انتقال من بيان أحوال معاملة العدو في الحرب : من وفائهم بالعهد ، وخيانتهم ، وكيف يحل المسلمون العهد معهم إن خافوا خيانتهم ، ومعاملتهم إذا ظفروا بالخائنين . والأمر بالاستعداد لهم ; إلى بيان أحكام السلم إن طلبوا السلم والمهادنة ، وكفوا عن حالة الحرب . فأمر الله المسلمين بأن لا يأنفوا من السلم وأن يوافقوا من سأله منهم .
والجنوح : الميل ، وهو مشتق من جناح الطائر : لأن الطائر إذا أراد النزول مال بأحد جناحيه ، وهو جناح جانبه الذي ينزل منه ، قال النابغة يصف الطير تتبع الجيش
جوانح قد أيقـن أن قـبـيلـه إذا ما التقى الجمعان أول غالب
[ ص: 59 ] فمعنى وإن جنحوا للسلم إن مالوا إلى السلم ميل القاصد إليه ، كما يميل الطائر الجانح . وإنما لم يقل : وإن طلبوا السلم فأجبهم إليها ، للتنبيه على أنه لا يسعفهم إلى السلم حتى يعلم أن حالهم حال الراغب ; لأنهم قد يظهرون الميل إلى السلم كيدا ، فهذا مقابل قوله : وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء فإن نبذ العهد نبذ لحال السلم .
واللام في قوله : " للسلم " واقعة موقع ( إلى ) لتقوية التنبيه على أن ميلهم إلى السلم ميل حق ، أي : وإن مالوا لأجل السلم ورغبة فيه لا لغرض آخر غيره ; لأن حق ( جنح ) أن يعدى بـ ( إلى ) لأنه بمعنى " مال " الذي يعدى بـ ( إلى ) فلا تكون تعديته باللام إلا لغرض ، وفي الكشاف : أنه يقال جنح له وإليه .
والسلم بفتح السين وكسرها ضد الحرب . وقرأه الجمهور بالفتح ، وقرأه حمزة ، وأبو بكر عن عاصم ، وخلف بكسر السين وحق لفظه التذكير ، ولكنه يؤنث حملا على ضده الحرب ، وقد ورد مؤنثا في كلامهم كثيرا .
والأمر بالتوكل على الله ، بعد الأمر بالجنوح إلى السلم ، ليكون النبيء - صلى الله عليه وسلم - معتمدا في جميع شأنه على الله - تعالى ، ومفوضا إليه تسيير أموره ، لتكون مدة السلم مدة تقو واستعداد ، وليكفيه الله شر عدوه إذا نقضوا العهد ، ولذلك عقب الأمر بالتوكل بتذكيره بأن الله السميع العليم ، أي : السميع لكلامهم في العهد ، العليم بضمائرهم ، فهو يعاملهم على ما يعلم منهم . وقوله : فاجنح لها جيء بفعل ( اجنح ) لمشاكلة قوله : جنحوا .
وطريق القصر في قوله : هو السميع العليم أفاد قصر معنى الكمال في السمع والعلم ، أي : فهو سميع منهم ما لا تسمع ويعلم ما لا تعلم . وقصر هذين الوصفين بهذا المعنى على الله - تعالى - عقب الأمر بالتوكل عليه يفضي إلى الأمر بقصر التوكل عليه لا على غيره . وفي الجمع بين الأمر بقصر التوكل عليه وبين الأمر بإعداد ما استطاع من القوة للعدو : دليل بين على أن التوكل أمر غير تعاطي أسباب الأشياء ، فتعاطي الأسباب فيما هو من مقدور الناس ، والتوكل فيما يخرج عن ذلك .
[ ص: 60 ] واعلم أن ضمير جمع الغائبين في قوله : وإن جنحوا للسلم وقع في هذه الآية عقب ذكر طوائف في الآيات قبلها ، منهم مشركون في قوله - تعالى : وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم ، ومنهم من قيل : إنهم من أهل الكتاب ، ومنهم من ترددت فيهم أقوال المفسرين : قيل : هم من أهل الكتاب ، وقيل : هم من المشركين ، وذلك قوله : إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون الذين عاهدت منهم الآية . قيل : هم قريظة والنضير وبنو قينقاع ، وقيل : هم من المشركين ، فاحتمل أن يكون ضمير " جنحوا " عائدا إلى المشركين . أو عائدا إلى أهل الكتاب ، أو عائدا إلى الفريقين كليهما .
فقيل : عاد ضمير الغيبة في قوله : وإن جنحوا للسلم إلى المشركين ، قاله قتادة ، وعكرمة ، والحسن ، ورواه وجابر بن زيد ، عطاء عن وقيل : عاد إلى أهل الكتاب ، قاله ابن عباس ، مجاهد .
فالذين قالوا : إن الضمير عائد إلى المشركين ، قالوا : كان هذا في أول الأمر حين قلة المسلمين ، ثم نسخ بآية سورة " براءة " فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم الآية . ومن قالوا : الضمير عائد إلى أهل الكتاب ، قالوا : هذا حكم باق ، والجنوح إلى السلم إما بإعطاء الجزية أو بالموادعة .
والوجه أن يعود الضمير إلى صنفي الكفار : من مشركين وأهل الكتاب ، إذ وقع قبله ذكر الذين كفروا في قوله : إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فالمشركون من العرب لا يقبل منهم إلا الإسلام بعد نزول آية " براءة " فهي مخصصة العموم الذي في ضمير " جنحوا " أو مبينة إجماله ، وليست من النسخ في شيء . قال أما من قال إنها منسوخة بقوله : أبو بكر بن العربي فاقتلوا المشركين فدعوى ، فإن شروط النسخ معدومة فيها كما بيناه في موضعه .
وهؤلاء قد انقضى أمرهم . وأما المشركون من غيرهم ، والمجوس ، وأهل الكتاب ، فيجري أمر المهادنة معهم على حسب حال قوة المسلمين ومصالحهم وأن الجمع بين الآيتين أولى : فإن دعوا إلى السلم قبل منهم ، إذا كان فيه مصلحة للمسلمين . قال ابن العربي : فإذا كان المسلمون في قوة ومنعة وعدة :
فلا صلح حتى تطعن الخيل بالقنا وتضرب بالبيض الرقاق الجماجم
أما ما هم به النبيء - صلى الله عليه وسلم - من مصالحة عيينة بن حصن ، ومن معه ، على أن يعطيهم نصف ثمار المدينة فذلك قد عدل عنه النبيء - صلى الله عليه وسلم - بعد أن قال سعد بن عبادة ، في جماعة وسعد بن معاذ ، الأنصار : لا نعطيهم إلا السيف .
فهذا الأمر بقبول المهادنة من المشركين اقتضاه حال المسلمين وحاجتهم إلى استجمام أمورهم وتجديد قوتهم ، ثم نسخ ذلك بالأمر بقتالهم المشركين حتى يؤمنوا ، في آيات السيف . قال قتادة وعكرمة : نسخت " براءة " كل مواعدة وبقي حكم التخيير بالنسبة لمن عدا مشركي العرب على حسب مصلحة المسلمين .