[ ص: 465 ] ذكر عيسى ابن مريم ، عليهما السلام ، وبيان بدء الوحي إليه من الله تعالى منشأ
قد تقدم أنه ولد ببيت لحم ، قريبا من بيت المقدس ، وزعم أنه ولد وهب بن منبه بمصر ، وأن مريم سافرت هي ويوسف بن يعقوب النجار ، وهي راكبة على حمار . ليس بينهما وبين الإكاف شيء . وهذا لا يصح ، والحديث الذي تقدم ذكره دليل على أن مولده كان ببيت لحم ، كما ذكرنا ، ومهما عارضه فباطل .
وذكر ، أنه لما ولد خرت الأصنام يومئذ في مشارق الأرض ومغاربها ، وأن الشياطين حارت في سبب ذلك ، حتى كشف لهم إبليس الكبير أمر وهب بن منبه عيسى ، فوجدوه في حجر أمه ، والملائكة محدقة به ، وأنه ظهر نجم عظيم في السماء ، وأن ملك الفرس أشفق من ظهوره ، فسأل الكهنة عن [ ص: 466 ] ذلك فقالوا : هذا لمولد عظيم في الأرض . فبعث رسله ومعهم ذهب ومر ولبان ، هدية إلى عيسى ، فلما قدموا الشام سألهم ملكها عما أقدمهم ، فذكروا له ذلك ، فسأل عن ذلك الوقت ، فإذا قد ولد فيه عيسى ابن مريم ببيت المقدس ، واشتهر أمره بسبب ، فأرسلهم إليه بما معهم وأرسل معهم من يعرفه له ; ليتوصل إلى قتله إذا انصرفوا عنه ، فلما وصلوا إلى كلامه في المهد مريم بالهدايا ورجعوا ، قيل لها : إن رسل ملك الشام إنما جاءوا ليقتلوا ولدك . فاحتملته ، فذهبت به إلى مصر ، فأقامت بها حتى بلغ عمره ثنتي عشرة سنة ، وظهرت عليه كرامات ، فذكر منها ، أن الدهقان الذي نزلوا عنده افتقد مالا من داره ، وكانت داره لا يسكنها إلا الفقراء والضعفاء والمحاويج ، فلم يدر من أخذه ، وعز ذلك على ومعجزات في حال صغره مريم ، عليها السلام ، وشق على الناس وعلى رب المنزل ، وأعياهم أمرها ، فلما رأى عيسى ، عليه السلام ، ذلك ، عمد إلى رجل أعمى ، وآخر مقعد من جملة من هو منقطع إليه ، فقال للأعمى : احمل هذا المقعد وانهض به . فقال : إني لا أستطيع ذلك . فقال : بلى ، كما فعلت أنت وهو حين أخذتما هذا المال من تلك الكوة من الدار . فلما قال ذلك صدقاه فيما قال ، وأتيا بالمال ، فعظم عيسى في أعين الناس وهو صغير جدا .
ومن ذلك ، أن ابن الدهقان عمل ضيافة للناس بسبب طهور أولاده ، فلما اجتمع الناس وأطعمهم ، ثم أراد أن يسقيهم شرابا ، يعني خمرا ، كما [ ص: 467 ] كانوا يصنعون في ذلك الزمان ، لم يجد في جراره شيئا ، فشق ذلك عليه ، فلما رأى عيسى ذلك منه قام فجعل يمر على تلك الجرار ويمر يده على أفواهها ، فلا يفعل بجرة منها ذلك إلا امتلأت شرابا من خيار الشراب ، فتعجب الناس من ذلك جدا ، وعظموه وعرضوا عليه وعلى أمه مالا جزيلا ، فلم يقبلاه وارتحلا قاصدين بيت المقدس . والله أعلم .
وقال : أنبأنا إسحاق بن بشر عثمان بن الساج وغيره ، عن موسى بن وردان ، عن ، عن أبي نضرة أبي سعيد ، وعن مكحول ، عن قال : إن أبي هريرة عيسى ابن مريم أول ما أطلق الله لسانه ، بعد الكلام الذي تكلم به وهو طفل ، فمجد الله تمجيدا لم تسمع الآذان بمثله ، لم يدع شمسا ولا قمرا ولا جبلا ولا نهرا ولا عينا إلا ذكره في تمجيده فقال : اللهم أنت القريب في علوك ، المتعالي في دنوك ، الرفيع على كل شيء من خلقك ، أنت الذي خلقت سبعا في الهواء بكلماتك ، مستويات طباقا ، أجبن وهن دخان من فرقك ، فأتين طائعات لأمرك ، فيهن ملائكتك يسبحون قدسك لتقديسك ، وجعلت فيهن نورا على سواد الظلام ، وضياء من ضوء الشمس بالنهار ، وجعلت فيهن الرعد المسبح بالحمد ، فبعزتك تجلو ضوء ظلمتك ، وجعلت فيهن مصابيح يهتدي بهن في الظلمات الحيران ، فتباركت اللهم في مفطور سماواتك ، وفيما دحوت من أرضك ، دحوتها على الماء ، فسمكتها [ ص: 468 ] على تيار الموج المتغامر ، فأذللتها إذلال الماء المتطاهر ، فذل لطاعتك صعبها ، واستحيى لأمرك أمرها ، وخضعت لعزتك أمواجها ، ففجرت فيها بعد البحور الأنهار ، ومن بعد الأنهار الجداول الصغار ، ومن بعد الجداول ينابيع العيون الغزار ثم أخرجت منها الأنهار والأشجار والثمار ، ثم جعلت على ظهرها الجبال فوتدتها أوتادا على ظهر الماء ، فأطاعت أطوادها وجلمودها ، فتباركت اللهم ، فمن يبلغ بنعته نعتك ؟ أمن يبلغ بصفته صفتك ؟ تنشر السحاب ، وتفك الرقاب وتقضي الحق ، وأنت خير الفاصلين ، لا إله إلا أنت سبحانك ، أمرت أن نستغفرك من كل ذنب ، لا إله إلا أنت سبحانك ، سترت السماوات عن الناس ، لا إله إلا أنت سبحانك ، إنما يخشاك من عبادك الأكياس ، نشهد أنك لست بإله استحدثناك ، ولا رب يبيد ذكره ، ولا كان معك شركاء يقضون معك فندعوهم ونذرك ، ولا أعانك على خلقنا أحد فنشك فيك ، نشهد أنك أحد صمد ، لم تلد ولم تولد ، ولم يكن لك كفوا أحد .
وقال عن إسحاق بن بشر ، جويبر ومقاتل عن الضحاك ، عن ابن عباس : عيسى ابن مريم أمسك عن الكلام بعد إذ كلمهم طفلا ، حتى بلغ [ ص: 469 ] ما يبلغ الغلمان ، ثم أنطقه الله بعد ذلك بالحكمة والبيان ، فأكثر إن اليهود فيه وفي أمه من القول ، كانوا يسمونه ابن البغية ، وذلك قوله تعالى : وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما [ النساء : 156 ] . قال : فلما بلغ سبع سنين أسلمته أمه في الكتاب ، فجعل لا يعلمه المعلم شيئا إلا بدره إليه ، فعلمه أبا جاد ، فقال عيسى : ما أبو جاد ؟ فقال المعلم : لا أدري . فقال عيسى : كيف تعلمني ما لا تدري ؟ فقال المعلم : إذا فعلمني . فقال له عيسى : فقم من مجلسك . فقام فجلس عيسى مجلسه فقال : سلني . فقال المعلم : فما أبو جاد ؟ فقال عيسى : الألف آلاء الله ، الباء بهاء الله ، الجيم بهجة الله وجماله . فعجب المعلم من ذلك ، فكان أول من فسر أبا جاد .
ثم ذكر أن عثمان سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن ذلك ، فأجابه على كل كلمة كلمه ، بحديث طويل موضوع ، لا يشك فيه ولا يتمارى .
وهكذا روى من حديث ابن عدي إسماعيل بن عياش ، عن إسماعيل بن يحيى ، عن ابن مليكة ، عمن حدثه ، عن ابن مسعود ، وعن مسعر بن كدام ، عن عطية ، عن أبي سعيد ، رفع الحديث في دخول عيسى إلى الكتاب وتعليمه المعلم معنى حروف أبي جاد ، وهو مطول لا يفرح به . ثم قال وهذا الحديث باطل بهذا الإسناد ، لا يرويه غير ابن عدي إسماعيل .
وروى ابن لهيعة ، عن عبد الله بن هبيرة ، قال : كان عبد الله بن [ ص: 470 ] عمرو يقول : كان عيسى ابن مريم وهو غلام يلعب مع الصبيان ، فكان يقول لأحدهم : تريد أن أخبرك ما خبأت لك أمك ؟ فيقول : نعم . فيقول : خبأت لك كذا وكذا . فيذهب الغلام منهم إلى أمه فيقول لها : أطعميني ما خبأت لي . فتقول : وأي شيء خبأت لك ؟ فيقول : كذا وكذا . فتقول له : من أخبرك ؟ فيقول : عيسى ابن مريم . فقالوا : والله لئن تركتم هؤلاء الصبيان مع ابن مريم ليفسدنهم . فجمعوهم في بيت وأغلقوا عليهم ، فخرج عيسى يلتمسهم فلم يجدهم ، فسمع ضوضاءهم في بيت ، فسأل عنهم ، فقالوا : إنما هؤلاء قردة وخنازير . فقال : اللهم كذلك . فكانوا كذلك . رواه . ابن عساكر
وقال ، عن إسحاق بن بشر جويبر ومقاتل ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : عيسى يرى العجائب في صباه إلهاما من الله ، ففشا ذلك في وكان اليهود ، وترعرع عيسى فهمت به بنو إسرائيل ، فخافت أمه عليه ، فأوحى الله إلى أمه أن تنطلق به إلى أرض مصر ; فذلك وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين [ المؤمنون : 50 ] . قوله تعالى :
وقد اختلف السلف والمفسرون في المراد بهذه الربوة التي ذكر الله من صفتها أنها ذات قرار ومعين ، وهذه صفة غريبة الشكل ; وهي أنها ربوة ، وهو المكان المرتفع من الأرض ، الذي أعلاه مستو يقر عليه ، فمع ارتفاعه ، متسع ، [ ص: 471 ] ومع علوه ، فيه عين من الماء معين ; وهو الجاري السارح على وجه الأرض ، فقيل : المراد المكان الذي ولدت فيه المسيح . وهو محلة بيت المقدس ولهذا فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا وهو النهر الصغير ، في قول جمهور السلف .
وعن ابن عباس بإسناد جيد ، أنها أنهار دمشق . فلعله أراد تشبيه ذلك المكان بأنهار دمشق . وقيل : ذلك بمصر . كما زعمه من زعمه من أهل الكتاب ومن تلقاه عنهم . والله أعلم . وقيل : هي الرملة .
وقال : قال لنا إسحاق بن بشر إدريس ، عن جده ، قال : إن وهب بن منبه عيسى لما بلغ ثلاث عشرة سنة ، أمره الله أن يرجع من بلاد مصر إلى بيت إيليا . قال : فقدم عليه يوسف ابن خال أمه ، فحملهما على حمار ، حتى جاء بهما إلى إيليا وأقام بها حتى أحدث الله له الإنجيل ، وعلمه التوراة ، وأعطاه إحياء الموتى ، وإبراء الأسقام ، والعلم بالغيوب مما يدخرون في بيوتهم ، وتحدث الناس بقدومه ، وفزعوا لما كان يأتي من العجائب ، فجعلوا يعجبون منه ، فدعاهم إلى الله ففشا فيهم أمره .