[ ص: 186 ] قالوا إنما أنت من المسحرين وما أنت إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن الكاذبين فأسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين قال ربي أعلم بما تعملون .
نفوا رسالته عن الله كناية وتصريحا فزعموه مسحورا ، أي : مختل الإدراك والتصورات من جراء سحر سلط عليه . وذلك كناية عن بطلان أن يكون ما جاء به رسالة عن الله . وفي صيغة ( من المسحرين ) من المبالغة ما تقدم في قوله ( من المرجومين ، من المسحرين ، من المخرجين ) .
والإتيان بواو العطف في قوله ( وما أنت إلا بشر مثلنا ) يجعل كونه بشرا إبطالا ثانيا لرسالته . وترك العطف في قصة ثمود يجعل كونه بشرا حجة على أن ما يصدر منه ليس وحيا على الله بل هو من تأثير كونه مسحورا . فمآل معنيي الآيتين متحد ولكن طريق إفادته مختلف وذلك على حسب أسلوب الحكايتين .
وأطلق الظن على اليقين في ( وإن نظنك لمن الكاذبين ) وهو إطلاق شائع كقوله : الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم ، وقرينته هنا دخول اللام على المفعول الثاني ل ( ظن ) ; لأن أصلها لام قسم .
و ( إن ) مخففة من الثقيلة ، واللام في ( لمن الكاذبين ) اللام الفارقة ، وحقها أن تدخل على ما أصله الخبر فيقال هنا مثلا : وإن أنت لمن الكاذبين ، لكن العرب توسعوا في المخففة فكثيرا ما يدخلونها على الفعل الناسخ لشدة اختصاصه بالمبتدأ والخبر فيجتمع في الجملة حينئذ ناسخان مثل قوله تعالى : وإن كانت لكبيرة وكان أصل التركيب في مثله : ونظن أنك لمن الكاذبين ، فوقع تقديم وتأخير لأجل تصدير حرف التوكيد ; لأن ( إن ) وأخواتها لها صدر الكلام ما عدا ( أن ) المفتوحة . وأحسب أنهم ما يخففون ( إن ) إلا عند إرادة الجمع بينها وبين فعل من النواسخ على طريقة التنازع ، فالذي يقول : إن أظنك لخائفا ، أراد أن يقول : أظن أنك لخائف ، فقدم ( إن ) وخففها وصير خبرها مفعولا لفعل الظن ، فصار : إن أظنك لخائفا ، والكوفيون يجعلون ( إن ) في مثل هذا الموقع حرف نفي ويجعلون اللام بمعنى ( إلا ) .
[ ص: 187 ] والأمر في ( فأسقط ) أمر تعجيز .
والكسف بكسر الكاف وسكون السين في قراءة من عدا حفصا : القطعة من الشيء . وقال في الكشاف : هو جمع كسفة مثل قطع وسدر . والأول أظهر قال تعالى : وإن يروا كسفا من السماء ساقطا .
وقرأ حفص ( كسفا ) بكسر الكاف وفتح السين على أنه جمع ( كسف ) كما في قوله أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا ، وقد تقدم في سورة الإسراء .
وقولهم : إن كنت من الصادقين كقول ثمود : فأت بآية إن كنت من الصادقين إلا أن هؤلاء عينوا الآية فيحتمل أن تعيينها اقتراح منهم ، ويحتمل أن شعيبا أنذرهم بكسف يأتي فيه عذاب . وذلك هو يوم الظلة المذكور في هذه الآية ، فكان جواب شعيب بإسناد العلم إلى الله فهو العالم بما يستحقونه من العذاب ومقداره . و ( أعلم ) هنا مبالغة في العالم وليس هو بتفضيل .