فصل في غزوة القادسية    . 
ثم سار سعد  فنزل القادسية  ، وبث سراياه وأقام بها شهرا لم ير أحدا من الفرس ،  فكتب إلى عمر  بذلك ، والسرايا تأتي بالميرة من كل مكان ، فعجت رعايا الفرس  من أطراف بلادهم إلى  يزدجرد  من الذي يلقون من المسلمين من النهب والسباء . وقالوا : إن لم تنجدونا وإلا أعطينا ما بأيدينا وسلمنا إليهم الحصون . واجتمع رأي الفرس  على إرسال رستم  إليهم ، فبعث إليه  يزدجرد  ، فأمره على الجيش ، فاستعفى رستم  من ذلك وقال : إن هذا ليس برأي في الحرب ، إن إرسال الجيوش بعد الجيوش أشد على العرب من أن يكسروا جيشا كثيفا مرة واحدة . فأبى الملك إلا ذلك ، فتجهز رستم  للخروج ، ثم بعث سعد   [ ص: 619 ] كاشفا إلى الحيرة  ، وإلى صلوبا ، فأتاه الخبر بأن الملك قد أمر على الحرب رستم بن الفرخزاذ الأرمني  ، وأمده بالعساكر ، فكتب سعد  إلى عمر  بذلك ، فكتب إليه عمر    : لا يكربنك ما يأتيك عنهم ، ولا ما يأتونك به ، واستعن بالله وتوكل عليه ، وابعث إليه رجالا من أهل النظر والرأي والجلد يدعونه ، فإن الله جاعل دعاءهم توهينا لهم وفلجا عليهم ، واكتب إلي في كل يوم . 
ولما اقترب رستم  بجيوشه وعسكر بساباط  كتب سعد  إلى عمر  يقول : إن رستم  قد عسكر بساباط ،  وجر الخيول والفيول وزحف علينا بها ، وليس شيء أهم عندي ولا أكثر ذكرا مني لما أحببت أن أكون عليه من الاستعانة والتوكل . 
وعبأ رستم  ، فجعل على المقدمة - وهي أربعون ألفا - الجالنوس  ، وعلى الميمنة الهرمزان  ، وعلى الميسرة مهران بن بهرام  ، وذلك ستون ألفا وعلى الساقة البندران  في عشرين ألفا ، فالجيش كله ثمانون ألفا ، فيما ذكره سيف  وغيره . وفي رواية : كان رستم  في مائة ألف وعشرين ألفا ، يتبعها ثمانون ألفا وكان معه ثلاثة وثلاثون فيلا ، منها فيل أبيض كان لسابور ، فهو أعظمها وأقدمها ، وكانت الفيلة تألفه . 
ثم بعث سعد  جماعة من السادات منهم ، النعمان بن مقرن  ، وفرات بن   [ ص: 620 ] حيان  ، وحنظلة بن الربيع التميمي  ، وعطارد بن حاجب  ،  والأشعث بن قيس  ،  والمغيرة بن شعبة  ، وعمرو بن معديكرب  ، يدعون رستم  إلى الله عز وجل ، فقال لهم رستم    : ما أقدمكم ؟ فقالوا : جئنا لموعود الله إيانا ; أخذ بلادكم وسبي نسائكم وأبنائكم وأخذ أموالكم ، فنحن على يقين من ذلك . وقد رأى رستم  في منامه كأن ملكا نزل من السماء ، فختم على سلاح الفرس  كله ، ودفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمر    . 
وذكر سيف بن عمر  ، أن رستم  طاول سعدا  في اللقاء حتى كان بين خروجه من المدائن  وملتقاه سعدا  بالقادسية  أربعة أشهر ، كل ذلك لعله يضجر سعدا  ومن معه ليرجعوا ، ولولا أن الملك استعجله ما التقاه ; لما يعلم من غلبة المسلمين لهم ونصرهم عليهم ، لما رأى في منامه ، ولما يتوسمه ، ولما سمع منهم ، ولما عنده من علم النجوم الذي يعتقد صحته في نفسه ; لما له من الممارسة لهذا الفن . ولما دنا جيش رستم  من سعد  ، أحب سعد  أن يطلع على أخبارهم على الجلية ، فبعث سرية لتأتيه برجل من الفرس ،  وكان في السرية طليحة الأسدي  الذي كان ادعى النبوة ثم تاب ، وتقدم الحارث  مع أصحابه حتى رجعوا ، فلما بعث سعد  السرية اخترق طليحة  الجيوش والصفوف ، وتخطى الألوف ، وقتل جماعة من الأبطال حتى أسر أحدهم ، وجاء به لا يملك من نفسه شيئا ، فسأله سعد  عن القوم ، فجعل يصف شجاعة طليحة  ، فقال : دعنا من هذا وأخبرنا عن رستم    . فقال : هو في مائة ألف وعشرين ألفا ، ويتبعها مثلها . وأسلم   [ ص: 621 ] الرجل من فوره . رحمه الله . 
قال سيف  عن شيوخه : ولما تواجه الجيشان بعث رستم  إلى سعد  أن يبعث إليه برجل عاقل عالم بما أسأله عنه . فبعث إليه المغيرة بن شعبة  ، رضي الله عنه ، فلما قدم عليه جعل رستم  يقول له : إنكم جيراننا وكنا نحسن إليكم ونكف الأذى عنكم ، فارجعوا إلى بلادكم ولا نمنع تجاركم من الدخول إلى بلادنا . فقال له المغيرة    : إنا ليس طلبنا الدنيا ، وإنما همنا وطلبنا الآخرة ، وقد بعث الله إلينا رسولا قال له : إني قد سلطت هذه الطائفة على من لم يدن بديني ، فأنا منتقم بهم منهم ، وأجعل لهم الغلبة ما داموا مقرين به ، وهو دين الحق لا يرغب عنه أحد إلا ذل ، ولا يعتصم به إلا عز . فقال له رستم    : فما هو ؟ فقال : أما عموده الذي لا يصلح شيء منه إلا به ، فشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا  رسول الله ، والإقرار بما جاء من عند الله . فقال : ما أحسن هذا ! وأي شيء أيضا ؟ قال : وإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله . قال : وحسن أيضا ، وأي شيء أيضا ؟ قال : والناس بنو آدم  ، فهم إخوة لأب وأم . قال : وحسن أيضا ، ثم قال رستم    : أرأيت إن دخلنا في دينكم ، أترجعون عن بلادنا ؟ قال : إي والله ، ثم لا نقرب بلادكم إلا في تجارة أو حاجة . قال : وحسن أيضا . قال : ولما خرج المغيرة  من عنده ذاكر رستم  رؤساء قومه في الإسلام ، فأنفوا من ذلك وأبوا أن يدخلوا فيه ، قبحهم الله وأخزاهم ، وقد فعل . 
قالوا : ثم بعث إليه سعد  رسولا آخر بطلبه ، وهو ربعي بن عامر  ، فدخل عليه   [ ص: 622 ] وقد زينوا مجلسه بالنمارق المذهبة والزرابي الحرير ، وأظهر اليواقيت واللآلئ الثمينة ، والزينة العظيمة ، وعليه تاجه ، وغير ذلك من الأمتعة الثمينة ، وقد جلس على سرير من ذهب ، ودخل ربعي  بثياب صفيقة وسيف وترس وفرس قصيرة ، ولم يزل راكبها حتى داس بها على طرف البساط ، ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسائد ، وأقبل وعليه سلاحه ودرعه وبيضة على رأسه ، فقالوا له : ضع سلاحك . فقال : إني لم آتكم ، وإنما جئتكم حين دعوتموني ، فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت . فقال رستم    : ائذنوا له . فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق فخرق عامتها ، فقالوا له : ما جاء بكم ؟ فقال : الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله ، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه ، فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه ، ومن أبى قاتلناه أبدا حتى نفضي إلى موعود الله . قالوا : وما موعود الله ؟ قال : الجنة لمن مات على قتال من أبى ، والظفر لمن بقي . فقال رستم    : قد سمعت مقالتكم ، فهل لكم أن تؤخروا هذا الأمر حتى ننظر فيه وتنظروا ؟ قال : نعم ، كم أحب إليكم ؟ أيوما أو يومين ؟ قال : لا ، بل حتى نكاتب أهل رأينا ورؤساء قومنا . فقال : ما سن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نؤخر الأعداء عند اللقاء أكثر من ثلاث ،  فانظر في أمرك وأمرهم ، واختر واحدة من ثلاث بعد الأجل . فقال : أسيدهم أنت ؟ قال : لا ، ولكن المسلمون كالجسد الواحد يجير أدناهم على أعلاهم . فاجتمع رستم  برؤساء قومه ، فقال : هل رأيتم قط أعز وأرجح من كلام هذا الرجل ؟ فقالوا : معاذ الله أن تميل إلى شيء من هذا وتدع دينك لهذا الكلب ! أما ترى إلى ثيابه ؟ ! فقال : ويلكم لا تنظروا إلى   [ ص: 623 ] الثياب ، وانظروا إلى الرأي والكلام والسيرة ، إن العرب يستخفون بالثياب والمأكل ، ويصونون الأحساب    . 
ثم بعثوا يطلبون في اليوم الثاني رجلا ، فبعث إليهم حذيفة بن محصن  ، فتكلم نحو ما قال ربعي    . وفي اليوم الثالث المغيرة بن شعبة  ، فتكلم بكلام حسن طويل ، قال فيه رستم  للمغيرة    : إنما مثلكم في دخولكم أرضنا كمثل الذباب رأى العسل فقال : من يوصلني إليه وله درهمان ؟ فلما سقط عليه غرق فيه ، فجعل يطلب الخلاص فلا يجده ، وجعل يقول : من يخلصني وله أربعة دراهم ؟ ومثلكم كمثل ثعلب ضعيف دخل جحرا في كرم ، فلما رآه صاحب الكرم ضعيفا رحمه فتركه ، فلما سمن أفسد شيئا كثيرا فجاء بجيشه ، واستعان عليه بغلمانه ، فذهب ليخرج فلم يستطع لسمنه ، فضربه حتى قتله ، فهكذا تخرجون من بلادنا . ثم استشاط غضبا ، وأقسم بالشمس لأقتلنكم غدا . فقال المغيرة    : ستعلم . ثم قال رستم  للمغيرة    : قد أمرت لكم بكسوة ، ولأميركم بألف دينار وكسوة ومركوب وتنصرفون عنا . فقال المغيرة    : أبعد أن أوهنا ملككم وضعفنا عزكم ؟ ! ولنا مدة نحو بلادكم ، ونأخذ الجزية منكم عن يد وأنتم صاغرون ، وستصيرون لنا عبيدا على رغمكم . فلما قال ذلك استشاط غضبا . 
وقال ابن جرير  حدثني محمد بن عبد الله بن صفوان الثقفي  ، ثنا أمية بن خالد  ، ثنا أبو عوانة  ، عن حصين بن عبد الرحمن  ، قال : قال أبو وائل    : جاء سعد  حتى نزل القادسية  ومعه الناس . قال : لا أدري لعلنا لا نزيد على سبعة   [ ص: 624 ] آلاف أو ثمانية آلاف ، بين ذلك ، والمشركون ثلاثون ألفا ونحو ذلك ، فقالوا : لا يد لكم ولا قوة ولا سلاح ، ما جاء بكم ؟ ارجعوا . قال : قلنا : ما نحن براجعين . فكانوا يضحكون من نبلنا ، ويقولون : دوك دوك . وشبهونا بالمغازل . فلما أبينا عليهم أن نرجع . قالوا : ابعثوا إلينا رجلا منكم عاقلا يبين لنا ما جاء بكم . فقال المغيرة بن شعبة    : أنا . فعبر إليهم فقعد مع رستم  على السرير فنخروا وصاحوا ، فقال : إن هذا لم يزدني رفعة ولم ينقص صاحبكم . فقال رستم    : صدق ، ما جاء بكم ؟ فقال : إنا كنا قوما في شر وضلالة ، فبعث الله فينا نبيا ، فهدانا الله به ورزقنا على يديه ، فكان فيما رزقنا حبة تنبت بهذا البلد ، فلما أكلناها وأطعمناها أهلينا ، قالوا : لا صبر لنا عنها ، أنزلونا هذه الأرض حتى نأكل من هذه الحبة . فقال رستم    : إذن نقتلكم . قال : إن قتلتمونا دخلنا الجنة ، وإن قتلناكم دخلتم النار ، أو أديتم الجزية . قال : فلما قال : أو أديتم الجزية . نخروا وصاحوا وقالوا : لا صلح بيننا وبينكم . فقال المغيرة    : تعبرون إلينا أو نعبر إليكم ؟ فقال رستم    : بل نعبر إليكم . فاستأخر المسلمون حتى عبروا ، فحملوا عليهم فهزموهم . 
وذكر سيف  أن سعدا  كان به عرق النسا يومئذ ، وأنه خطب الناس وتلى قوله تعالى : ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون    [ الأنبياء : 105 ] . وصلى بالناس الظهر ، ثم كبر أربعا ،   [ ص: 625 ] وحملوا بعد أن أمرهم أن يقولوا : لا حول ولا قوة إلا بالله . ثم ذكر الحديث في طردهم إياهم ، وقتلهم لهم ، وقعودهم لهم كل مرصد ، وحصرهم لبعضهم في بعض الأماكن حتى أكلوا الكلاب والسنانير ، وما رد شاردهم حتى وصل إلى نهاوند  ، ولجأ أكثرهم إلى المدائن  ولحقهم المسلمون إلى أبوابها ، وكان سعد  قد بعث طائفة من أصحابه إلى كسرى  يدعونه إلى الله قبل الوقعة ، فاستأذنوا على كسرى  ، فأذن لهم ، وخرج أهل البلد ينظرون إلى أشكالهم ، وأرديتهم على عواتقهم ، وسياطهم بأيديهم ، والنعال في أرجلهم ، وخيولهم الضعيفة ، وخبطها الأرض بأرجلها ، وجعلوا يتعجبون منهم غاية العجب ، كيف مثل هؤلاء يقهرون جيوشهم مع كثرة عددها وعددها . ولما استأذنوا على الملك  يزدجرد  أذن لهم وأجلسهم بين يديه ، وكان متكبرا قليل الأدب ، ثم جعل يسألهم عن ملابسهم هذه ما اسمها ; عن الأردية ، والنعال ، والسياط ، ثم كلما قالوا له شيئا من ذلك تفاءل ، فرد الله فأله على رأسه . ثم قال لهم : ما الذي أقدمكم هذه البلاد ؟ أظننتم أنا لما تشاغلنا بأنفسنا اجترأتم علينا ؟ ! فقال له النعمان بن مقرن    : إن الله رحمنا فأرسل إلينا رسولا يدلنا على الخير ويأمرنا به ، ويعرفنا الشر وينهانا عنه ، ووعدنا على إجابته خير الدنيا والآخرة ، فلم يدع إلى ذلك قبيلة إلا صاروا فرقتين ; فرقة تقاربه وفرقة تباعده ، ولا يدخل معه في دينه إلا الخواص ، فمكث بذلك ما شاء الله أن يمكث ، ثم أمر أن ينبذ إلى من خالفه من العرب ويبدأ بهم ، ففعل ،   [ ص: 626 ] فدخلوا معه جميعا على وجهين ; مكروه عليه فاغتبط ، وطائع أتاه فازداد ، فعرفنا جميعا فضل ما جاء به على الذي كنا عليه من العداوة والضيق ، وأمرنا أن نبدأ بمن يلينا من الأمم فندعوهم إلى الإنصاف ، فنحن ندعوكم إلى ديننا ، وهو دين حسن الحسن وقبح القبيح كله ، فإن أبيتم فأمر من الشر هو أهون من آخر شر منه ; الجزاء ، فإن أبيتم فالمناجزة ، وإن أجبتم إلى ديننا خلفنا فيكم كتاب الله ، وأقمناكم عليه على أن تحكموا بأحكامه ونرجع عنكم ، وشأنكم وبلادكم ، وإن اتقيتمونا بالجزي قبلنا ومنعناكم ، وإلا قاتلناكم . قال : فتكلم  يزدجرد  فقال : إني لا أعلم في الأرض أمة كانت أشقى ولا أقل عددا ولا أسوأ ذات بين منكم ، قد كنا نوكل بكم قرى الضواحي فيكفوناكم ، لا تغزوكم فارس  ولا تطمعون أن تقوموا لهم ، فإن كان عددكم كثر فلا يغرنكم منا ، وإن كان الجهد دعاكم فرضنا لكم قوتا إلى خصبكم ، وأكرمنا وجوهكم وكسوناكم ، وملكنا عليكم ملكا يرفق بكم . فأسكت القوم ، فقام المغيرة بن زرارة  فقال : أيها الملك ، إن هؤلاء رءوس العرب ووجوههم ، وهم أشراف يستحيون من الأشراف ، وإنما يكرم الأشراف الأشراف ، ويعظم حقوق الأشراف الأشراف ، وليس كل ما أرسلوا له جمعوه لك ، ولا كل ما تكلمت به   [ ص: 627 ] أجابوك عنه ، وقد أحسنوا ، ولا يحسن بمثلهم إلا ذلك ، فجاوبني فأكون أنا الذي أبلغك ويشهدون على ذلك ; إنك قد وصفتنا صفة لم تكن بها عالما ، فأما ما ذكرت من سوء الحال ، فما كان أسوأ حالا منا ، وأما جوعنا فلم يكن يشبه الجوع ; كنا نأكل الخنافس والجعلان والعقارب والحيات ونرى ذلك طعامنا ، وأما المنازل فإنما هي ظهر الأرض ، ولا نلبس إلا ما غزلنا من أوبار الإبل وأشعار الغنم ، ديننا أن يقتل بعضنا بعضا ، وأن يغير بعضنا على بعض ، وإن كان أحدنا ليدفن ابنته وهى حية ; كراهية أن تأكل من طعامه ، فكانت حالنا قبل اليوم على ما ذكرت لك ، فبعث الله إلينا رجلا معروفا ; نعرف نسبه ، ونعرف وجهه ومولده ، فأرضه خير أرضنا ، وحسبه خير أحسابنا ، وبيته خير بيوتنا ، وقبيلته خير قبائلنا ، وهو نفسه كان خيرنا في الحال التي كان فيها أصدقنا وأحلمنا ، فدعانا إلى أمر فلم يجبه أحد أول من ترب كان له وكان الخليفة من بعده ، فقال وقلنا ، وصدق وكذبنا ، وزاد ونقصنا فلم يقل شيئا إلا كان ، فقذف الله في قلوبنا التصديق له واتباعه ، فصار فيما بيننا وبين رب العالمين ، فما قال لنا فهو قول الله ، وما أمرنا فهو أمر الله ، فقال لنا : إن ربكم يقول : أنا الله وحدي لا شريك لي ، كنت إذ لم يكن شيء ، وكل شيء هالك إلا وجهي ، وأنا خلقت كل شيء وإلي يصير كل شيء ، وإن رحمتي أدركتكم ، فبعثت إليكم هذا الرجل لأدلكم على السبيل التي أنجيكم بها بعد الموت من عذابي ، ولأحلكم داري دار السلام . فنشهد عليه أنه جاء بالحق من عند الحق . وقال : من تابعكم   [ ص: 628 ] على هذا فله ما لكم وعليه ما عليكم ، ومن أبى فاعرضوا عليه الجزية ، ثم امنعوه مما تمنعون منه أنفسكم ، ومن أبى فقاتلوه ، فأنا الحكم بينكم ، فمن قتل منكم أدخلته جنتي ، ومن بقي منكم أعقبته النصر على من ناوأه . فاختر إن شئت الجزية ، وأنت صاغر ، وإن شئت فالسيف ، أو تسلم فتنجي نفسك . فقال  يزدجرد    : استقبلتني بمثل هذا ؟ ! فقال : ما استقبلت إلا من كلمني ، ولو كلمني غيرك لم أستقبلك به . فقال : لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكم ، لا شيء لكم عندي . وقال : ائتوني بوقر من تراب ، فاحملوه على أشرف هؤلاء ، ثم سوقوه حتى يخرج من أبيات المدائن  ، ارجعوا إلى صاحبكم فأعلموه أني مرسل إليه رستم حتى يدفنه وجنده في خندق القادسية  وينكل به وبكم من بعد ، ثم أورده بلادكم حتى أشغلكم في أنفسكم بأشد مما نالكم من سابور . ثم قال : من أشرفكم ؟ فسكت القوم ، فقال عاصم بن عمرو  ، وافتات ليأخذ التراب : أنا أشرفهم ، أنا سيد هؤلاء ، فحملنيه . فقال : أكذاك ؟ قالوا : نعم . فحمله على عنقه فخرج به من الإيوان والدار حتى أتى راحلته ، فحمله عليها ثم انجذب في السير فأتوا به سعدا  ، وسبقهم عاصم ، فمر بباب قديس فطواه فقال : بشروا الأمير بالظفر ، ظفرنا إن شاء الله تعالى . ثم مضى حتى جعل التراب في الحجر ، ثم رجع فدخل على سعد  فأخبره الخبر . فقال : أبشروا فقد والله أعطانا الله أقاليد ملكهم . وتفاءلوا بذلك أخذ بلادهم ، ثم لم   [ ص: 629 ] يزل أمر الصحابة يزداد في كل يوم علوا وشرفا ورفعة ، وينحط أمر الفرس  سفلا وذلا ووهنا . 
ولما رجع رستم  إلى الملك يسأله عن حال من رأى من المسلمين ، فذكر له عقلهم وفصاحتهم وحدة جوابهم ، وأنهم يرومون أمرا يوشك أن يدركوه ، وذكر له ما أمر به أشرفهم من حمل التراب ، وأنه استحمق أشرفهم في حمله التراب على رأسه ، ولو شاء اتقى بغيره وأنا لا أشعر . فقال له رستم    : إنه ليس بأحمق وليس هو بأشرفهم ، إنما أراد أن يفتدي قومه بنفسه ، ولكن والله ذهبوا بمفاتيح أرضنا . وكان رستم  منجما ، ثم أرسل رجلا وراءهم ، وقال : إن أدرك التراب فرده تداركنا أمرنا ، وإن ذهبوا به إلى أميرهم غلبونا على أرضنا . قال : فساق وراءهم فلم يدركهم ، بل سبقوه إلى سعد  بالتراب . وساء ذلك فارس  وغضبوا من ذلك أشد الغضب ، واستهجنوا رأي الملك . 
				
						
						
