وممن توفي في هذه السنة أم المؤمنين  عائشة بنت أبي بكر الصديق  
 زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأحب أزواجه إليه ، المبرأة من فوق سبع سماوات ، رضي الله عنها ، وأمها هي أم رومان بنت عامر بن عويمر الكنانية  ، تكنى عائشة  بأم عبد الله ، قيل : كناها بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ; بابن أختها عبد الله بن الزبير    . وقيل : إنها أسقطت من رسول الله صلى الله عليه وسلم سقطا ، فسماه عبد الله    . 
ولم يتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بكرا غيرها ، ولم ينزل عليه الوحي في لحاف امرأة غيرها ، ولم يكن في أزواجه أحب إليه منها ، تزوجها بمكة  بعد وفاة خديجة  ، وقد أتاه الملك بها في المنام في سرقة من حرير ، مرتين أو ثلاثا ، فيقول : هذه زوجتك . قال :   " فأكشف عنك فإذا هي أنت " . فأقول : " إن يكن هذا من عند   [ ص: 337 ] الله يمضه " . فخطبها من أبيها فقال : يا رسول الله ، أوتحل لك ؟ قال : " نعم " . قال : أولست أخاك ؟ قال : " بلى ، في الإسلام ، وهي لي حلال " فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم فحظيت عنده . وقد قدمنا ذلك في أول السيرة ، وكان ذلك قبل الهجرة بسنتين ، وقيل : بسنة ونصف . وقيل : بثلاث سنين . وكان عمرها إذ ذاك ست سنين ، ثم دخل بها وهي بنت تسع سنين بعد بدر  في شوال من سنة ثنتين من الهجرة فأحبها . ولما تكلم فيها أهل الإفك بالزور والبهتان غار الله لها ، فأنزل لها براءتها في عشر آيات من القرآن تتلى على تعاقب الأزمان . وقد ذكرنا ذلك مفصلا فيما سلف ، وشرحنا الآيات والأحاديث الواردة في ذلك في غزوة المريسيع  ، وبسطنا ذلك أيضا في كتاب " التفسير " بما فيه كفاية ومقنع ، ولله الحمد والمنة . وقد أجمع العلماء علىتكفير من قذفها بعد براءتها  ، واختلفوا في بقية أمهات المؤمنين ، هل يكفر من قذفهن أم لا  ؟ على قولين ، وأصحهما أنه يكفر ; لأن المقذوفة زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والله تعالى إنما غضب لها ، لأنها زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهي وغيرها منهن سواء . 
ومن خصائصها ، رضي الله عنها ، أنها كان لها في القسم يومان    ; يومها ويوم سودة حين وهبتها ذلك تقربا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنه مات في يومها وفي بيتها ، وبين سحرها ونحرها ، وجمع الله بين ريقه وريقها في آخر ساعة من ساعاته من الدنيا ، وأول ساعة من الآخرة ، ودفن في بيتها . 
 [ ص: 338 ] وقد قال  الإمام أحمد    : حدثنا  وكيع  ، عن إسماعيل  ، عن مصعب بن إسحاق بن طلحة  ، عن عائشة  ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :   " إنه ليهون علي أني رأيت بياض كف عائشة  في الجنة " .   . تفرد به أحمد    . وهذا في غاية ما يكون من المحبة العظيمة ; أنه يرتاح لأنه رأى بياض كفها أمامه في الجنة . 
ومن خصائصها أنها أعلم نساء النبي صلى الله عليه وسلم  ، بل هي أعلم النساء على الإطلاق ; قال الزهري    : لو جمع علم عائشة  إلى علم جميع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، وعلم جميع النساء ، لكان علم عائشة  أفضل . وقال عطاء بن أبي رباح  كانت عائشة  أفقه الناس ، وأعلم الناس ، وأحسن الناس رأيا في العامة . وقال عروة    : ما رأيت أحدا أعلم بفقه ولا طب ولا شعر من عائشة    . ولم ترو امرأة ولا رجل ، غير  أبي هريرة  ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأحاديث بقدر روايتها ، رضي الله عنها . 
وقال  أبو موسى الأشعري    : ما أشكل علينا - أصحاب محمد  صلى الله عليه وسلم - حديث قط فسألنا عائشة  ، إلا وجدنا عندها منه علما . رواه الترمذي    . 
وقال أبو الضحى  عن مسروق    : رأيت مشيخة أصحاب محمد  الأكابر يسألونها عن الفرائض . 
 [ ص: 339 ] فأما ما يلهج به كثير من الفقهاء وعلماء الأصول من إيراد حديث :   " خذوا شطر دينكم عن الحميراء " . فإنه ليس له أصل ، ولا هو مثبت في شيء من أصول الإسلام ، وسألت عنه شيخنا أبا الحجاج المزي  فقال : لا أصل له . 
ثم لم يكن في النساء أعلم من تلميذاتها ;  عمرة بنت عبد الرحمن  ،  وحفصة بنت سيرين  ،  وعائشة بنت طلحة  ، وقد تفردت أم المؤمنين عائشة  ، رضي الله عنها ، بمسائل من بين الصحابة لم توجد إلا عندها ، وانفردت باختيارات أيضا ، وردت أخبارا بخلافها بنوع من التأويل . وقد جمع ذلك غير واحد من الأئمة . وقال الشعبي    : كان مسروق  إذا حدث عن عائشة  قال : حدثتني الصديقة بنت الصديق ، حبيبة حبيب الله ، المبرأة من فوق سبع سماوات . 
وثبت في " صحيح  البخاري    " من حديث  أبي عثمان النهدي  ، عن عمرو بن العاص  قال : قلت : يا رسول الله ، أي الناس أحب إليك ؟ قال : " عائشة " . قلت : ومن الرجال ؟ قال : " أبوها " . 
وفي " صحيح  البخاري    " أيضا ، عن أبي موسى  قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :   [ ص: 340 ]   " كمل من الرجال كثير ، ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران ، وخديجة بنت خويلد ، وآسية امرأة فرعون ، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام " . وقد استدل كثير من العلماء ممن ذهب إلى تفضيل عائشة  على خديجة  ، بهذا الحديث ، فإنه دخل فيه سائر النساء الثلاث المذكورات وغيرهن . 
ويعضد ذلك أيضا الحديث الذي رواه  البخاري    : حدثنا إسماعيل بن خليل  ، ثنا علي بن مسهر  ، عن  هشام بن عروة  ، عن أبيه ، عن عائشة  قالت : استأذنت هالة بنت خويلد أخت خديجة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعرف استئذان خديجة ، فارتاع لذلك ، فقال : " اللهم هالة " . قالت عائشة    : فغرت ، فقلت : ما تذكر من عجوز من عجائز قريش ، حمراء الشدقين ، هلكت في الدهر ، قد أبدلك الله خيرا منها ؟ هكذا رواه البخاري . فأما ما يروى فيه من الزيادة : " ما أبدلني الله خيرا منها   " . فليس يصح سندها . وقد ذكرنا ذلك مطولا عند وفاة خديجة  ، وذكرنا حجة من ذهب إلى تفضيلها على عائشة  بما أغنى عن إعادته هاهنا . 
وقال  البخاري    : حدثنا يحيى بن بكير  ، ثنا الليث  ، عن يونس  ، عن ابن شهاب  ، قال أبو سلمة    : إن عائشة  ، رضي الله عنها ، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم   [ ص: 341 ] يوما :   " يا عائش ، هذا جبريل يقرئك السلام " . فقلت : وعليه السلام ورحمة الله وبركاته ، ترى ما لا أرى . 
وثبت في " صحيح  البخاري    " أن الناس كانوا يتحرون بهداياهم يوم عائشة ، فاجتمع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أم سلمة ، وقلن لها : قولي له يأمر الناس أن يهدوا إليه حيث كان . فقالت أم سلمة : فلما دخل علي قلت له ذلك ، فأعرض عني . ثم قلن لها ذلك ، فقالت له ، فأعرض عنها ، ثم لما دار إليها قالت له ، فقال : " يا أم سلمة ، لا تؤذيني في عائشة ، فإنه والله ما نزل علي الوحي وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها " . وذكر أنهن بعثن فاطمة ابنته إليه ، فقالت : إن نساءك ينشدونك العدل في ابنة أبي بكر بن أبي قحافة . فقال : " يا بنية ، ألا تحبين من أحب ؟ " قالت : قلت : بلى . قال : " فأحبي هذه " . ثم بعثن زينب بنت جحش فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عائشة ، فتكلمت زينب ، ونالت من عائشة ، فانتصرت عائشة منها ، وكلمتها حتى أفحمتها ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى عائشة ، ويقول : " إنها ابنة أبي بكر " . وذكرنا أن عمارا لما جاء يستصرخ الناس ويستنفرهم إلى قتال طلحة والزبير أيام الجمل ، صعد هو والحسن بن علي على منبر الكوفة فسمع عمار رجلا ينال من عائشة فقال له : اسكت مقبوحا منبوحا ، والله إنها لزوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدنيا   [ ص: 342 ] وفي الآخرة ، ولكن الله ابتلاكم ليعلم إياه تطيعون أو إياها . 
وقال  الإمام أحمد    : حدثنا معاوية بن عمرو  ، ثنا زائدة  ، ثنا عبد الله بن خثيم  ، حدثني  عبد الله بن أبي مليكة  ، أنه حدثه ذكوان  حاجب عائشة  ، أنه جاء  عبد الله بن عباس  يستأذن على عائشة  ، فجئت وعند رأسها ابن أخيها عبد الله بن عبد الرحمن  ، فقلت : هذا ابن عباس  يستأذن . فأكب عليها ابن أخيها عبد الله  فقال : هذا  عبد الله بن عباس  يستأذن . وهي تموت ، فقالت : دعني من ابن عباس    . فقال : يا أمتاه ، إن ابن عباس  من صالح بنيك يسلم عليك ويودعك . فقالت : ائذن له إن شئت . قال : فأدخلته ، فلما جلس قال : أبشري . فقالت : بماذا ؟ فقال : ما بينك وبين أن تلقي محمدا  صلى الله عليه وسلم والأحبة إلا أن تخرج الروح من الجسد ، كنت أحب نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه ، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب إلا طيبا ، وسقطت قلادتك ليلة الأبواء فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يصبح في المنزل ، وأصبح الناس وليس معهم ماء ، فأنزل الله آية التيمم ، فكان ذلك في سببك وما أنزل الله من الرخصة لهذه الأمة ، وأنزل الله براءتك من فوق سبع سماوات ، جاء بها الروح الأمين ، فأصبح ليس لله مسجد من مساجد الله إلا يتلى فيه آناء الليل وآناء النهار . فقالت : دعني منك يا ابن عباس  ، والذي نفسي بيده لوددت أني كنت نسيا منسيا   . والأحاديث في فضائلها ومناقبها كثيرة جدا . وقد كانت وفاتها في هذا العام سنة ثمان وخمسين  ، وقيل : قبله بسنة . وقيل : بعده بسنة . والمشهور في رمضان منه ، وقيل : في   [ ص: 343 ] شوال . والأشهر ليلة الثلاثاء السابع عشر من رمضان ، وأوصت أن تدفن بالبقيع  ليلا ، وصلى عليها  أبو هريرة  بعد صلاة الوتر ، ونزل في قبرها خمسة ، وهم ; عبد الله  وعروة  ابنا  الزبير بن العوام  من أختها أسماء بنت أبي بكر  والقاسم  وعبد الله  ابنا أخيها محمد بن أبي بكر  ، وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر  ، وكان عمرها يومئذ سبعا وستين سنة ; لأنه توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمرها ثماني عشرة سنة ، وكان عمرها عام الهجرة ثمان سنين أو تسع سنين . فالله أعلم . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					