أمر الذين خلفوا
قال شعيب بن أبي حمزة ، عن الزهري : أخبرني سعيد بن المسيب ، بني قريظة كانوا حلفاء لأبي لبابة ، فاطلعوا إليه ، وهو يدعوهم إلى حكم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا أبا لبابة ، أتأمرنا أن ننزل ؟ فأشار بيده إلى حلقه أنه الذبح . فأخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ، فقال له : لم تر عيني ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أحسبت أن الله غفل عن يدك حين تشير إليهم بها إلى حلقك ؟ " فلبث حينا ورسول الله صلى الله عليه وسلم عاتب عليه .
ثم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوك ، فتخلف عنه أبو لبابة فيمن تخلف . فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءه أبو لبابة يسلم عليه ، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ففزع أبو لبابة ، فارتبط بسارية التوبة ، التي عند باب أم سلمة ، [ ص: 251 ] سبعا بين يوم وليلة ، في حر شديد ، لا يأكل فيهن ولا يشرب قطرة . وقال : لا يزال هذا مكاني حتى أفارق الدنيا أو يتوب الله علي . فلم يزل كذلك حتى ما يسمع الصوت من الجهد ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه بكرة وعشية . ثم تاب الله عليه فنودي : إن الله قد تاب عليك . فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليطلق عنه رباطه ، فأبى أن يطلقه عنه أحد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأطلق عنه بيده . فقال أبو لبابة حين أفاق : يا رسول الله ، إني أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب ، وأنتقل إليك فأساكنك ، وإني أنخلع من مالي صدقة إلى الله ورسوله . فقال : " يجزئ عنك الثلث " فهجر دار قومه وتصدق بثلث ماله ، ثم تاب فلم ير منه بعد ذلك في الإسلام إلا خير ، حتى فارق الدنيا . مرسل . أن
وقال ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : ( اعترفوا بذنوبهم ( 102 ) ) قال : هو أبو لبابة ، إذ قال لقريظة ما قال ، وأشار إلى حلقه بأن محمدا يذبحكم إن نزلتم على حكمه . وزعم محمد بن إسحاق أن ارتباطه كان حينئذ . ولعله ارتبط مرتين .
وقال عبد الله بن صالح . حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : ( وآخرون اعترفوا بذنوبهم ( 102 ) ) قال : كانوا عشرة رهط تخلفوا عن النبي صلى الله عليه وسلم ، في غزوة تبوك . فلما حضر رجوع رسول الله صلى الله عليه وسلم أوثق سبعة منهم أنفسهم بسواري المسجد ، وكان ممر النبي صلى الله عليه وسلم عليهم . فلما رآهم قال : من هؤلاء ؟ قالوا : هذا أبو لبابة وأصحاب له تخلفوا عنك يا رسول الله حتى تطلقهم وتعذرهم . قال : " وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم ، حتى يكون الله هو الذي يطلقهم ، رغبوا عني وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين " فلما بلغهم ذلك قالوا : ونحن لا نطلق أنفسنا حتى يكون الله هو الذي يطلقنا . فأنزلت : ( وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم ( 102 ) ) [ ص: 252 ] [ التوبة ] و " عسى " من الله واجب .
فلما نزلت ، أرسل إليهم فأطلقهم وعذرهم . ونزلت ; إذ بذلوا أموالهم : ( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ( 103 ) ) [ التوبة ] وروى نحوه عطية العوفي ، عن ابن عباس .
وقال عقيل ، عن ابن شهاب ، عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك ، أن أباه ، قال : سمعت كعبا يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك .
قال كعب : لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها قط ، إلا في غزوة تبوك ، غير أني تخلفت عن غزوة بدر ، ولم يعاتب الله أحدا تخلف عنها ، إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عير قريش ، حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد . ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة ، وما أحب أن لي بها مشهد بدر ، وإن كانت بدر ; يعني أذكر في الناس منها .
كان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ، أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة . والله ما اجتمعت عندي قبلها راحلتان حتى جمعتهما تلك الغزوة . ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا ورى بغيرها . حتى كانت تلك الغزوة ، غزاها في حر شديد واستقبل سفرا بعيدا ومفازا وعدوا كثيرا ، فجلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة عدوهم ، وأخبرهم بوجهه الذي يريد ، والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير لا يجمعهم كتاب حافظ ; يريد الديوان . قال كعب : فما رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن سيخفى له ما لم ينزل فيه وحي . وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال ، فأنا إليها أصعر . فتجهز والمسلمون معه .
[ ص: 253 ] وطفقت أغدو لكي أتجهز معهم ولم أقض شيئا ، وأقول في نفسي : أنا قادر على ذلك إذا أردته . فلم يزل يتمادى بي حتى استمر بالناس الجد . فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه ، ولم أقض من جهازي شيئا . فقلت : أتجهز بعده يوما أو يومين ثم ألحقهم . فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز فرجعت ولم أقض شيئا ، ثم غدوت ثم رجعت ولم أقض شيئا . فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو وهممت أن أرحل فأدركهم ، وليتني فعلت ، فلم يقدر لي ذلك . فكنت إذا خرجت في الناس أحزنني أني لا أرى إلا رجلا مغموصا من النفاق ; أو رجلا ممن عذر الله من الضعفاء . فلم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك ، قال وهو جالس في القوم : " ما فعل كعب " ؟ فقال رجل من بني سلمة : يا رسول الله ، حبسه برداه ينظر في عطفه . فقال له معاذ بن جبل : بئس ما قلت ، والله يا رسول الله ما علمنا إلا خيرا .
فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه قافلا من تبوك ، حضرني همي فطفقت أتذكر الكذب وأقول : بماذا أخرج من سخطه غدا ؟ وأستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي . فلما قيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادما زاح عني الباطل ، وعرفت أني لا أخرج منه أبدا بشيء فيه كذب ، فأجمعت صدقه . وأصبح قادما ، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين ثم جلس للناس . فلما فعل ذلك جاء المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له ، وكانوا بضعة وثمانين رجلا . فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم ، وبايعهم ، واستغفر لهم ، ووكل سرائرهم إلى الله . فجئته فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب ، ثم قال : تعال . فجئت أمشي حتى جلست بين يديه . فقال : ما خلفك ؟ ألم تكن ابتعت ظهرك ؟ فقلت : بلى ؛ يا رسول الله ، إني والله لو جلست [ ص: 254 ] عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر ، ولقد أعطيت جدلا ، ولكن والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديثا كاذبا ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخط علي ، ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه ، إني لأرجو عفو الله . لا ؛ والله ما كان لي من عذر ، ووالله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما هذا فقد صدق ، قم حتى يقضي الله فيك . فقمت ، وثار رجال من بني سلمة فقالوا : لا والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا ، أعجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر إليه المخلفون ، قد كان كافيك لذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك . فوالله ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع فأكذب نفسي . ثم قلت : هل لقي هذا معي أحد ؟ قالوا : نعم ؛ رجلان قالا مثل ما قلت . وقيل لهما مثل ما قيل لك . فقلت : من هما ؟ فقالوا : مرارة بن الربيع العمري ، وهلال بن أمية الواقفي . فذكروا رجلين صالحين قد شهدا بدرا ، فيهما أسوة ، فمضيت حين ذكروهما لي .
ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه ، واجتنبنا الناس وتغيروا لنا ، حتى تنكرت في نفسي الأرض فما هي التي أعرف ، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة . فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيتهما ، وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم ، فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف في الأسواق ، ولا يكلمني أحد . وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مجلسه بعد الصلاة فأسلم عليه فأقول في نفسي : هل حرك شفتيه برد السلام علي أم لا ؟ ثم أصلي فأسارقه النظر ، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي ، فإذا التفت نحوه أعرض عني . حتى إذا طال علي ذلك من جفوة المسلمين تسورت جدار حائط أبي قتادة ; وهو ابن عمي وأحب الناس إلي ، فسلمت عليه ، فوالله ما رد . فقلت : يا أبا [ ص: 255 ] قتادة ، أنشدك الله هل تعلم أني أحب الله ورسوله ؟ قال : فسكت ، فعدت له فسكت ، فناشدته الثالثة ، فقال : الله ورسوله أعلم . ففاضت عيناي ، وتوليت حتى تسورت الجدار .
قال : فبينا أنا أمشي بسوق المدينة ، إذا نبطي من أنباط الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة . يقول : من يدل على ؟ فطفق الناس يشيرون له إلي . حتى إذا جاءني دفع إلي كتابا من ملك غسان ; وكنت كاتبا ; فإذا فيه : أما بعد ؛ فقد بلغني أن صاحبك قد جفاك ، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة ، فالحق بنا نواسك . وهذا أيضا من البلاء ، فتيممت به التنور فسجرته به . حتى إذا مضى لنا أربعون ليلة من الخمسين إذا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك . فقلت : أطلقها أم ماذا أفعل بها ؟ فقال : لا ؛ بل اعتزلها فلا تقربنها . وأرسل إلى صاحبي بمثل ذلك . فقلت لامرأتي : الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله هذا الأمر . كعب بن مالك
قال كعب : فجاءت امرأة هلال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : إن هلالا شيخ ضائع ليس له خادم ، فهل تكره أن أخدمه ؟ فقال : لا ؛ ولكن لا يقربنك . قالت : إنه والله ما به حركة إلى شيء ، والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومي هذا . فقال لي بعض أهلي : لو استأذنت رسول الله في امرأتك ؟ فقلت : لا والله ، وما يدريني ما يقول لي رسول الله صلى الله عليه وسلم إن استأذنته فيها ، وأنا رجل شاب . فلبثت بعد ذلك عشر ليال حتى كملت لنا خمسون ليلة . فلما أن صليت صلاة الفجر صبح خمسين ليلة ، وأنا على ظهر بيت من بيوتنا ، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله منا ; قد ضاقت علي نفسي ، وضاقت علي الأرض بما رحبت ; سمعت صوت صارخ أوفى على جبل سلع : يا أبشر . فخررت ساجدا وعرفت أن قد جاء الفرج . كعب بن مالك ،
[ ص: 256 ] وآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا ، حين صلى صلاة الفجر . فذهب الناس يبشروننا ، وذهب قبل صاحبي مبشرون . وركض رجل إلي فرسا ، وسعى ساع من أسلم فأوفى على الجبل ، وكان الصوت أسرع إلي من الفرس . فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني ، نزعت ثوبي فكسوتهما إياه ببشراه ، ووالله ما أملك غيرهما يومئذ . واستعرت ثوبين فلبستهما ، وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتلقاني الناس فوجا فوجا يهنئونني بالتوبة ; يقولون : ليهنك توبة الله عليك . حتى دخلت المسجد ، فقام إلي يهرول حتى صافحني وهنأني ، والله ما قام إلي رجل من المهاجرين غيره ، ولا أنساها طلحة بن عبيد الله لطلحة . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبرق وجهه بالسرور : " أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك " قلت : أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله ؟ قال : " لا ؛ بل من عند الله "
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بشر ببشارة يبرق وجهه كأنه قطعة قمر ، وكنا نعرف ذلك منه . فلما جلست بين يديه قلت : يا رسول الله : إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى الرسول . قال : أمسك بعض مالك فهو خير لك . فقلت : فإني أمسك سهمي الذي بخيبر . وقلت : يا رسول الله ، إن الله إنما نجاني بالصدق ، وإن من توبتي أن لا أحدث إلا صدقا ما بقيت . فوالله ما أعلم أحدا من المسلمين ابتلاه الله تعالى في صدق الحديث أحسن مما ابتلاني ، ما تعمدت مذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم كذبا ، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي . وأنزل الله تعالى على رسوله : ( عن لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار ( 117 ) ) إلى قوله : ( اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ( 119 ) ) [ التوبة ] فوالله ما أنعم الله علي من نعمة ، بعد أن هداني للإسلام ، أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ، أن لا أكون كذبته ، فأهلك كما هلك الذين كذبوه ، فإن الله تعالى قال للذين كذبوه ، حين [ ص: 257 ] نزل الوحي ، شر ما قال لأحد فقال : ( سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون ( 95 ) يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين ( 96 ) ) [ التوبة ] .
قال كعب : وكنا خلفنا - أيها الثلاثة - عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا له ، وأرجأ أمرنا حتى قضى الله فيها . فبذلك قال تعالى : ( وعلى الثلاثة الذين خلفوا ( 118 ) ) [ التوبة ] وليس الذي ذكر الله تخلفنا عن الغزو ، وإنما هو تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا عمن تخلف واعتذر ، فقبل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم . متفق عليه .