[ ص: 391 ] 
سنة ستين من الهجرة النبوية  
فيها كانت غزوة مالك بن عبد الله  مدينة سورية    . قال الواقدي    : وفيها دخل جنادة بن أبي أمية  جزيرة رودس  وهدم مدينتها . وفيها أخذ معاوية  البيعة ليزيد  من الوفد الذين قدموا صحبة عبيد الله بن زياد  إلى دمشق    . وفيها مرض معاوية   مرضه الذي توفي فيه في رجب منها ، كما سنبينه . 
فروى ابن جرير  من طريق  أبي مخنف  ، حدثني عبد الملك بن نوفل بن مساحق بن عبد الله بن مخرمة  ، أن معاوية  لما مرض مرضته التي هلك فيها ، دعا ابنه يزيد  فقال : يا بني ، إني قد كفيتك الرحلة والرجال ، ووطأت لك الأشياء ، وذللت لك الأعداء ، وأخضعت لك أعناق العرب ، وإني لا أتخوف أن ينازعك هذا الأمر الذي استتب لك إلا أربعة نفر ; الحسين بن علي  ،  وعبد الله بن عمر  ،  وعبد الله بن الزبير  ،  وعبد الرحمن بن أبي بكر    - كذا قال ، والصحيح أن عبد الرحمن  كان قد توفي قبل موت معاوية  بسنتين كما قدمنا - فأما ابن عمر  فرجل قد وقذته العبادة ، وإذا لم يبق أحد غيره بايعك ، وأما الحسين  فإن أهل العراق   لا يدعونه حتى يخرجوه ، فإن   [ ص: 392 ] خرج عليك فظفرت به فاصفح عنه ، فإن له رحما ماسة ، وحقا عظيما ، وأما ابن أبي بكر  فرجل إن رأى أصحابه صنعوا شيئا صنع مثله ، ليس له همة إلا في النساء واللهو ، وأما الذي يجثم لك جثوم الأسد ، ويراوغك روغان الثعلب ، وإذا أمكنته فرصة وثب ، فذاك ابن الزبير  ، فإن هو فعلها بك فقدرت عليه فقطعه إربا إربا . 
قال غير واحد : فحين حضرت معاوية  الوفاة كان يزيد  في الصيد ، فاستدعى معاوية   الضحاك بن قيس الفهري    - وكان على شرطة دمشق    - ومسلم بن عقبة  فأوصى إليهما أن يبلغا يزيد  السلام ويقولا له يتوصى بأهل الحجاز   ، وإن سأله أهل العراق   في كل يوم أن يعزل عنهم عاملا ويولي عليهم آخر فليفعل ، فعزل واحد أحب إليك من أن يسل عليك مائة ألف سيف ، وأن يتوصى بأهل الشام  خيرا ، وأن يجعلهم أنصاره ، وأن يعرف لهم حقهم ، ولست أخاف عليه من قريش  سوى ثلاثة ; الحسين  ،  وابن عمر  ، وابن الزبير    - ولم يذكر عبد الرحمن بن أبي بكر  وهذا أصح - فأما ابن عمر  فقد وقذته العبادة ، وأما الحسين  فرجل خفيف ، وأرجو أن يكفيكه الله تعالى بمن قتل أباه وخذل أخاه ، وإن له رحما ماسة وحقا عظيما ، وقرابة من محمد  صلى الله عليه وسلم ، ولا أظن أهل العراق  تاركيه حتى يخرجوه ، فإن قدرت عليه فاصفح عنه ، فإني لو أني صاحبه عفوت عنه ، وأما ابن الزبير  فإنه خب ضب ، فإن شخص لك فالبد له إلا   [ ص: 393 ] أن يلتمس منك صلحا ، فإن فعل فاقبل منه ، واصفح عن دماء قومك ما استطعت . 
وكان موت معاوية  لاستهلال رجب من هذه السنة . قاله  هشام بن الكلبي    . وقيل : للنصف منه . قاله الواقدي    . وقيل : يوم الخميس لثمان بقين منه . قاله المدائني . 
قال ابن جرير  وأجمعوا على أنه هلك في رجب منها . وكان مدة ملكه استقلالا من جمادى سنة إحدى وأربعين حين بايعه الحسن بن علي  بأذرح  ، فذلك تسع عشرة سنة وثلاثة أشهر ، وكان نائبا في الشام  عشرين سنة ، وقيل غير ذلك ، وكان عمره ثلاثا وسبعين سنة ، وقيل : خمسا وسبعين سنة . وقيل : ثمانيا وسبعين سنة . وقيل : خمسا وثمانين سنة . وسيأتي بقية الكلام في ذلك في آخر ترجمته . 
وقال أبو السكين زكريا بن يحيى    : حدثني عم أبي زحر بن حصن  ، عن جده حميد بن منهب  قال : كانت هند بنت عتبة   عند الفاكه بن المغيرة المخزومي  ، وكان الفاكه  من فتيان قريش  ، وكان له بيت للضيافة يغشاه الناس من غير إذن ، فخلا ذلك البيت يوما ، فاضطجع الفاكه  وهند  فيه في وقت القائلة ، ثم خرج الفاكه  لبعض شأنه ، وأقبل رجل ممن كان يغشاه ، فولج البيت ، فلما رأى المرأة   [ ص: 394 ] ولى هاربا ، وأبصره الفاكه  وهو خارج من البيت ، فأقبل إلى هند  فضربها برجله ، وقال : من هذا الذي كان عندك ؟ قالت : ما رأيت أحدا ، ولا انتبهت حتى أنبهتني أنت . فقال لها : الحقي بأبيك . وتكلم فيها الناس ، فقال لها أبوها : يا بنية ، إن الناس قد أكثروا فيك ، فأنبئيني نبأك ، فإن يكن الرجل عليك صادقا دسست إليه من يقتله فينقطع عنك القالة ، وإن يك كاذبا حاكمته إلى بعض كهاناليمن    . فحلفت له بما كانوا يحلفون في الجاهلية إنه لكاذب عليها . فقال عتبة  للفاكه    : يا هذا ، إنك قد رميت ابنتي بأمر عظيم ، فحاكمني إلى بعض كهان اليمن    . فخرج الفاكه  في بعض جماعة من بني مخزوم  ، وخرج عتبة  في جماعة من بني عبد مناف  ، وخرجوا معهم بهند  ونسوة معها ، فلما شارفوا البلاد وقالوا : غدا نرد على الكاهن . تنكرت حال هند  وتغير وجهها ، فقال لها أبوها : يا بنية ، قد أرى ما بك من تنكر الحال ، وما ذاك عندك إلا لمكروه فألا كان هذا قبل أن يشتهر في الناس مسيرنا ؟ فقالت : والله يا أبتاه ما هذا الذي تراه مني لمكروه وقع مني ، وإني لبريئة ، ولكن هذا الذي تراه من الحزن وتغير الحال هو أني أعلم أنكم تأتون هذا الكاهن ، وهو بشر يخطئ ويصيب ، ولا آمنه أن يسمني ميسما يكون علي سبة في   [ ص: 395 ] العرب . فقال لها أبوها : لا تخافي فإني سوف أختبره وأمتحنه قبل أن يتكلم في شأنك وأمرك ، فإن أخطأ فيما أمتحنه به لم أدعه يتكلم في أمرك . ثم إنه انفرد عن القوم - وكان راكبا مهرا - حتى توارى عنهم خلف رابية ، فنزل عن فرسه ، ثم صفر له حتى أدلى ، ثم أخذ حبة بر ، فأدخلها في إحليل المهر ، وأوكى عليها بسير ، فلما وردوا على الكاهن أكرمهم ونحر لهم ، فلما تغدوا قال له عتبة    : إنا قد جئناك في أمر ، ولكن لا أدعك تتكلم فيه حتى تبين لنا ما خبأت لك ، فإني قد خبأت لك خبيئا ، فانظر ما هو . قال الكاهن : ثمرة في كمرة . قال : أريد أبين من هذا . قال : حبة من بر في إحليل مهر . قال : صدقت ، فخذ لما جئناك له ، انظر في أمر هؤلاء النسوة . فأجلس النساء خلفه ، وهند  معهم لا يعرفها ، ثم جعل يدنو من إحداهن فيضرب كتفها ويقول : انهضي . حتى دنا من هند  ، فضرب كتفها وقال : انهضي ، غير رسحاء ، ولا زانية ، ولتلدن ملكا يقال له : معاوية    . فوثب إليها الفاكه  فأخذ بيدها ، فنترت يدها من يده ، وقالت له إليك عني ، والله لا يجمع رأسي ورأسك وسادة ، والله لأحرصن على أن يكون هذا الملك من غيرك . فتزوجها  أبو سفيان بن حرب  ، فجاءت منه بمعاوية    . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					