ، فقال له صفوان بن أمية يا أبا عزة ، إنك امرؤ شاعر ، فأعنا بلسانك واخرج معنا . فقال : إن محمدا قد من علي ، فلا أريد أن أظاهر عليه . قال : بلى فأعنا بنفسك ، فلك الله إن رجعت أن أعينك ، وإن قتلت أن أجعل بناتك مع بناتي ، يصيبهن ما أصابهن من عسر ويسر . فخرج أبو عزة يسير في تهامة ويدعو بني كنانة ويقول :
أيا بني عبد مناة الرزام أنتم حماة وأبوكم حام لا يعدوني نصركم بعد العام
لا تسلموني لا يحل إسلام
يا مال مال الحسب المقدم أنشد ذا القربى وذا التذمم
من كان ذا رحم ومن لم يرحم الحلف وسط البلد المحرم
عند حطيم الكعبة المعظم
وروى : من طريق البيهقي حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن أنس [ ص: 345 ] مرفوعا قال : رأيت فيما يرى النائم كأني مردف كبشا ، وكأن ظبة سيفي انكسرت ، فأولت أني أقتل كبش القوم ، وأولت كسر ظبة سيفي قتل رجل من عترتي . فقتل حمزة ، وقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم طلحة وكان صاحب اللواء .
وقال ورجعت موسى بن عقبة : قريش فاستجلبوا من أطاعهم من مشركي العرب ، وسار في جمع أبو سفيان بن حرب قريش وذلك في شوال من السنة المقبلة من وقعة بدر حتى نزلوا ببطن الوادي الذي قبل أحد وكان رجال من المسلمين لم يشهدوا بدرا قد ندموا على ما فاتهم من السابقة ، وتمنوا لقاء العدو ; ليبلوا ما أبلى إخوانهم يوم بدر ، فلما نزل أبو سفيان والمشركون بأصل أحد فرح المسلمون الذين لم يشهدوا بدرا بقدوم العدو عليهم ، وقالوا : قد ساق الله علينا أمنيتنا . ثم عتبة بن أبي وقاص ، وكان البقر من قتل من المسلمين يومئذ . وقال : أولت الكبش أنه كبش كتيبة العدو يقتله الله ، وأولت الدرع الحصينة المدينة ، فامكثوا واجعلوا الذراري في الآطام ، فإن دخل علينا القوم في الأزقة ، قاتلناهم ورموا من فوق البيوت ، وكانوا قد سكوا أزقة المدينة بالبنيان حتى صارت كالحصن . فقال الذين لم يشهدوا بدرا : كنا نتمنى هذا اليوم وندعو الله ، فقد ساقه الله إلينا وقرب المسير . وقال رجال من الأنصار : متى نقاتلهم يا رسول الله إذا لم نقاتلهم عند شعبنا ؟ وقال رجال : ماذا نمنع إذا لم تمنع الحرث يزرع ؟ [ ص: 347 ] وقال رجال : قولا صدقوا به ومضوا عليه ، منهم حمزة بن عبد المطلب ، قال : والذي أنزل عليك الكتاب لنجالدنهم . وقال نعمان بن مالك بن ثعلبة ، وهو أحد بني سالم : يا نبي الله ، لا تحرمنا الجنة ، فوالذي نفسي بيده لأدخلنها . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : بم ؟ . قال : بأني أحب الله ورسوله ، ولا أفر يوم الزحف . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : صدقت . واستشهد يومئذ . وأبى كثير من الناس إلا الخروج إلى العدو ، ولم يتناهوا إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأيه ، ولو رضوا بالذي أمرهم كان ذلك ، ولكن غلب القضاء والقدر ، وعامة من أشار عليه بالخروج رجال لم يشهدوا بدرا ، قد علموا الذي سبق لأصحاب بدر من الفضيلة ، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة ، وعظ الناس وذكرهم وأمرهم بالجد والجهاد ، ثم انصرف من خطبته وصلاته ، فدعا بلأمته فلبسها ، ثم أذن في الناس بالخروج ، فلما رأى ذلك رجال من ذوي الرأي ، قالوا : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نمكث بالمدينة وهو أعلم بالله وما يريد ، ويأتيه الوحي من السماء ، فقالوا : يا رسول الله ، امكث كما أمرتنا . فقال : ما ينبغي لنبي إذا أخذ لأمة الحرب وأذن بالخروج إلى العدو ، أن يرجع حتى يقاتل ، وقد دعوتكم إلى هذا الحديث فأبيتم إلا الخروج ، فعليكم بتقوى الله والصبر عند البأس إذا لقيتم العدو ، وانظروا ماذا آمركم به فافعلوه . قال : فخرج [ ص: 348 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون ، فسلكوا على البدائع ، وهم ألف رجل ، والمشركون ثلاثة آلاف ، فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أري ليلة الجمعة رؤيا فأصبح ، فجاءه نفر من أصحابه فقال لهم : رأيت البارحة في منامي بقرا تذبح ، والله خير ، ورأيت سيفي ذا الفقار انقصم من عند ظبته - أو قال : به فلول - فكرهته ، وهما مصيبتان ، ورأيت أني في [ ص: 346 ] درع حصينة ، وأني مردف كبشا . فلما أخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم برؤياه ، قالوا : يا رسول الله ، ماذا أولت رؤياك ؟ قال : أولت البقر الذي رأيت نفرا فينا وفي القوم ، وكرهت ما رأيت بسيفي : ويقول رجال : كان الذي رأى بسيفه ، الذي أصاب وجهه ; فإن العدو أصاب وجهه يومئذ ، وقصموا رباعيته وخرقوا شفته ، يزعمون أن الذي رماه بأحد ورجع عنه عبد الله بن أبي بن سلول في ثلاثمائة ، فبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في سبعمائة .
قال : هذا هو المشهور عند أهل المغازي ; أنهم بقوا في سبعمائة مقاتل . قال : والمشهور عن البيهقي الزهري أنهم بقوا في أربعمائة مقاتل ، كذلك رواه يعقوب بن سفيان ، عن أصبغ ، عن ابن وهب ، عن يونس ، عن الزهري . وقيل عنه بهذا الإسناد : سبعمائة . فالله أعلم .
قال وكان على خيل المشركين موسى بن عقبة : خالد بن الوليد ، وكان معهم مائة فرس ، وكان لواؤه مع طلحة بن عثمان . قال : ولم يكن مع المسلمين فرس واحدة . ثم ذكر الوقعة كما سيأتي تفصيلها ، إن شاء الله تعالى .
وقال محمد بن إسحاق لما قص رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤياه على أصحابه قال لهم : إن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلوا ، فإن أقاموا أقاموا بشر مقام ، وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها . وكان رأي عبد الله بن أبي بن [ ص: 349 ] سلول مع رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن لا يخرج إليهم ، فقال رجال من المسلمين ممن أكرم الله بالشهادة يوم أحد وغيرهم ممن كان فاته بدر : يا رسول الله ، اخرج بنا إلى أعدائنا ، لا يرون أنا جبنا عنهم وضعفنا . فقال عبد الله بن أبي : يا رسول الله ، لا تخرج إليهم ، فوالله ما خرجنا منها إلى عدو قط إلا أصاب منا ، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه . فلم يزل الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل فلبس لأمته ، وذلك يوم الجمعة حين فرغ من الصلاة ، وقد مات في ذلك اليوم رجل من بني النجار يقال له : مالك بن عمرو . فصلى عليه ثم خرج عليهم ، وقد ندم الناس ، وقالوا : استكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يكن لنا ذلك . فلما خرج عليهم قالوا : يا رسول الله ، إن شئت فاقعد . فقال : ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل . فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ألف من أصحابه . قال ابن هشام : واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم
قال ابن إسحاق : حتى إذا كان بالشوط بين المدينة وأحد انخزل عنه عبد الله بن أبي بثلث الناس ، وقال : أطاعهم وعصاني ، ما ندري علام نقتل أنفسنا هاهنا أيها الناس ؟ فرجع بمن اتبعه من قومه من أهل النفاق والريب ، واتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام السلمي ، والد جابر بن عبد الله فقال : يا قوم ، أذكركم الله أن لا تخذلوا قومكم ونبيكم عند ما حضر من عدوهم . [ ص: 350 ] قالوا : لو نعلم أنكم تقاتلون لما أسلمناكم ، ولكنا لا نرى أن يكون قتال فلما استعصوا عليه وأبوا إلا الانصراف ، قال أبعدكم الله أعداء الله ، فسيغني الله عنكم نبيه صلى الله عليه وسلم .
قلت : وهؤلاء القوم هم المرادون بقوله تعالى : وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون [ آل عمران : 167 ] . يعني ، أنهم كاذبون في قولهم : لو نعلم قتالا لاتبعناكم . وذلك لأن وقوع القتال أمره ظاهر بين واضح ، لا خفاء ولا شك فيه ، وهم الذين أنزل الله فيهم : فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا الآية [ النساء : 88 ] . وذلك أن طائفة قالت : نقاتلهم . وقال آخرون : لا نقاتلهم . كما ثبت وبين في " الصحيح " . وذكر الزهري أن الأنصار استأذنوا حينئذ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاستعانة بحلفائهم من يهود المدينة فقال : لا حاجة لنا فيهم . وذكر عروة ، أن وموسى بن عقبة بني سلمة وبني حارثة لما رجع عبد الله بن أبي وأصحابه ، همتا [ ص: 351 ] أن تفشلا ، فثبتهما الله تعالى . ولهذا قال : إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون [ آل عمران : 122 ] قال : ما أحب أنها لم تنزل ، والله يقول : جابر بن عبد الله والله وليهما كما هو ثابت في " الصحيحين " عنه .
قال ابن إسحاق : ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سلك في حرة بني حارثة فذب فرس بذنبه ، فأصاب كلاب سيف فاستله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحب السيف : شم سيفك - أي أغمده - فإني أرى السيوف ستسل اليوم . ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه : من رجل يخرج بنا على القوم من كثب - أي من قريب - من طريق لا يمر بنا عليهم ؟ فقال أبو خيثمة أخو بني حارثة بن الحارث : أنا يا رسول الله . فنفذ به في حرة بني حارثة وبين أموالهم ، حتى سلك به في مال لمربع بن قيظي ، وكان رجلا منافقا ضرير البصر ، فلما سمع حس رسول الله ومن معه من المسلمين ، قام يحثي في وجوههم التراب ويقول : إن كنت رسول الله ، فإني لا أحل لك أن تدخل في حائطي . قال ابن إسحاق : وقد ذكر لي أنه أخذ حفنة من تراب في يده ، ثم قال : والله لو أعلم أني لا أصيب بها غيرك يا محمد لضربت بها وجهك . [ ص: 352 ] فابتدره القوم ليقتلوه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تقتلوه ، فهذا الأعمى أعمى القلب أعمى البصر . وقد بدر إليه سعد بن زيد أخو بني عبد الأشهل قبل نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فضربه بالقوس في رأسه فشجه ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل الشعب من أحد في عدوة الوادي إلى الجبل ، وجعل ظهره وعسكره إلى أحد ، وقال : لا يقاتلن أحد حتى نأمره بالقتال وقد سرحت قريش الظهر والكراع في زروع كانت بالصمغة من قناة للمسلمين ، فقال رجل من الأنصار حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القتال : أترعى زروع بني قيلة ولما نضارب ؟ وتعبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتال ، وهو في سبعمائة رجل ، وأمر على الرماة يومئذ أخا عبد الله بن جبير بني عمرو بن عوف وهو معلم يومئذ بثياب بيض ، والرماة خمسون رجلا ، فقال : انضح الخيل عنا بالنبل ، لا يأتونا من خلفنا ، إن كانت لنا أو علينا فاثبت مكانك ، لا نؤتين من قبلك . وسيأتي شاهد هذا في " الصحيحين " إن شاء الله تعالى .
قال ابن إسحاق : وظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين درعين - يعني لبس درعا فوق درع - ودفع اللواء إلى أخي مصعب بن عمير بني عبد الدار . قلت : وقد رد رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من الغلمان يوم أحد فلم يمكنهم من حضور الحرب لصغرهم ; منهم عبد الله بن عمر كما ثبت في [ ص: 353 ] " الصحيحين " قال : عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد فلم يجزني ، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة ، فأجازني . وكذلك رد يومئذ أسامة بن زيد ، ، وزيد بن ثابت ، والبراء بن عازب وأسيد بن ظهير ، وعرابة بن أوس بن قيظي ، ذكره في المعارف ، وأورده ابن قتيبة السهيلي . قال : وهو الذي يقول فيه الشماخ
إذا ما راية رفعت لمجد تلقاها عرابة باليمين
قال ابن إسحاق رحمه الله : وتعبأت قريش وهم ثلاثة آلاف ، ومعهم مائتا فرس قد جنبوها ، فجعلوا على ميمنة الخيل خالد بن الوليد وعلى [ ص: 354 ] ميسرتها . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : عكرمة بن أبي جهل بن هشام . هكذا ذكره من يأخذ هذا السيف بحقه ؟ فقام إليه رجال ، فأمسكه عنهم ، حتى قام إليه أبو دجانة سماك بن خرشة ، أخو بني ساعدة ، فقال : وما حقه يا رسول الله ؟ قال : أن تضرب به في العدو حتى ينحني قال : أنا آخذه يا رسول الله بحقه ، فأعطاه إياه ابن إسحاق منقطعا .
وقد قال : حدثنا الإمام أحمد يزيد ، وعفان قالا : حدثنا ، أخبرنا حماد ، هو ابن سلمة ثابت ، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ سيفا يوم أحد فقال : من يأخذ هذا السيف ؟ فأخذه قوم فجعلوا ينظرون إليه ، فقال : من يأخذه بحقه ؟ فأحجم القوم ، فقال : أنا آخذه بحقه . فأخذه ففلق به هام المشركين . أبو دجانة سماك ورواه مسلم ، عن أبي بكر ، عن عفان به .
قال ابن إسحاق : وكان أبو دجانة رجلا شجاعا يختال عند الحرب ، وكان له عصابة حمراء يعلم بها عند الحرب ، يعتصب بها فيعلم الناس أنه سيقاتل . قال : فلما أخذ السيف من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرج عصابته تلك فاعتصب بها ، ثم جعل يتبختر بين الصفين .
قال : فحدثني جعفر بن عبد الله بن أسلم مولى عمر بن الخطاب ، عن [ ص: 355 ] رجل من الأنصار من بني سلمة قال : يتبختر : إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن . أبا دجانة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى
قال ابن إسحاق : وقد قال أبو سفيان لأصحاب اللواء من بني عبد الدار يحرضهم على القتال : يا بني عبد الدار ، قد وليتم لواءنا يوم بدر فأصابنا ما قد رأيتم ، وإنما يؤتى الناس من قبل راياتهم ، إذا زالت زالوا ، فإما أن تكفونا لواءنا ، وإما أن تخلوا بيننا وبينه فنكفيكموه . فهموا به وتواعدوه ، وقالوا : نحن نسلم إليك لواءنا! ستعلم غدا إذا التقينا كيف نصنع . وذلك الذي أراد أبو سفيان . قال : فلما التقى الناس ، ودنا بعضهم من بعض ، قامت هند بنت عتبة في النسوة اللاتي معها ، وأخذن الدفوف يضربن بها خلف الرجال ، ويحرضن على القتال ، فقالت هند فيما تقول
ويها بني عبد الدار ويها حماة الأدبار
ضربا بكل بتار
وتقول أيضا :
إن تقبلوا نعانق ونفرش النمارق
أو تدبروا نفارق فراق غير وامق
قال ابن إسحاق : فاقتتل الناس حتى حميت الحرب ، وقاتل أبو دجانة حتى أمعن في الناس .
قال ابن هشام : وحدثني غير واحد من أهل العلم ، أن قال : وجدت في نفسي حين سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف فمنعنيه وأعطاه الزبير بن العوام ، وقلت : أنا ابن أبا دجانة صفية عمته ، ومن قريش ، وقد قمت إليه فسألته إياه قبله ، فأعطاه وتركني ، والله لأنظرن ما يصنع . فاتبعته فأخرج عصابة [ ص: 357 ] له حمراء ، فعصب بها رأسه ، فقالت أبا دجانة الأنصار : أخرج أبو دجانة عصابة الموت . وهكذا كانت تقول له إذا تعصب ، فخرج وهو يقول :
أنا الذي عاهدني خليلي ونحن بالسفح لدى النخيل
أن لا أقوم الدهر في الكيول أضرب بسيف الله والرسول
أنا الذي عاهدني خليلي أن لا أقوم الدهر في الكيول
وهذا حديث يروى عن شعبة ورواه إسرائيل ، كلاهما عن أبي إسحاق ، عن هند بنت خالد أو غيره يرفعه . الكيول يعني مؤخر الصفوف ، سمعته من عدة من أهل العلم ، ولم أسمع هذا الحرف إلا في هذا الحديث .
قال ابن إسحاق : فجعل لا يلقى أحدا إلا قتله ، وكان في المشركين رجل لا يدع جريحا إلا ذفف عليه ، فجعل كل منهما يدنو من صاحبه [ ص: 358 ] فدعوت الله أن يجمع بينهما ، فالتقيا ، فاختلفا ضربتين ، فضرب المشرك فاتقاه بدرقته فعضت بسيفه ، وضربه أبا دجانة أبو دجانة فقتله ، ثم رأيته قد حمل السيف على مفرق رأس هند بنت عتبة ثم عدل السيف عنها . قال الزبير : فقلت : الله ورسوله أعلم . وقد رواه في " الدلائل " من طريق البيهقي عن أبيه ، عن هشام بن عروة بذلك . الزبير بن العوام
قال ابن إسحاق : قال أبو دجانة : رأيت إنسانا يحمش الناس حمشا شديدا ، فصمدت له ، فلما حملت عليه السيف ولول ، فاذا امرأة ، فأكرمت سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أضرب به امرأة .
وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عرضه ، طلبه منه موسى بن عقبة عمر فأعرض عنه ، ثم طلبه منه الزبير فأعرض عنه ، فوجدا في أنفسهما من ذلك ، ثم عرضه الثالثة ، فطلبه أبو دجانة فدفعه إليه ، فأعطى السيف حقه . قال : فزعموا أن قال : كنت فيمن جرح من المسلمين ، فلما رأيت [ ص: 359 ] مثل المشركين بقتلى المسلمين قمت فتجاوزت ، فإذا رجل من المشركين جمع اللأمة يحوز المسلمين ، وهو يقول : استوسقوا كما استوسقت جزر الغنم . قال : وإذا رجل من المسلمين ينتظره وعليه لأمته ، فمضيت حتى كنت من ورائه ، ثم قمت أقدر المسلم والكافر ببصري ، فإذا الكافر أفضلهما عدة وهيئة . قال : فلم أزل أنتظرهما حتى التقيا ، فضرب المسلم الكافر على حبل عاتقه ضربة بالسيف فبلغت وركه ، وتفرق فرقتين ، ثم كشف المسلم عن وجهه وقال : كيف ترى يا كعب بن مالك كعب ؟ أنا أبو دجانة .