إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله استئناف بياني ، نشأ عن قوله : براءة من الله ورسوله ثم عن قوله : أن الله بريء من المشركين وعن قوله : فاقتلوا المشركين التي كانت تدرجا في إبطال ما بينهم وبين المسلمين من عهود سابقة ; لأن ذلك يثير سؤالا في نفوس السامعين من المسلمين [ ص: 121 ] الذين لم يطلعوا على دخيلة الأمر ، فلعل بعض قبائل العرب من المشركين يتعجب من هذه البراءة ، ويسأل عن سببها ، وكيف أنهيت العهود وأعلنت الحرب ، فكان المقام مقام بيان سبب ذلك ، وأنه أمران : بعد ما بين العقائد ، وسبق الغدر .
والاستفهام بـ " كيف " إنكاري ؛ إنكارا لحالة كيان العهد بين المشركين وأهل الإسلام ، أي : دوام العهد في المستقبل مع الذين عاهدوهم يوم الحديبية وما بعده ففعل " يكون " مستعمل في معنى الدوام مثل قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله كما دل عليه قوله بعده فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم . وليس ذلك إنكارا على وقوع العهد ، فإن العهد قد انعقد بإذن من الله ، وسماه الله فتحا في قوله : إنا فتحنا لك فتحا مبينا وسمي رضا المؤمنين به يومئذ سكينة في قوله : هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين
والمعنى : أن الشأن أن لا يكون لكم عهد مع أهل الشرك ، للبون العظيم بين دين التوحيد ودين الشرك ، فكيف يمكن اتفاق أهليهما ، أي فما كان العهد المنعقد معهم إلا أمرا موقتا بمصلحة . ففي وصفهم بالمشركين إيماء إلى علة الإنكار على دوام العهد معهم .
وهذا يؤيد ما فسرنا به وجه إضافة البراءة إلى الله ورسوله ، وإسناد العهد إلى ضمير المسلمين ، في قوله تعالى : براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم
ومعنى " عند " الاستقرار المجازي ، بمعنى الدوام أي إنما هو عهد موقت ، وقد كانت قريش نكثوا عهدهم الذي عاهدوه يوم الحديبية ، إذ أعانوا بني بكر بالسلاح والرجال على خزاعة ، وكانت خزاعة داخلة في عهد النبيء - صلى الله عليه وسلم - ، وكان ذلك سبب التجهيز لغزوة فتح مكة .
واستثناء إلا الذين عاهدتم من معنى النفي الذي استعمل فيه الاستفهام بـ كيف يكون للمشركين عهد أي لا يكون عهد المشركين إلا المشركين الذين عاهدتم عند المسجد الحرام .
والذين عاهدوهم عند المسجد الحرام : هم بنو ضمرة ، وبنو جذيمة بن الديل ، من كنانة ; وبنو بكر من كنانة .
[ ص: 122 ] فالموصول هنا للعهد ، وهم أخص من الذين مضى فيهم قوله : إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا
والمقصود من تخصيصهم بالذكر : التنويه بخصلة وفائهم بما عاهدوا عليه . ويتعين أن يكون هؤلاء عاهدوا النبيء - صلى الله عليه وسلم - في عمرة القضاء عند المسجد الحرام ، ودخلوا في الصلح الذي عقده مع قريش بخصوصهم ، زيادة على دخولهم في الصلح الأعم ، ولم ينقضوا عهدهم ، ولا ظاهروا عدوا على المسلمين ، إلى وقت نزول " براءة " . على أن معاهدتهم عند المسجد الحرام أبعد عن مظنة النكث لأن المعاهدة عنده أوقع في نفوس المشركين من الحلف المجرد ، كما قال تعالى : إنهم لا أيمان لهم
وليس المراد كل من عاهد عند المسجد الحرام كما قد يتوهمه المتوهم ; لأن النبيء - صلى الله عليه وسلم - لم يكن مأذونا بأن يعاهد فريقا آخر منهم .
وقوله : فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم تفريع على الاستثناء . فالتقدير إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فاستقيموا لهم ما استقاموا لكم ، أي ما داموا مستقيمين لكم . والظاهر أن استثناء هؤلاء لأن لعهدهم حرمة زائدة لوقوعه عند المسجد الحرام حول الكعبة .
و " ما " ظرفية مضمنة معنى الشرط ، والفاء الداخلة عليها فاء التفريع . والفاء الواقعة في قوله : فاستقيموا لهم فاء جواب الشرط ، وأصل ذلك أن الظرف والمجرور إذا قدم على متعلقه قد يشرب معنى الشرط فتدخل الفاء في جوابه ، ومنه قوله تعالى : وفي ذلك فليتنافس المتنافسون لوجوب جعل الفاء غير تفريعية ; لأنه قد سبقها العطف بالواو ، وقول النبيء - صلى الله عليه وسلم - : " " بجزم الفعلين ، وقوله لمن سأله أن يجاهد وسأله الرسول كما تكونوا يول عليكم في روايته بفاءين . ألك أبوان ؟ قال : نعم . قال : ففيهما فجاهد
والاستقامة حقيقتها عدم الاعوجاج ، والسين والتاء للمبالغة مثل " استجاب " و " استحب " ، وإذا قام الشيء انطلقت قامته ولم يكن فيه اعوجاج ، وهي هنا مستعارة [ ص: 123 ] لحسن المعاملة وترك القتال ; لأن سوء المعاملة يطلق عليه الالتواء والاعوجاج ، فكذلك يطلق على ضده الاستقامة .
وجملة إن الله يحب المتقين تعليل للأمر بالاستقامة . وموقع " إن " أولها للاهتمام . وهو مؤذن بالتعليل لأن " إن " في مثل هذا تغني غناء " فاء " وقد أنبأ ذلك التعليل أن الاستقامة لهم من التقوى وإلا لم تكن مناسبة للإخبار بأن الله يحب المتقين . عقب الأمر بالاستقامة لهم ، وهذا من الإيجاز . ولأن في الاستقامة لهم حفظا للعهد الذي هو من قبيل اليمين .