قال ابن إسحاق من طريق : حدثني يونس بن بكير عبد الله بن أبي بكر ، وصالح بن أبي أمامة بن سهل ، قالا : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرغ من بدر بشيرين إلى أهل المدينة ، فبعث إلى أهل السافلة ، [ ص: 385 ] وبعث زيد بن حارثة عبد الله بن رواحة إلى أهل العالية ، فبشروا ونعوا أبا جهل وعتبة والملأ من قريش . فلما بلغ ذلك كعب بن الأشرف لعنه الله قال : ويلكم ، أحق هذا ؟ هؤلاء ملوك العرب وسادة الناس . ثم خرج إلى مكة ، فنزل على عاتكة بنت أسيد بن أبي العيص ، وكانت عند المطلب بن أبي وداعة ، فجعل يبكي على قتلى قريش ، ويحرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال :
طحنت رحى بدر لمهلك أهلها ولمثل بدر تستهل وتدمع قتلت سراة الناس حول حياضهم
لا تبعدوا إن الملوك تصرع كم قد أصيب بها من أبيض
ماجد ذي بهجة تأوي إليه الضيع ويقول أقوام أذل بسخطهم
إن ابن الأشرف ظل كعبا يجزع صدقوا ، فليت الأرض ساعة قتلوا
ظلت تسوخ بأهلها وصدع نبئت أن بني كنانة كلهم
خشعوا لقتل أبي الوليد وجدعوا
أراحل أنت لم تحلل بمنقبة وتارك أنت أم الفضل بالحرم ؟
وقال : موسى بن عقبة كان ابن الأشرف قد آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجاء ، وركب إلى قريش فقدم عليهم فاستغواهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له أبو سفيان : أناشدك الله ، أديننا أحب إلى الله أم دين محمد وأصحابه ؟ قال : أنتم أهدى منهم سبيلا . ثم خرج مقبلا وقد أجمع رأي المشركين على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم معلنا بعداوته وهجائه .
وقال محمد بن يونس الجمال المخرمي الذي قال فيه ابن [ ص: 386 ] عدي : كان عندي ممن يسرق الحديث . قلت : لكن روى عنه مسلم - حدثنا ابن عيينة ، قال : حدثنا عمرو ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قدم حيي بن أخطب ، وكعب بن الأشرف مكة على قريش فحالفوهم على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقالوا لهم : أنتم أهل العلم القديم وأهل الكتاب ، فأخبرونا عنا وعن محمد ، قالوا : ما أنتم وما محمد ؟ قالوا : نحن ننحر الكوماء ، ونسقي اللبن على الماء ، ونفك العناة ، ونسقي الحجيج ، ونصل الأرحام . قالوا : فمامحمد ؟ قالوا : صنبور ، قطع أرحامنا واتبعه سراق الحجيج بنو غفار . قالوا : لا ، بل أنتم خير منه وأهدى سبيلا . فأنزل الله ( ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ( 51 ) ) [ النساء ] الآية .
قال سفيان : كانت غفار سرقة في الجاهلية .
وقال إبراهيم بن جعفر بن محمود بن مسلمة ، عن أبيه ، عن قال : ولحق جابر بن عبد الله ، كعب بن الأشرف بمكة إلى أن قدم المدينة معلنا بمعاداة النبي صلى الله عليه وسلم وهجائه ، فكان أول ما خرج منه قوله :
أذاهب أنت لم تحلل بمنقبة وتارك أنت أم الفضل بالحرم
! صفراء رادعة لو تعصر انعصرت من ذي البوارير والحناء والكتم
إحدى بني عامر هام الفؤاد بها ولو تشاء شفت كعبا من السقم
. . . لم أر شمسا قبلها طلعت حتى تبدت لنا في ليلة الظلم
طحنت رحى بدر لمهلك أهلها
الأبيات .فقال النبي صلى الله عليه وسلم يوما : لكعب بن الأشرف ؟ فقد آذانا بالشعر وقوى المشركين علينا . فقال محمد بن مسلمة : أنا يا رسول الله . قال : فأنت . فقام فمشى ثم رجع فقال : إني قائل ، فقال : قل فأنت في حل : فخرج محمد ، بعد يوم أو يومين ، حتى أتى كعبا وهو في حائط فقال : يا كعب ، جئت لحاجة ، الحديث . من
وقال ابن عيينة : قال : سمعت عمرو بن دينار جابرا يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله ؟ فقام محمد بن مسلمة فقال : يا رسول الله ، أعجب إليك أن أقتله ؟ قال : نعم . قال : فأذن لي أن أقول شيئا . قال : قل . فأتاه محمد بن مسلمة فقال : إن هذا الرجل قد سألنا صدقة ، وقد عنانا ، وإني قد أتيتك أستسلفك . قال : وأيضا لتملنه . قال : إنا قد اتبعناه فنكره أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير شأنه ، وقد أردنا أن تسلفنا . قال : ارهنوني نساءكم . قال : نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب ؟ قال : فارهنوني أبناءكم . قال : كيف نرهنك أبناءنا فيقال رهن بوسق أو وسقين ؟ قال : فأي شيء ؟ قال : نرهنك اللأمة . فواعده أن يأتيه ليلا ، فجاءه ليلا ومعه أبو نائلة ، وهو أخو كعب من الرضاعة ، فدعاه من الحصن فنزل إليهم ، فقالت له امرأته : أين تخرج هذه الساعة ؟ قال : إنما هو أخي أبو نائلة ومحمد بن مسلمة ، إن الكريم لو دعي إلى طعنة بليل لأجاب . قال : محمد : إذا ما جاء فإني قائل بشعره . فأشمه ثم أشمكم ، فإذا رأيتموني أثبت يدي فدونكم . فنزل إليهم متوشحا ، وهو ينفح منه ريح الطيب ، [ ص: 388 ] فقال محمد : ما رأيت كاليوم ريحا ، أي : أطيب ، أتأذن لي أن أشم رأسك ؟ قال : نعم . فشمه ثم شم أصحابه ، ثم قال : أتأذن لي ؟ يعني ثانيا . قال : نعم . فلما استمكن منه قال : دونكم . فضربوه فقتلوه . وأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه . أخرجه من . البخاري
وقال شعيب بن أبي حمزة ، عن الزهري ، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك ، عن أبيه ، كعب بن الأشرف اليهودي كان شاعرا ، وكان يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحرض عليه كفار قريش في شعره . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وأهلها أخلاط ، منهم المسلمون ، ومنهم عبدة الأوثان ، ومنهم اليهود ، وهم أهل الحلقة والحصون ، وهو حلفاء الأوس والخزرج ، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة استصلاحهم كلهم ، وكان الرجل يكون مسلما وأبوه مشرك أو أخوه ، وكان المشركون واليهود حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة يؤذونه أشد الأذى ، فأمر الله رسوله والمسلمين بالصبر والعفو ، فقال تعالى : ( ولتسمعن من الذين أتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا ( 186 ) ) [ آل عمران ] ، وقال : ( ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره ( 109 ) ) [ البقرة ] .
فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث رهطا ليقتلوا سعد بن معاذ كعبا ، فبعث إليه سعد محمد بن مسلمة وأبا عبس ، والحارث ابن أخي سعد بن معاذ في خمسة رهط أتوه عشية ، وهو في مجلسهم بالعوالي . فلما رآهم كعب أنكرهم وكاد يذعر منهم ، فقال لهم : ما جاء بكم ؟ قالوا : جاءت بنا إليك حاجة . قال : فليدن إلي بعضكم فليحدثني بها . فدنا إليه [ ص: 389 ] بعضهم فقال : جئناك لنبيعك أدراعا لنا لنستنفق أثمانها . فقال : والله لئن فعلتم ذلك لقد جهدتم ، قد نزل بكم هذا الرجل . فواعدهم أن يأتوه عشاء حين يهدأ عنهم الناس . فجاءوا فناداه رجل منهم ، فقام ليخرج فقالت امرأته : ما طرقوك ساعتهم هذه لشيء تحب . فقال : بل إنهم قد حدثوني حديثهم . فاعتنقه أبو عبس ، وضربه محمد بن مسلمة بالسيف ، وطعنه بعضهم بالسيف في خاصرته . فلما قتلوه فزعت اليهود ومن كان معهم من المشركين . فغدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أصبحوا فقالوا : إنه طرق صاحبنا الليلة وهو سيد من ساداتنا فقتل ، فذكر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يقول في أشعاره ، ودعاهم رسول الله إلى أن يكتب بينه وبينهم كتابا ، فكتب بينهم صحيفة . وكانت تلك الصحيفة بعده عند علي . أخرجه أن أبو داود .
وذكر وغيره أن موسى بن عقبة كان معهم ، فأصيب في وجهه بالسيف أو رجله . عباد بن بشر
وقال عن يونس بن بكير ، ابن إسحاق : حدثني ثور بن زيد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : ومشى معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بقيع الغرقد ، ثم وجههم وقال : انطلقوا على اسم الله ، اللهم أعنهم .
وذكر البكائي ، عن ابن إسحاق هذه القصة بأطول مما هنا وأحسن عبارة ، وفيه : فاجتمع في قتله محمد ، وسلكان بن سلامة بن وقش ، وهو أبو نائلة الأشهلي ، وعباد بن بشر ، وأبو عبس بن جبر الحارثي . فقدموا إلى ابن الأشرف سلكان ، فجاءه فتحدث معه ساعة وتناشدا شعرا ، ثم قال : ويحك يا ابن الأشرف ، إني قد جئت لحاجة أريد ذكرها لك فاكتم عني . قال : أفعل . قال : كان قدوم هذا الرجل [ ص: 390 ] علينا بلاء من البلاء ، عادتنا العرب ورمونا عن قوس واحدة ، وقطعت عنا السبل حتى ضاع العيال وجهدنا . فقال : أنا ابن الأشرف ! أما والله لقد أخبرتك يا ابن سلامة أن الأمر سيصير إلى ما أقول . فقال : إني أردت أن تبيعنا طعاما ونرهنك ونوثق لك ، وتحسن في ذلك . فقال : أترهنوني أبناءكم ؟ قال : لقد أردت أن تفضحنا ، إن معي أصحابا لي على مثل رأيي ، وقد أردت أن آتيك بهم فتبيعهم ، وتحسن في ذلك ، ونرهنك من الحلقة ما فيه وفاء . قال : فرجع سلكان إلى أصحابه فأخبرهم خبره ، وأمرهم أن يأخذوا السلاح ثم ينطلقوا فيجتمعوا إليه . واجتمعوا ، وساق القصة .
قال ابن إسحاق : وأطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل اليهود ، وقال : من ظفرتم به من اليهود فاقتلوه . وحينئذ أسلم حويصة بن مسعود ، وكان قد أسلم قبله أخوه محيصة . فقتل محيصة ابن سنينة اليهودي التاجر ، فقال حويصة قبل أن يسلم وجعل يضرب أخاه ويقول : أي عدو الله قتلته ؟ أما والله لرب شحم في بطنك من ماله . فقال : والله لقد أمرني بقتله من لو أمرني بقتلك لضربت عنقك . قال : والله إن دينا بلغ بك هذا لعجب . فأسلم حويصة .
وفي رمضان : ولد السيد أبو محمد الحسن بن علي ، رضي الله عنهما .
وتزوج النبي صلى الله عليه وسلم بحفصة بنت عمر .
وفي هذه السنة : تزوج أيضا بزينب بنت خزيمة ، من بني عامر بن صعصعة ، وهي أم المساكين ، فعاشت عنده شهرين أو ثلاثة ، وتوفيت . وقيل : أقامت عنده ثمانية أشهر ، فالله أعلم .