أعقب أمره بالصبر على ما يقولونه بنهيه عن الإعجاب بما ينعم به من تنعم من المشركين بأموال وبنين في حين كفرهم بالله بأن [ ص: 340 ] ذلك لحكم يعلمها الله تعالى ، منها إقامة الحجة عليهم ، كما قال تعالى : أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون .
وذكر الأزواج هنا لدلالته على العائلات والبيوت ، أي إلى ما متعناهم وأزواجهم به من المتع; فكل زوج ممتع بمتعة في زوجه مما يحسن في نظر كل من محاسن قرينه وما يقارن ذلك من محاسن مشتركة بين الزوجين كالبنين ، والرياش ، والمنازل ، والخدم . ومد العينين : مستعمل في إطالة النظر للتعجيب لا للإعجاب; شبه ذلك بمد اليد لتناول شيء مشتهى . وقد تقدم نظيره في آخر سورة الحجر . والزهرة بفتح الزاي وسكون الهاء : واحدة الزهر ، وهو نور الشجر والنبات ، وتستعار للزينة المعجبة المبهتة ، لأن منظر الزهرة يزين النبات ويعجب الناظر ، فزهرة الحياة : زينة الحياة ، أي زينة أمور الحياة من اللباس والأنعام والجنان والنساء والبنين ، كقوله تعالى : فمتاع الحياة الدنيا وزينتها . وانتصب زهرة الحياة الدنيا على الحال من اسم الموصول في قوله : ما متعنا به أزواجا منهم .
وقرأ الجمهور " زهرة " بسكون الهاء . وقرأه يعقوب بفتح الهاء وهي لغة .
" لنفتنهم " متعلق بـ " متعنا " . و " في " للظرفية المجازية ، أي ليحصل فتنتهم في خلاله ، ففي كل صنف من ذلك المتاع فتنة مناسبة له . واللام للعلة المجازية التي هي عاقبة الشيء ، مثل قوله تعالى : فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا .
[ ص: 341 ] وإنما متعهم الله بزهرة الدنيا لأسباب كثيرة متسلسلة عن نظم الاجتماع ، فكانت لهم فتنة في دينهم ، فجعل الحاصل بمنزلة الباعث . والفتنة : اضطراب النفس وتبلبل البال من خوف أو توقع أو التواء الأمور ، وكانوا لا يخلون من ذلك ، فلشركهم يقذف الله في قلوبهم الغم والتوقع ، وفتنتهم في الآخرة ظاهرة . فالظرفية هنا كالتي في قول سبرة بن عمرو الفقعسي :
نحابي بها أكفاءنا ونهينها ونشرب في أثمانها ونقامر
وقوله تعالى : وارزقوهم فيها واكسوهم في سورة النساء . وجملة ورزق ربك خير وأبقى تذييل ؛ لأن قوله : " ولا تمدن عينيك إلى " آخره يفيد أن ما يبدو للناظر من حسن شارتهم مشوب ومبطن بفتنة في النفس وشقاء في العيش وعقاب عليه في الآخرة ، فذيل بأن الرزق الميسر من الله للمؤمنين خير من ذلك وأبقى في الدنيا ومنفعته باقية في الآخرة لما يقارنه في الدنيا من الشكر . فإضافة " رزق ربك " إضافة تشريف ، وإلا فإن الرزق كله من الله ، ولكن رزق الكافرين لما خالطه وحف به حال أصحابه من غضب الله عليهم ، ولما فيه من التبعة على أصحابه في الدنيا والآخرة ؛ لكفرانهم النعمة جعل كالمنكور انتسابه إلى الله ، وجعل رزق الله هو السالم من ملابسة الكفران ومن تبعات ذلك .
و " خير " تفضيل ، والخيرية حقيقة اعتبارية تختلف باختلاف نواحيها . فمنها : خير لصاحبه في العاجل شر عليه في الآجل ، ومنها خير مشوب بشرور وفتن ، وخير صاف من ذلك ، ومنها ملائم ملاءمة قوية ، وخير ملائم ملاءمة ضعيفة ، فالتفضيل باعتبار توفر السلامة من العواقب [ ص: 342 ] السيئة والفتن كالمقرون بالقناعة ، فتفضيل الخيرية جاء مجملا يظهر بالتدبر .
" وأبقى " تفضيل على ما متع به الكافرون ؛ لأن في رزق الكافرين بقاء ، وهو أيضا يظهر بقاؤه بالتدبر فيما يحف به وعواقبه .