عطفت جملة " وأعدوا " على جملة فإما تثقفنهم في الحرب أو على جملة ولا تحسبن الذين كفروا سبقوا فتفيد مفاد الاحتراس عن مفادها ; لأن قوله : [ ص: 55 ] ولا تحسبن الذين كفروا سبقوا يفيد توهينا لشأن المشركين ، فتعقيبه بالأمر بالاستعداد لهم : لئلا يحسب المسلمون أن المشركين قد صاروا في مكنتهم ، ويلزم من ذلك الاحتراس أن الاستعداد لهم هو سبب جعل الله إياهم لا يعجزون الله ورسوله ; لأن الله هيأ أسباب استئصالهم ظاهرها وباطنها .
والإعداد : التهيئة والإحضار ، ودخل في " ما استطعتم " كل ما يدخل تحت قدرة الناس اتخاذه من العدة .
والخطاب لجماعة المسلمين وولاة الأمر منهم ; لأن ما يراد من الجماعة إنما يقوم بتنفيذه ولاة الأمور الذين هم وكلاء الأمة على مصالحها .
والقوة كمال صلاحية الأعضاء لعملها وقد تقدمت آنفا عند قوله : إن الله قوي شديد العقاب وعند قوله تعالى : فخذها بقوة . وتطلق القوة مجازا على شدة تأثير شيء ذي أثر ، وتطلق أيضا على سبب شدة التأثير ، فقوة الجيش شدة وقعه على العدو ، وقوته أيضا سلاحه وعتاده ، وهو المراد هنا ، فهو مجاز مرسل بواسطتين فاتخاذ السيوف والرماح والأقواس والنبال من القوة في جيوش العصور الماضية ، واتخاذ الدبابات والمدافع والطيارات والصواريخ من القوة في جيوش عصرنا . وبهذا الاعتبار يفسر ما روى مسلم عن والترمذي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ هذه الآية على المنبر ثم قال : عقبة بن عامر ، أي : أكمل أفراد القوة آلة الرمي ، أي : في ذلك العصر . وليس المراد حصر القوة في آلة الرمي . ألا إن القوة الرمي ، قالها ثلاثا
وعطف " رباط الخيل " على القوة من عطف الخاص على العام ، للاهتمام بذلك الخاص .
( ) صيغة مفاعلة أتي بها هنا للمبالغة لتدل على قصد الكثرة من ربط الخيل للغزو ، أي احتباسها وربطها انتظارا للغزو عليها ، كقول النبيء - صلى الله عليه وسلم - والرباط الحديث . يقال : ربط الفرس إذا شده في مكان حفظه ، وقد سموا المكان الذي ترتبط فيه الخيل [ ص: 56 ] رباطا ; لأنهم كانوا يحرسون الثغور المخوفة راكبين على أفراسهم ، كما وصف ذلك من ارتبط فرسا في سبيل الله كان روثها وبولها حسنات له لبيد في قوله :
ولقد حميت الحي تحمل شكتي فرط وشاحي إن ركبت زمامها
إلى أن قال :حتى إذا ألقت يدا في كـافـر وأجن عورات الثغور ظلامها
أسهلت وانتصبت كجذع منيفة جرداء يحصر دونها جرامها
وقد تقدم شيء من هذا عند قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا في سورة آل عمران .
وجملة ترهبون به عدو الله وعدوكم إما مستأنفة استئنافا بيانيا ، ناشئا عن تخصيص الرباط بالذكر بعد ذكر ما يعمه ، وهو القوة ، وإما في موضع الحال من ضمير " وأعدوا "
وعدو الله وعدوهم : هم المشركون فكان تعريفهم بالإضافة لأنها أخصر طريق لتعريفهم ، ولما تتضمنه من وجه قتالهم وإرهابهم ، ومن ذمهم ، أن كانوا أعداء ربهم ، ومن تحريض المسلمين على قتالهم إذ عدوا أعداء لهم ، فهم أعداء الله لأنهم أعداء توحيده وهم أعداء رسوله - صلى الله عليه وسلم - لأنهم صارحوه بالعداوة ، وهم أعداء المسلمين لأن المسلمين أولياء دين الله والقائمون به وأنصاره . فعطف " وعدوكم " على عدو الله من عطف صفة موصوف واحد مثل قول الشاعر ، وهو من شواهد أهل العربية :
إلى الملك القرم وابن الهما م وليث الكتيبة في المزدحم
والمراد بآخرين من دونهم أعداء لا يعرفهم المسلمون بالتعيين ولا بالإجمال ، وهم من كان يضمر للمسلمين عداوة وكيدا ، ويتربص بهم الدوائر ، مثل بعض القبائل . فقوله : لا تعلمونهم أي لم تكونوا تعلمونهم قبل هذا الإعلام ، وقد علمتموهم الآن إجمالا ، أو أريد : لا تعلمونهم بالتفصيل ولكنكم تعلمون وجودهم إجمالا مثل المنافقين ، فالعلم بمعنى المعرفة . ولهذا نصب مفعولا واحدا .
وقوله : ( من دونهم ) مؤذن بأنهم قبائل من العرب كانوا ينتظرون ما تنكشف عنه عاقبة المشركين من أهل مكة من حربهم مع المسلمين ، فقد كان ذلك دأب كثير من القبائل كما ورد في السيرة ، ولذلك ذكر من دونهم بمعنى : من جهات أخرى ; لأن أصل ( دون ) أنها للمكان المخالف ، وهذا أولى من حمله على مطلق المغايرة التي هي من إطلاقات كلمة ( دون ) لأن ذلك المعنى قد أغنى عنه وصفهم بـ " آخرين "
وجملة الله يعلمهم تعريض بالتهديد لهؤلاء الآخرين ، فالخبر مستعمل في معناه الكنائي ، وهو تعقبهم والإغراء بهم ، وتعريض بالامتنان على المسلمين بأنهم بمحل عناية الله ، فهو يحصي أعداءهم وينبههم إليهم .
وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي : للتقوي ، أي : تحقيق الخبر وتأكيده ، والمقصود تأكيد لازم معناه ، أما أصل المعنى فلا يحتاج إلى التأكيد إذ لا ينكره أحد ، وأما حمل التقديم هنا على إرادة الاختصاص فلا يحسن ، للاستغناء عن طريق القصر بجملة النفي في قوله : لا تعلمونهم فلو قيل : ويعلمهم الله لحصل معنى القصر من مجموع الجملتين .
وإذ قد كان إعداد القوة يستدعي إنفاقا ، وكانت النفوس شحيحة بالمال ، تكفل الله للمنفقين في سبيله بإخلاف ما أنفقوه والإثابة عليه ، فقال وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم . فسبيل الله هو الجهاد لإعلاء كلمته .
[ ص: 58 ] والتوفية : أداء الحق كاملا ، جعل الله ذلك الإنفاق كالقرض لله ، وجعل على الإنفاق جزاء ، فسمى جزاءه توفية على طريقة الاستعارة المكنية ، وتدل التوفية على أنه يشمل الأجر في الدنيا مع أجر الآخرة ، ونقل ذلك عن . ابن عباس
وتعدية التوفية إلى الإنفاق بطريق بناء الفعل للنائب ، وإنما الذي يوفى هو الجزاء على الإنفاق في سبيل الله ، للإشارة إلى أن الموفى هو الثواب . والتوفية تكون على قدر الإنفاق وأنها مثله ، كما يقال : وفاه دينه ، وإنما وفاه مماثلا لدينه . وقريب منه قولهم : قضى صلاة الظهر ، وإنما قضى صلاة بمقدارها ، فالإسناد : إما مجاز عقلي ، أو هو مجاز بالحذف .
والظلم : هنا مستعمل في النقص من الحق ; لأن نقص الحق ظلم ، وتسمية النقص من الحق ظلما حقيقة . وليس هو كالذي في قوله - تعالى : كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا