وقد طوفت في الآفاق حتى رضيت من الغنيمة بالإياب
وقال الآخر :
ومطعم الغنم يوم الغنم مطعمه أنى توجه والمحروم محروم
والغنيمة والفيء هل هما مترادفان أو متباينان ، قولان ، وسيأتي ذلك عند ذكر الفيء إن شاء الله تعالى . والظاهر أن ما غنم يخمس كائنا ما كان ، فيكون خمسه لمن ذكر الله ، فأما قوله : فأن لله خمسه ، فالظاهر أن ما نسب إلى الله يصرف في الطاعات ، كالصدقة على فقراء المسلمين ، وعمارة الكعبة ونحوهما ، وقال بذلك فرقة ، وأنه كان الخمس يقسم على ستة ، فما نسب إلى الله قسم على من ذكرنا ، وقالأبو العالية : سهم الله يصرف إلى رتاج الكعبة ، وعنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ الخمس فيضرب بيده فيه فيأخذ بيده قبضة فيجعلها للكعبة ، وهو سهم الله تعالى ، ثم يقسم ما بقي على خمسة ; وقيل : سهم الله لبيت المال ، وقال ابن عباس والحسن والنخعي وقتادة قوله : ( والشافعي فأن لله خمسه ) استفتاح كلام ، كما يقول الرجل لعبده : أعتقك الله وأعتقتك على جهة التبرك وتفخيم الأمر ، والدنيا كلها لله ، وقسم الله وقسم الرسول واحد ، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقسم الخمس على خمسة أقسام ، وهذا القول هو الذي أورده احتمالا ، فقال : يحتمل أن يكون معنى : ( الزمخشري لله وللرسول ) ، كقوله تعالى : ( والله ورسوله أحق أن يرضوه ) وأن يراد بقوله : ( فأن لله خمسه ) ، أي : من حق الخمس أن يكون متقربا به إليه لا غير ، ثم خص من وجوه القرب هذه الخمسة تفضيلا لها على غيرها ، كقوله تعالى : ( وجبريل وميكال ) ، والظاهر أن للرسول عليه الصلاة والسلام سهما من الخمس . وقال فيما روى ابن عباس : ليس لله ولا للرسول شيء وسهمه لقرابته ، يقسم الخمس على أربعة أقسام ، وقالت فرقة : هو مردود على الأربعة الأخماس ، وقال الطبري علي : يلي الإمام سهم الله ورسوله ، والظاهر أنه ليس له - عليه السلام - غير سهم واحد من الغنيمة ، وقال ابن عطية : كان مخصوصا - عليه السلام - من الغنيمة بثلاثة أشياء ، كان له خمس الخمس ، وكان له سهم رجل في سائر الأربعة الأخماس ، وكان له صفي يأخذه قبل قسم الغنيمة دابة ، أو سيفا ، أو جارية ، ولا صفي بعده لأحد بالإجماع ، إلا ما قاله من أن الصفي إلى الإمام ، وهو قول معدود في شواذ الأقوال ، انتهى ، وقالت فرقة : لم يورث الرسول صلى الله عليه وسلم فسقط سهمه ; وقيل : سهمه موقوف على قرابته ، وقد بعثه إليهم أبو ثور ، وقالت فرقة : هو لقرابة القائم بالأمر بعده ، وقال عمر بن عبد العزيز الحسن وقتادة : كان للرسول صلى الله عليه وسلم في حياته ، فلما توفي جعل لولي الأمر من بعده . انتهى ، وذوو القربى معناه قربى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والظاهر عموم قرباه ، فقالت فرقة : قريش كلها بأسرها ذوو قربى ، وقال أبو حنيفة : هم والشافعي بنو هاشم وبنو المطلب استحقوه بالنصرة والمظاهرة دون بني عبد شمس وبني نوفل ، وقال علي بن الحسين وعبد الله بن الحسن : هم وابن عباس بنو هاشم فقط ، قال مجاهد : كان آل محمد لا تحل لهم الصدقة فجعل لهم خمس الخمس ، قال : ولكن أبى ذلك علينا قومنا وقالوا : ابن عباس قريش كلها قربى ، والظاهر بقاء هذا السهم لذوي القربى وأنه لغنيهم وفقيرهم ، وقال ابن [ ص: 498 ] عباس كان على ستة لله وللرسول سهمان ، وسهم لأقاربه حتى قبض فأجرى أبو بكر الخمس على ثلاثة ، ولذلك روي عن عمر ومن بعده من الخلفاء ، وروي أن أبا بكر منع بني هاشم الخمس ، وقال إنما لكم أن يعطى فقيركم ويزوج أيمكم ويخدم من لا خادم له منكم ، وإنما الغني منكم فهو بمنزلة ابن السبيل ، الغني لا يعطى من الصدقة شيئا ، ولا يتيم موسر ، وعن : ليس لنا أن نبني منه قصورا ، ولا أن نركب منه البراذين ، وقال قوم : سهم ذوي القربى لقرابة الخليفة ، والظاهر أن اليتامى والمساكين وابن السبيل عام في يتامى المسلمين ومساكينهم ، وابن السبيل منهم ; وقيل : الخمس كله للقرابة ; وقيل زيد بن علي لعلي : إن الله تعالى قال : واليتامى والمساكين ، فقال : أيتامنا ومساكيننا ، وروي عن علي بن الحسين وعبد الله بن محمد بن علي أنهما قالا : الآية كلها في قريش ومساكينها ، وظاهر العطف يقتضي التشريك فلا يحرم أحد ، قاله ، قال : وللإمام أن يفضل أهل الحاجة ، لكن لا يحرم صنفا منهم ، وقال الشافعي مالك : للإمام أن يعطي الأحوج ويحرم غيره من الأصناف ، ولم تتعرض الآية لمن يصرف أربعة الأخماس ، والظاهر أنه لا يقسم لمن لم يغنم ، فلو لحق مدد للغانمين قبل حوز الغنيمة لدار الإسلام فعند أبي حنيفة هم شركاؤهم فيها ، وقال مالك والثوري والأوزاعي والليث : لا يشاركونهم ، والظاهر أن من غنم شيئا خمس ما غنم إذا كان وحده ولم يأذن الإمام ، وبه قال والشافعي الثوري ، وقال أصحاب والشافعي أبي حنيفة : هو له خاصة ، ولا يخمس ، وعن بعضهم فيه تفصيل ، وقال إن شاء الإمام عاقبه وحرمه ، وإن شاء خمس والباقي له ، والظاهر أن قوله : غنمتم خطاب للمؤمنين فلا يسهم لكافر حضر بإذن الإمام وقاتل ، ويندرج في الخطاب العبيد المسلمون فما يخصهم لساداتهم ، وقال الأوزاعي الثوري إذا استعين بأهل الذمة يسهم لهم ، وقال والأوزاعي أشهب إذا خرج المقيد والذمي من الجيش وغنما فالغنيمة للجيش دونهم ، والظاهر أن قوله : ( أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه ) عام في كل ما يغنم من حيوان ومتاع ومعدن وأرض وغير ذلك ، فيخمس جميع ذلك ، وبه قال ، إلا الرجال البالغين ، فقال : الإمام فيهم مخير بين أن يمن ، أو يقتل ، أو يسبي ، ومن سبي منهم فسبيله سبيل الغنيمة ، وقال الشافعي مالك : إن رأى الإمام قسمة الأرض كان صوابا ، أو إن أداه الاجتهاد إلى أن لا يقسمها لم يقسمها ، والظاهر أنه لا يخرج من الغنيمة غير الخمس ، فسلب المقتول غنيمة لا يختص به القاتل إلا أن يجعل له الأمير ذلك على قتله ، وبه قال مالك وأبو حنيفة ، وقال والثوري الأوزاعي والليث والشافعي وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد والطبري وابن المنذر : السلب للقاتل ، قال ابن سريج : وأجمعوا على أن من قتل أسيرا ، أو امرأة ، أو شيخا ، أو ذفف على جريح ، أو قتل من قطعت يداه ورجله ، أو منهزما لا يمنع في انهزامه كالمكتوف ليس له سلب واحد من هؤلاء ، والخلاف هل من شرطه أن يكون القاتل مقبلا على المقتول ، وفي معركة أم ليس ذلك من شرطه ، ودلائل هذه المسائل مستوفاة في كتب الفقه ، وفي كتب مسائل الخلاف ، وفي كتب أحكام القرآن ، والظاهر أن ما موصولة بمعنى الذي ، وهي اسم أن وكتبت أن متصلة بما ، وكان القياس أن تكتب مفصولة ، كما كتبوا : ( إن ما توعدون لآت ) مفصولة وخبر أن هو قوله : ( فأن لله خمسه ) وأن لله في موضع رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : فالحكم أن لله ودخلت الفاء في هذه الجملة الواقعة خبرا لأن كما دخلت في خبر أن في قوله : ( إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ) وقال : فأن لله مبتدأ خبره محذوف ، تقديره : حق ، أو فواجب أن لله خمسه ، انتهى ، وهذا التقدير الثاني الذي هو : أو فواجب أن لله خمسه تكون أن ومعمولاها في موضع مبتدأ خبره محذوف ، وهو قوله : فواجب ، وأجاز الزمخشري الفراء أن تكون [ ص: 499 ] ( ما ) شرطية منصوبة بغنمتم ، واسم أن ضمير الشأن محذوف ، تقديره : أنه ، وحذف هذا الضمير مع ( أن ) المشددة مخصوص عند بالشعر ، وروى سيبويه الجعفي عن هارون عن أبي عمرو : فإن لله بكسر الهمزة ، وحكاها ابن عطية عن الجعفي عن أبي بكر عن عاصم ، ويقوي هذه القراءة قراءة النخعي : فلله خمسه ، وقرأ الحسن وعبد الوارث عن أبي عمرو : خمسه ، بسكون الميم ، وقرأ النخعي : خمسه ، بكسر الخاء على الإتباع ، يعني إتباع حركة الخاء لحركة ما قبلها ، كقراءة من قرأ : ( والسماء ذات الحبك ) بكسر الحاء إتباعا لحركة التاء ولم يعتد بالساكن لأنه ساكن غير حصين ، وانظر إلى حسن هذا التركيب كيف أفرد كينونة الخمس لله وفصل بين اسمه تعالى وبين المعاطيف بقوله : خمسه ، ليظهر استبداده تعالى بكينونة الخمس له ، ثم أشرك المعاطيف معه على سبيل التبعية له ، ولم يأت التركيب : فأن لله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل خمسه ، وجواب الشرط محذوف ، أي : إن كنتم آمنتم بالله فاعلموا أن الخمس من الغنيمة يجب التقرب به ، ولا يراد مجرد العلم ، بل العلم والعمل بمقتضاه ، ولذلك قدر بعضهم : إن كنتم آمنتم بالله فاقبلوا ما أمرتم به في الغنائم ، وأبعد من ذهب إلى أن الشرط متعلق معناه بقوله : ( نعم المولى ونعم النصير ) ، والتقدير : فاعلموا أن الله مولاكم وما أنزلنا معطوف على بالله ، ويوم الفرقان : يوم بدر بلا خلاف ، فرق فيه بين الحق والباطل ، والجمعان جمع المؤمنين وجمع الكافرين ، قتل فيها صناديد قريش ، نص عليه ابن عباس ومجاهد ومقسم والحسن وقتادة ، وكانت يوم الجمعة سابع عشر رمضان في السنة الثانية من الهجرة ، هذا قول الجمهور ، وقال أبو صالح لتسعة عشر يوما ، والمنزل : الآيات والملائكة والنصر ، وختم بصفة القدرة ; لأنه تعالى أدال المؤمنين على قلتهم على الكافرين على كثرتهم ذلك اليوم ، وقرأ : عبدنا ، بضمتين كقراءة من قرأ : وعبد الطاغوت ، بضمتين فعلى عبدنا هو الرسول صلى الله عليه وسلم ، وعلى عبدنا هو الرسول ومن معه من المؤمنين ، وانتصاب ( يوم الفرقان ) على أنه ظرف معمول لقوله : ( وما أنزلنا ) ، وقال زيد بن علي : ويحتمل أن ينتصب بغنمتم ، أي : أن ما غنمتم يوم الفرقان يوم التقى الجمعان فأن خمسه لكذا وكذا ، أي : كنتم آمنتم بالله ، أي : فانقادوا لذلك وسلموا ، قال الزجاج ابن عطية : وهذا تأويل حسن في المعنى ، ويعترض فيه الفصل بين الظرف وبين ما تعلق به بهذه الجملة الكثيرة من الكلام ، انتهى ، ولا يجوز ما قاله ; لأنه إن كانت ما شرطية على تخريج الزجاج الفراء لزم فيه الفصل بين فعل الشرط ومعموله بجملة الجزاء ومتعلقاتها ، وإن كانت موصولة فلا يجوز الفصل بين فعل الصلة ومعموله بخبر أن .
( إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم ) العدوة : شط الوادي ، وتسمي شفيرا وضفة ، سميت بذلك لأنها عدت ما في الوادي من ماء أن يتجاوزه ، أي : منعته . وقال الشاعر :
عدتني عن زيارتها العوادي وقالت دونها حرب زبون
وتسمى الفضاء المساير للوادي عدوة للمجاورة ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : بالعدوة بكسر العين فيهما ، وباقي السبعة بالضم والحسن وقتادة وزيد بن علي بالفتح ، وأنكر وعمرو بن عبيد أبو عمرو الضم ، وقال الأخفش لم يسمع من العرب إلا الكسر ، وقال أبو عبيد : الضم أكثرهما ، وقال اليزيدي الكسر لغة الحجاز ، انتهى ، فيحتمل أن تكون الثلاث لغى ، ويحتمل أن يكون الفتح مصدرا سمي به ، وروي بالكسر والضم بيت أوس :
وفارس لم يحل اليوم عدوته ولوا سراعا وما هموا بإقبال
[ ص: 500 ] وقرئ بالعدية بقلب الواو ياء لكسرة العين ، ولم يعتدوا بالساكن لأنه حاجز غير حصين ، كما فعلوا ذلك في صبية وقنية ودنيا من قولهم : هو ابن عمي دنيا ، والأصل في هذا التصحيح كالصفوة والذروة والربوة ، وفي حرف : بالعدوة العليا وهم بالعدوة السفلى ، ووادي ابن مسعود بدر آخذين الشرق والقبلة منحرف إلى البحر الذي هو قريب من ذلك الصقع ، والمدينة من الوادي من موضع الوقعة منه في الشرق وبينهما مرحلتان ، وقرأ القصيا ، وقد ذكرنا أنه القياس ، وذلك لغة زيد بن علي تميم ، والأحسن أن يكون : وهم والركب معطوفان على أنتم ، فهي مبتدآت تقسيم لحالهم وحال أعدائهم ، ويحتمل أن تكون الواوان فيهما واوي الحال ، وأسفل ظرف في موضع الخبر ، وقرأ : أسفل ، بالرفع ، اتسع في الظرف فجعله نفس المبتدأ مجازا ، والركب هم الأربعون الذين كانوا يقودون العير ، عير زيد بن علي أبي سفيان ; وقيل : الإبل التي كانت تحمل أزواد الكفار وأمتعتهم ، كانت في موضع يأمنون عليها ، قال : ( فإن قلت ) : ما فائدة هذا التوقيت وذكر مراكز الفريقين وأن العير كانت أسفل منهم ؟ ( قلت ) : الفائدة فيه الإخبار عن الحالة الدالة على قوة شأن العدو وشوكته وتكامل عدته ، وتمهد أسباب الغلبة له ، وضعف شأن المسلمين وشتات أمرهم ، وأن غلبتهم في مثل هذه الحال ليست إلا صنعا من الله تعالى ، ودليل على أن ذلك أمر لم يتيسر إلا بحوله تعالى وقوته وباهر قدرته ، وذلك أن العدوة القصوى التي أناخ بها المشركون كان فيها الماء وكانت أرضا لا بأس بها ، ولا ماء بالعدوة الدنيا ، وهي خبار تسوخ فيها الأرجل ، ولا يمشى فيها إلا بتعب ومشقة ، وكانت العير وراء ظهور العدو مع كثرة عددهم ، وكانت الحماية دونها تضاعف حميتهم وتشحذ في المقاتلة عنها نياتهم ، ولهذا كانت العرب تخرج إلى الحرب بظعنهم وأموالهم ; ليبعثهم الذب عن الحرم والغيرة على الحرم على بذل تجهيداتهم في القتال أن لا يتركوا وراءهم ما يحدثون أنفسهم بالانحياز إليه ، فيجمع ذلك قلوبهم ، ويضبط هممهم ويوطن نفوسهم على أن لا يبرحوا مواطئهم ، ولا يخلوا مراكزهم ، ويبذلوا منتهى نجدتهم وقصارى شدتهم ، وفيه تصوير ما دبر سبحانه من أمر وقعة الزمخشري بدر ، انتهى ، وهو كلام حسن . وقال ابن عطية : كان الركب ومدبر أمره أبو سفيان قد نكب عن بدر حين ندر بالنبي صلى الله عليه وسلم وأخذ سيف البحر ، فهو أسفل بالإضافة إلى أعلى الوادي من حيث يأتي .
( ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا ) كان الالتقاء على غير ميعاد . قال مجاهد : أقبل أبو سفيان وأصحابه من الشام تجارا لم يشعروا بأصحاب بدر ، ولم يشعر أصحاب محمد بكفار قريش ، ولا كفار قريش بمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، حتى التقوا على ماء بدر للسقي كلهم فاقتتلوا ، فغلبهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فأسروهم ، قال وغيره : المعنى لو تواعدتم على الاجتماع ثم علمتم كثرتهم وقلتكم لخالفتم ولم تجتمعوا معهم ، وقال معناه الطبري ، قال : ولو تواعدتم أنتم وأهل الزمخشري مكة وتواضعتم بينكم على موعد تلتقون فيه للقتال لخاف بعضكم بعضا ، فثبطكم قلتكم وكثرتهم عن الوفاء بالموعد ، وثبطهم ما في قلوبهم من تهيب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين فلم يتفق لكم من التلاقي ما وفقه الله وسببه له ، وقال المهدوي : المعنى لاختلفتم بالقواطع والعوارض القاطعة بالناس ، قال ابن عطية : وهذا أنبل - يعني من قول - وأصح ، وإيضاحه أن المقصد من الآية تبيين نعمة الله وقدرته في قصة الطبري بدر وتيسيره ما تيسر من ذلك ، فالمعنى : إذ هيأ الله لكم هذه الحال ، ولو تواعدتم لها لاختلفتم إلا مع تيسير الله الذي تمم ذلك ، وهذا كما تقول لصاحبك في أمر شاءه الله دون تعب كثير : لو [ ص: 501 ] ثبتنا على هذا وسعينا فيه لم يتم هكذا ، انتهى ، وقال الكرماني ، ولو تواعدتم أنتم والمشركون للقتال لاختلفتم في الميعاد ، أي : كانوا لا يصدقون مواعدتكم طلبا لغرتكم والحيلة عليكم ; وقيل : المعنى ولو تواعدتم من غير قضاء الله أمر الحرب لاختلفتم في الميعاد ; لأنه تعالى إذا لم يقدر أمرا لم يقع ، انتهى : ( ولكن ليقضي الله ) ولكن تلاقيتم على غير ميعاد ليقضي الله أمرا من نصر دينه وإعزاز كلمته وكسر الكفار وإذلالهم ، كان مفعولا ، أي : موجودا متحققا واقعا ، وعبر بقوله : مفعولا لتحقق كونه ، قال ابن عطية : ليقضي أمرا قد قدره في الأزل مفعولا لكم بشرط وجودكم في وقت وجودكم ، وذلك كله معلوم عنده ، وقال : ليقضي الله متعلق بمحذوف ، أي : ليقضي الله أمرا كان واجبا أن يفعل ، وهو نصر أوليائه وقهر أعدائه دبر ذلك ; وقيل : كان بمعنى صار ، ليهلك بدل من ليقضي فيتعلق بمثل ما تعلق به ليقضي ; وقيل : يتعلق بقوله : مفعولا ; وقيل : الأصل وليهلك ، فحذف حرف العطف ، والظاهر أن المعنى : ليقتل من قتل من كفار الزمخشري قريش وغيرهم عن بيان من الله وإعذار بالرسالة ، ويعيش من عاش عن بيان منه وإعذار لا حجة لأحد عليه ، وقال وغيره : ليكفر ويؤمن ، فالمعنى أن الله تعالى جعل قصة بدر عبرة وآية ليؤمن من آمن عن وضوح وبيان ويكفر من كفر عن مثل ذلك ، وقرأ ابن إسحاق الأعمش وعصمة عن أبي بكر عن عاصم : ( ليهلك ) بفتح اللام ، وقرأ نافع والبزي وأبو بكر : ( من حيي ) - بالفك - وباقي السبعة بالإدغام ، وقال المتلمس :
فهذا أوان العرض حي ذبابه
والفك والإدغام لغتان مشهورتان ، وختم بهاتين الصفتين ; لأن الكفر والإيمان يستلزمان النطق اللساني والاعتقاد الجناني ، فهو سميع لأقوالكم عليم بنياتكم .( ولكن الله سلم إنه عليم بذات الصدور إذ يريكهم الله في منامك قليلا ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ) الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ، وتظاهرت الروايات أنها رؤيا منام رأى الرسول صلى الله عليه وسلم فيها الكفار قليلا فأخبر بها أصحابه فقويت نفوسهم وشجعت على أعدائهم ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه حين انتبه : " أبشروا لقد نظرت إلى مصارع القوم " ، والمراد بالقلة هنا قلة القدر واليأس والنجدة وأنهم مهزومون مصروعون ، ولا يحمل على قلة العدد ; لأنه رؤياه حق ، وقد كان علم أنهم ما بين تسعمائة إلى ألف ، فلا يمكن حمل ذلك على قلة العدد ، وروي عن الحسن أن معنى : في منامك : في عينك ; لأنها مكان النوم ، كما قيل للقطيفة المنامة ; لأنه ينام فيها فتكون الرؤية في اليقظة ، وعلى هذا فسر النقاش ، وذكره عن المازني ، وما روي عن الحسن ضعيف ، قال : وهذا تفسير فيه تعسف ، وما أحسب الرواية فيه صحيحة عن الحسن ، وما يلائم علمه بكلام العرب وفصاحته ، والمعنى : ولو أراكهم في منامك كثيرا لفشلتم ، أي : لخرتم وجبنتم عن اللقاء ولتنازعتم في الأمر ، أي : تفرقت آراؤكم في أمر القتال ، فكان يكون ذلك سببا ; لانهزامكم وعدم إقدامكم على قتال أعدائكم ; لأنه لو رآهم كثيرا أخبركم برؤياه ففشلتم ، ولما كان الرسول - عليه السلام - محميا من الفشل معصوما من النقائص أسند الفشل إلى من يمكن ذلك في حقه ، فقال تعالى : ( لفشلتم ) ، وهذا من محاسن القرآن ، ولكن الله سلم من الفشل والتنازع والاختلاف بإرايته له الكفار قليلا ، فأخبرهم بذلك فقويت به نفوسهم ، ( إنه عليم بذات الصدور ) يعلم ما سيكون فيها [ ص: 502 ] من الجرأة والجبن والصبر والجزع ، وإذ بدل من إذ وانتصب قليلا . قال الزمخشري : على الحال ، وما قاله ظاهر ; لأن أرى منقولة بالهمزة من رأى البصرية فتعدت إلى اثنين الأول كاف خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم ، والثاني ضمير الكفار ، فقليلا وكثيرا منصوبان على الحال ، وزعم بعض النحويين أن أرى الحلمية تتعدى إلى ثلاثة كأعلم ، وجعل من ذلك قوله تعالى : ( الزمخشري إذ يريكهم الله في منامك قليلا ) فانتصاب قليلا عنده على أنه مفعول ثالث ، وجواز حذف هذا المنصوب اقتصارا يبطل هذا المذهب . تقول : رأيت زيدا في النوم ، وأراني الله زيدا في النوم .
( وإلى الله ترجع الأمور وإذا يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا ) هذه الرؤية هي يقظة لا منام ، وقلل الكفار في أعين المؤمنين تحقيرا لهم ولئلا يجبنوا عن لقائهم . قال : لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جنبي : أتراهم سبعين ؟ قال : أراهم مائة ، وهذا من ابن مسعود عبد الله لكونه لم يسمع ما أعلم به الرسول صلى الله عليه وسلم من عددهم ، وقلل المؤمنون في أعين الكفار حتى قال قائل منهم : إنما هم أكلة جزور ، وذلك قبل الالتقاء ، وذلك ليجترئوا على المؤمنين فتقع الحرب ويلتحم القتال ; إذ لو كثروا قبل اللقاء لأحجموا وتحيلوا في الخلاص ، أو استعدوا واستنصروا ، ولما التحم القتال كثر الله المؤمنين في أعين الكفار فبهتوا وهابوا وفلت شوكتهم ورأوا ما لم يكن في حسابهم ، كما قال : ( يرونهم مثليهم رأي العين ) وعظم الاحتجاج عليهم استيضاح الآية البينة من قلتهم أولا وكثرتهم آخرا ، ورؤية كل من الطائفتين يكون بأن ستر الله بعضها عن بعض ، أو بأن أحدث في أعينهم ما يستقلون به الكثير ، هذا إذا كانت الرؤية حقيقة ، وأما إذا كانت بمعنى التخمين والحذر الذي يستعمله الناس فيمكن ذلك ، وعلى التقديرين لا يندرج الرسول في خطاب : ( وإذ يريكموهم ) ; لأنه لا يجوز على أن يرى الكثير قليلا لا حقيقة ولا تخمينا على أنه يحتمل أن يكون من باب تقليل القدر والمهابة والنجدة ، لا من باب تقليل العدد ، ألا ترى قولهم : المرء كثير بأخيه ؟ وإلى قول الشاعر :
أروح وأغتدي سفها أكثر من أقل به
فهذا من باب التقليل والتكثير في المنزلة والقدر ، لا من باب تقليل العدد ، ليقضي : أي فعل ذلك ليقضي ، والمفعول في الآيتين هو القصة بأسرها ; وقيل : هما لمعنيين من معاني القصة ، أريد بالأول الوعد بالنصرة يوم بدر ، وبالثاني الاستمرار عليها ، وتقدم تفسير : ( وإلى الله ترجع الأمور ) واختلاف القراء في ( ترجع ) في سورة البقرة .
( يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون ) ، أي : فئة كافرة ، حذف الوصف لأن المؤمنين ما كانوا يلقون إلا الكفار ، واللقاء اسم للقتال غالب ، وأمرهم تعالى بالثبات وهو مقيد بآية الضعف ، وفي الحديث : " " . وأمرهم بذكره تعالى كثيرا في هذا الموطن العظيم من [ ص: 503 ] مصابرة العدو والتلاحم بالرماح وبالسيوف ، وهي حالة يقع فيها الذهول عن كل شيء فأمروا بذكر الله ; إذ هو تعالى الذي يفزع إليه عند الشدائد ويستأنس بذكره ويستنصر بدعائه ، ومن كان كثير التعلق بالله ذكره في كل موطن حتى في المواضع التي يذهل فيها عن كل شيء ويغيب فيها الحس : ( لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية ، فإذا لقيتموهم فاثبتوا ألا بذكر الله تطمئن القلوب ) وحكى لي بعض الشجعان أنه حالة التحام القتال تأخذ الشجاع هزة وتعتريه ، مثل السكر لهول الملتقى ، فأمر المؤمنين بذكر الله في هذه الحالة العظيمة ، وقد نظم الشعراء هذا المعنى فذكروا أنهم في أشق الأوقات عليهم وأشدها لم ينسوا محبوبهم وأكثروا في ذلك ، فقال بعضهم :
ذكرت سليمى وحر الوغى كقلبي ساعة فارقتها
وأبصرت بين القنا قدها وقد ملن نحوي فعانقتها
قال قتادة : افترض الله ذكره أشغل ما يكون العبد عند الضراب والسيوف ، وقال : فيه إشعار بأن على العبد أن لا يفتر عن ذكر الله أشغل ما يكون قلبا وأكثر ما يكون هما ، وأن يكون نفسه مجتمعة لذلك وإن كانت متوزعة عن غيره ، وذكر أن الثبات وذكر الله سببا الفلاح ، وهو الظفر بالعدو في الدنيا والفوز في الآخرة بالثواب ، والظاهر أن الذكر المأمور به هو باللسان ، فأمر بالثبات بالجنان وبالذكر باللسان ، والظاهر أن لا يعين ذكر ; وقيل : هو قول المجاهدين : الله أكبر الله أكبر عند لقاء الكفار ; وقيل : الدعاء عليهم : اللهم اخذلهم ، اللهم دمرهم ، وشبهه ; وقيل : دعاء المؤمنين ; لأنفسهم بالنصر والظفر والتثبيت ، كما فعل قوم طالوت فقالوا : ( الزمخشري ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين ) وقيل : هم لا ينصرون ، وكان هذا شعار المؤمنين عند اللقاء ، وقال : لو رخص ترك الذكر لرخص في الحرب ولذكرنا حيث أمر بالصمت ، ثم قيل له : ( محمد بن كعب واذكر ربك كثيرا ) ، وحكم هذا الذكر أن يكون خفيا ، إلا إن كان من الجميع وقت الحملة فحسن رفع الصوت به ; لأنه يفت في أعضاد الكفار ، وفي سنن أبي داود : ، وقال كان أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم يكرهون الصوت عند القتال وعند الجنازة : يكره التلثم عند القتال . ابن عباس
( وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين ) ، أمرهم تعالى بالطاعة لله ولرسوله ، ونهاهم عن التنازع وهو تجاذب الآراء وافتراقها ، والأظهر أن يكون فتفشلوا جوابا للنهي ، فهو منصوب ، ولذلك عطف عليه منصوب ; لأنه يتسبب عن التنازع الفشل ، وهو الخور والجبن عن لقاء العدو ، وذهاب الدولة باستيلاء العدو ، ويجوز أن يكون فتفشلوا مجزوما عطفا على ولا تنازعوا ، وذلك في قراءة عيسى بن عمر : ويذهب ، بالياء وجزم الباء ، وقرأ أبو حيوة وأبان وعصمة عن عاصم : ويذهب ، بالياء ونصب الباء ، وقرأ الحسن وإبراهيم : ( فتفشلوا ) ، بكسر الشين ، قال أبو حاتم : وهذا غير معروف ، وقال غيره : هي لغة . قال مجاهد : الريح : النصرة والقوة ، وذهبت ريح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ناغوه بأحد ، وقال : والريح الدولة ، شبهت لنفوذ أمرها ، وتشبيه بالريح وهبوبها ، فقيل : هبت رياح فلان ، إذا دالت له الدولة ونفذ أمره . ومنه قوله : الزمخشري
أتنظران قليلا ريث غفلتهم أم تعدوان فإن الريح للعادي
انتهى ، وهو قول أبي عبيدة : إن الريح هي الدولة ، ومن استعارة الريح قول الآخر :
إذا هبت رياحك فاغتنمها فإن لكل عاصفة سكونا
ورواه أبو عبيدة : ركودا . وقال شاعر الأنصار :
[ ص: 504 ]
قد عودتهم صباهم أن يكون لهم ريح القتال وأسلاب الذين لقوا
وقال : ويذهب ريحكم معناه الرعب من قلوب عدوكم ، ومنه قيل للخائف : انتفخ سحره . قال زيد بن علي ابن عطية : وهذا حسن بشرط أن يعلم العدو بالتنازع ، فإذا لم يعلم فالذاهب قوة المتنازعين فينهزمون ، انتهى ، وقال ابن زيد وغيره الريح على بابها ، وروي في ذلك أن النصر لم يكن قط إلا بريح تهب فتضرب في وجوه الكفار ، واستند بعضهم في هذه المقالة إلى قوله : نصرت بالصبا ، وقال الحكم : وتذهب ريحكم ، يعني الصبا ; إذ بها نصر محمد صلى الله عليه وسلم وأمته ، وقال مقاتل : ريحكم حدتكم ، وقال عطاء : جلدكم ، وحكى التبريزي : هيبتكم ، ومنه قول الشاعر :
كما حميناك يوم النعف من شطط والفضل للقوم من ريح ومن عدد
( ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط ) نزلت في أبي جهل وأصحابه خرجوا لنصرة العير بالقينات والمعازف ، ووردوا الجحفة فبعث خفاف الكناني - وكان صديقا له - بهدايا مع ابنه ، وقال : إن شئت أمددناك بالرجال ، وإن شئت بنفسي مع من خف من قومي ، فقالأبو جهل : إن كنا نقاتل الله ، كما يزعم محمد فوالله ما لنا بالله طاقة ، وإن كنا نقاتل الناس فوالله إن بنا على الناس لقوة ، والله لا نرجع عن قتالمحمد حتى نرد بدرا فنشرب فيها الخمور وتعزف علينا القينات ، فإن بدرا مركز من مراكز العرب وسوق من أسواقهم ، حتى تسمع العرب مخرجنا فتهابنا آخر الأبد ، فوردوا بدرا فسقوا كؤوس المنايا مكان الخمر ، وناحت عليهم النوائح مكان القينات ، فنهى الله المؤمنين أن يكون مثل هؤلاء بطرين طربين مرائين بأعمالهم صادين عن سبيل الله ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم إن قريشا أقبلت بفخرها وخيلائها تجادل وتكذب رسولك ، اللهم فأحنها الغداة ، وفي قوله : ( والله بما يعملون محيط ) وعيد وتهديد لمن بقي من الكفار .