قال بعد اقتصاصه وقعة موسى بن عقبة أحد وذكره رجوعه عليه السلام إلى المدينة : وقدم رجل من أهل مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن أبي سفيان وأصحابه ، فقال : نازلتهم فسمعتهم يتلاومون ; يقول بعضهم لبعض : لم تصنعوا شيئا ; أصبتم شوكة القوم وحدهم ، ثم تركتموهم ، ولم تبتروهم ، فقد بقي منهم رءوس يجمعون لكم . فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه وبهم أشد القرح ، بطلب العدو ; ليسمعوا بذلك ، وقال : لا ينطلقن معي إلا من شهد القتال فقال عبد الله بن أبي أنا : راكب معك . فقال : لا ، فاستجابوا لله ولرسوله على الذي بهم من البلاء ، فانطلقوا [ ص: 455 ] فقال الله في كتابه العزيز الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم [ آل عمران : 172 ] قال : وأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذكر أن أباه أمره بالمقام في لجابر بن عبد الله المدينة على أخواته . قال : وطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم العدو حتى بلغ حمراء الأسد . وهكذا روى ابن لهيعة ، عن أبي الأسود ، عن عروة بن الزبير سواء .
وقال محمد بن إسحاق : في " مغازيه " : وكان يوم أحد يوم السبت النصف من شوال ، فلما كان الغد من يوم الأحد لست عشرة ليلة مضت من شوال ، أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس بطلب العدو ، وأذن مؤذنه ألا يخرجن أحد إلا من حضر يومنا بالأمس . فكلمه فأذن له . قال جابر بن عبد الله ابن إسحاق : وإنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مرهبا للعدو ، وليبلغهم أنه خرج في طلبهم ; ليظنوا به قوة ، وأن الذي أصابهم لم يوهنهم عن عدوهم .
قال ابن إسحاق رحمه الله : فحدثني عبد الله بن خارجة بن زيد بن ثابت ، عن أبي السائب مولى عائشة بنت عثمان أن رجلا من بني عبد الأشهل قال : شهدت أحدا أنا وأخ لي فرجعنا جريحين ، فلما أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج في طلب العدو ، قلت لأخي وقال لي : أتفوتنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ والله ما لنا من دابة نركبها ، وما منا إلا جريح ثقيل [ ص: 456 ] فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكنت أيسر جرحا منه ، فكان إذا غلب حملته عقبة ومشى عقبة ، حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون .
قال ابن إسحاق : فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى إلى حمراء الأسد وهي من المدينة على ثمانية أميال ، فأقام بها الاثنين والثلاثاء والأربعاء ، ثم رجع إلى المدينة . . قال ابن هشام : وقد كان استعمل على المدينة . ابن أم مكتوم
قال ابن إسحاق : ، حدثني عبد الله بن أبي بكر أن معبد بن أبي معبد الخزاعي وكانت خزاعة مسلمهم وكافرهم عيبة نصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم بتهامة ، صفقهم معه ، لا يخفون عنه شيئا كان بها ومعبد يومئذ مشرك ، مر برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مقيم بحمراء الأسد فقال : يا محمد ، أما والله لقد عز علينا ما أصابك في أصحابك ، ولوددنا أن الله عافاك فيهم . ثم خرج ورسول الله صلى الله عليه وسلم بحمراء الأسد ، حتى لقي ومن معه بالروحاء ، وقد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وقالوا : أصبنا [ ص: 457 ] حد أصحابه وقادتهم وأشرافهم ، ثم نرجع قبل أن نستأصلهم ؟ ! لنكرن على بقيتهم فلنفرغن منهم . فلما رأى أبا سفيان بن حرب أبو سفيان معبدا قال : ما وراءك يا معبد ؟ قال : محمد قد خرج في أصحابه ، يطلبكم في جمع لم أر مثله قط ; يتحرقون عليكم تحرقا ، قد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم ، وندموا على ما صنعوا ، فيهم من الحنق عليكم شيء لم أر مثله قط . قال : ويلك ، ما تقول ؟ قال : والله ما أراك ترتحل حتى ترى نواصي الخيل . قال : فوالله لقد أجمعنا الكرة عليهم ; لنستأصل شأفتهم . قال : فإني أنهاك عن ذلك ، ووالله لقد حملني ما رأيت على أن قلت فيه أبياتا من شعر . قال : وما قلت ؟ قال : قلت :
كادت تهد من الأصوات راحلتي إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل تردى بأسد كرام لا تنابلة
عند اللقاء ولا ميل معازيل فظلت عدوا أظن الأرض مائلة
لما سموا برئيس غير مخذول [ ص: 458 ] فقلت ويل ابن حرب من لقائكم
إذا تغطمطت البطحاء بالجيل إني نذير لأهل البسل ضاحية
لكل ذي إربة منهم ومعقول من جيش أحمد لا وخش قنابله
وليس يوصف ما أنذرت بالقيل
قال : فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه . ومر به ركب من عبد القيس فقال : أين تريدون ؟ قالوا : المدينة . قال : ولم ؟ قالوا : نريد الميرة . قال : فهل أنتم مبلغون عني محمدا رسالة أرسلكم بها إليه وأحمل لكم إبلكم هذه غدا زبيبا بعكاظ إذا وافيتموها ؟ قالوا : نعم . قال : فإذا وافيتموه ، فأخبروه أنا قد أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه ; لنستأصل بقيتهم . فمر الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بحمراء الأسد فأخبروه بالذي قال أبو سفيان فقال : حسبنا الله ونعم الوكيل . وكذا قال . [ ص: 459 ] وقد قال الحسن البصري : حدثنا البخاري أراه قال : حدثنا أحمد بن يونس أبو بكر ، عن أبي حصين ، عن أبي الضحى ، عن ابن عباس : إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار ، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا : إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل [ آل عمران : 173 ] تفرد بروايته حسبنا الله ونعم الوكيل ، قالها . البخاري
وقد قال : حدثنا البخاري محمد بن سلام ، حدثنا أبو معاوية ، عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها : الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم [ آل عمران : 172 ] قالت لعروة : يا ابن أختي ، كان أبواك منهم الزبير وأبو بكر رضي الله عنهما ، لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أصاب يوم أحد وانصرف عنه المشركون ، خاف أن يرجعوا ، فقال : من يذهب في إثرهم فانتدب منهم سبعون رجلا ، فيهم أبو بكر والزبير . هكذا رواه ، وقد رواه [ ص: 460 ] البخاري مسلم مختصرا من أوجه ، عن هشام . وهكذا رواه ، سعيد بن منصور جميعا ، عن وأبو بكر الحميدي سفيان بن عيينة وأخرجه ابن ماجه من طريقه ، عن به ، ورواه هشام بن عروة في " مستدركه " من طريق الحاكم أبي سعيد المؤدب ، عن به ، ورواه من حديث هشام بن عروة البهي ، عن عروة وقال في كل منهما : صحيح ، ولم يخرجاه . كذا قال .
وهذا السياق غريب جدا ; فإن المشهور عند أصحاب المغازي أن الذين خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حمراء الأسد كل ، كما تقدم ، قتل منهم سبعون ، وبقي الباقون . من شهد أحدا وكانوا سبعمائة
وقد روى ابن جرير من طريق العوفي ، عن ابن عباس قال : إن الله قذف في قلب أبي سفيان الرعب يوم أحد بعد الذي كان منه فرجع إلى مكة ، وكان التجار يقدمون في ذي القعدة [ ص: 461 ] المدينة فينزلون ببدر الصغرى في كل سنة مرة ، وأنهم قدموا بعد وقعة أحد وكان أصاب المسلمين القرح ، واشتكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتد عليهم الذي أصابهم وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب الناس لينطلقوا معه ويتبعوا ما كانوا متبعين ، وقال لنا : إنما يرتحلون الآن فيأتون الحج ، ولا يقدرون على مثلها حتى عام قابل . فجاء الشيطان يخوف أولياءه ، فقال : إن الناس قد جمعوا لكم . فأبى عليه الناس أن يتبعوه ، فقال : إني ذاهب ، وإن لم يتبعني أحد فانتدب معه وكانت وقعة أحد في شوال أبو بكر ، وعمر ، وعثمان وعلي وطلحة ، والزبير ، وسعد ، ، وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة ، ، وابن مسعود وحذيفة في سبعين رجلا ، فساروا في طلب أبي سفيان حتى بلغوا الصفراء فأنزل الله : الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم وهذا غريب أيضا . وقال ابن هشام : ، حدثنا أبو عبيدة أن لما انصرف يوم أبا سفيان بن حرب أحد أراد الرجوع إلى المدينة فقال لهم صفوان بن أمية : لا تفعلوا ; فإن القوم قد حربوا ، وقد خشينا أن يكون لهم قتال غير الذي كان ، فارجعوا . فرجعوا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم وهو بحمراء الأسد حين بلغه أنهم هموا بالرجعة : [ ص: 462 ] والذي نفسي بيده ، لقد سومت لهم حجارة ، لو صبحوا بها لكانوا كأمس الذاهب . قال : وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهه ذلك - قبل رجوعه إلى المدينة - معاوية بن المغيرة بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس جد لأمه عبد الملك بن مروان عائشة بنت معاوية وأبا عزة الجمحي ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أسره ببدر ثم من عليه ، فقال : يا رسول الله ، أقلني . فقال : لا والله ، لا تمسح عارضيك بمكة تقول : خدعت محمدا مرتين ، اضرب عنقه يا زبير . فضرب عنقه .
قال ابن هشام : وبلغني عن ابن المسيب أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين ، اضرب عنقه يا عاصم بن ثابت فضرب عنقه .
وذكر ابن هشام أن معاوية بن المغيرة بن أبي العاص استأمن له عثمان على أن لا يقيم بعد ثلاث ، فبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدها ، زيد بن حارثة وقال ستجدانه في مكان كذا وكذا فاقتلاه ففعلا رضي الله عنهما . [ ص: 463 ] وعمار بن ياسر
قال ابن إسحاق : ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كان عبد الله بن أبي كما حدثني الزهري له مقام يقومه كل جمعة ، لا ينكر له ، شرفا في نفسه وفي قومه ، وكان فيه شريفا ، إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة ، وهو يخطب الناس ، قام فقال : أيها الناس ، هذا رسول الله بين أظهركم ، أكرمكم الله به ، وأعزكم به ، فانصروه وعزروه واسمعوا له وأطيعوا . ثم يجلس حتى إذا صنع يوم أحد ما صنع ، ورجع الناس ، قام يفعل ذلك كما كان يفعله ، فأخذ المسلمون بثيابه من نواحيه ، وقالوا : اجلس أي عدو الله ، والله لست لذلك بأهل ، وقد صنعت ما صنعت . فخرج يتخطى رقاب الناس وهو يقول : والله لكأنما قلت بجرا أن قمت أشدد أمره . فلقيه رجال من الأنصار بباب المسجد فقالوا : ويلك ، ما لك ؟ قال : قمت أشدد أمره فوثب إلي رجال من أصحابه يجذبونني ويعنفونني ، لكأنما قلت بجرا أن قمت أشدد أمره . قالوا : ويلك . ارجع يستغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : والله ما أبتغي أن يستغفر لي .
ثم ذكر ابن إسحاق : ما نزل من القرآن في قصة أحد من سورة آل [ ص: 464 ] عمران عند قوله : وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم [ آل عمران : 121 ] قال : إلى تمام ستين آية . وتكلم عليها ، وقد بسطنا الكلام على ذلك في كتابنا " التفسير " بما فيه كفاية . ثم شرع ابن إسحاق في ذكر شهداء أحد وتعدادهم بأسمائهم وأسماء آبائهم على قبائلهم ، كما جرت عادته ، فذكر من المهاجرين أربعة ; حمزة ، ، ومصعب بن عمير وعبد الله بن جحش ، وشماس بن عثمان رضي الله عنهم ، ومن الأنصار إلى تمام خمسة وستين رجلا ، واستدرك عليه ابن هشام خمسة آخرين ، فصاروا سبعين على قول ابن هشام ثم سمى ابن إسحاق من قتل من المشركين ، وهم اثنان وعشرون رجلا ، على قبائلهم أيضا .
قلت : ولم يؤسر من المشركين سوى أبي عزة الجمحي كما ذكره وغيره ، وقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم صبرا بين يديه ; أمر الشافعي الزبير - ويقال عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح - فضرب عنقه .