وأما بقاء الحكم للأصناف الثمانية فذهب ، عمر بن الخطاب والحسن ، ، وجماعة : إلى أنه انقطع صنف المؤلفة بعزة الإسلام وظهوره ، وهذا مشهور مذهب والشعبي مالك ، وأبي حنيفة ، قال بعض الحنفيين : أجمعت الصحابة على سقوط سهمهم في خلافة أبي بكر لما أعز الله الإسلام وقطع دابر الكافرين . وقال القاضي عبد الوهاب : إن احتيج إليهم في بعض الأوقات أعطوا من الصدقات . وقال كثير من أهل العلم : المؤلفة قلوبهم موجودون إلى يوم القيامة . قال ابن عطية : وإذا تأملت الثغور وجدت فيها الحاجة إلى الائتلاف . انتهى . وقال يونس : سألت عنهم فقال : لا أعلم نسخا في ذلك . قال الزهري : فعلى هذا الحكم فيهم ثابت ، فإن كان أحد يحتاج إلى تألفه ويخاف أن تلحق المسلمين منه آفة أو يرجى حسن إسلامه بعد دفع إليه . وقال القاضي أبو جعفر النحاس : الذي عندي أنه إن قوي الإسلام زالوا ، وإن احتيج إليهم أعطوا سهمهم ، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيهم . فإن في الصحيح : أبو بكر بن العربي . وفي كتاب التحرير قال " بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ " : العامل والمؤلفة قلوبهم مفقودان في هذا الزمان . بقيت الأصناف الستة ، فالأولى صرفها إلى الستة . وأما أنه يعتبر في كل صنف منها ما دل عليه لفظه إن كان موجودا فهو مذهب الشافعي ، ذهب إلى أنه لا بد في كل صنف من ثلاثة ; لأن أقل الجمع ثلاثة ، فإن دفع سهم الفقراء إلى فقيرين ضمن نصيب الثالث وهو ثلث سهم . وقال أصحاب الشافعي أبي حنيفة : يجوز أن يعطي جميع زكاته مسكينا واحدا . وقال مالك : لا بأس أن يعطي الرجل زكاة الفطر عن نفسه وعياله واحدا ، واللام في للفقراء ، قيل : للملك ، وقيل : للاختصاص .
والظاهر عموم الفقراء والمساكين ، فيدخل فيه الأقارب والأجانب وكل من اتصف بالفقر والمسكنة . فأما ذوو قربى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال أصحاب أبي حنيفة : تحرم عليهم [ ص: 59 ] الصدقة ؛ منهم آل العباس ، وآل علي ، وآل جعفر ، وآل عقيل ، وآل الحرث بن عبد المطلب . وروي عن أبي حنيفة وليس بالمشهور أن فقراء بني هاشم يدخلون في آية الصدقة . وقال أبو يوسف : لا يدخلون . قال أبو بكر الرازي : المشهور عن أصحابنا أنهم من تقدم من آل العباس ومن ذكر معهم ، ويخص التحريم الفرض لا صدقة التطوع . وقال مالك : لا تحل الزكاة لآل محمد ، ويحل التطوع . وقال : لا تحل الثوري لبني هاشم ، ولم يذكر فرقا بين النفل والفرض . وقال : تحرم صدقة الفرض على الشافعي بني هاشم وبني المطلب ، وتجوز صدقة التطوع على كل أحد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه كان لا يأخذها . وقال ، ابن الماجشون ومطرف ، وأصبغ ، وابن حبيب : لا يعطى بنو هاشم من الصدقة المفروضة ، ولا من التطوع . وقال مالك في الواضحة : لا يعطى آل محمد من التطوع .
وأما أقارب المزكي فقال أصحاب أبي حنيفة : لا يعطى منها والد وإن علا ، ولا ابن وإن سفل ، ولا زوجة . وقال مالك ، ، والثوري ، والحسن بن صالح والليث : لا يعطي من تلزمه نفقته . وقال ابن شبرمة : لا يعطي قرابته الذين يرثونه ، وإنما يعطي من لا يرثه وليس في عياله . وقال : لا يتخطى بزكاة ماله فقراء أقاربه إذا لم يكونوا من عياله ، ويتصدق على مواليه من غير زكاة ماله . وقال الأوزاعي مالك ، ، والثوري ، وابن شبرمة ، وأصحاب والشافعي أبي حنيفة : لا يعطى الفرض من الزكاة . وقال عبيد الله بن الحسن : إذا لم يجد مسلما أعطى الذمي ، فكأنه يعني الذمي الذي هو بين ظهرانيهم . وقال مالك وأبو حنيفة : لا تعطي الزوجة زوجها من الزكاة . وقال الثوري والشافعي وأبو يوسف ومحمد : تعطيه ، واختلفوا في المقدار الذي إذا ملكه الإنسان دخل به في حد الغنى وخرج عن حد الفقر وحرمت عليه الصدقة . فقال قوم : إذا كان عند أهله ما يغديهم ويعشيهم حرمت عليه الصدقة ، ومن كان عنده دون ذلك حلت له . وقال قوم : حتى يملك أربعين درهما ، أو عدلها من الذهب . وقال قوم : حتى تملك خمسين درهما أو عدلها من الذهب ، وهذا مروي عن علي ، وعبد الله ، . قال والشعبي مالك : حتى تملك مائتي درهم أو عدلها من عرض أو غيره فاضلا عما يحتاج إليه من مسكن وخادم وأثاث وفرش ، وهو قول أصحاب أبي حنيفة . فلو دفعها إلى من ظن أنه فقير فتبين أنه غني ، أو تبين أن المدفوع إليه أبوه أو ذمي ، ولم يعلم بذلك وقت الدفع فقال أبو حنيفة ومحمد : يجزئه . وقال أبو يوسف : لا يجزئه .
والعامل هو الذي يستنيبه الإمام في السعي في جميع الصدقات ، وكل من يصرف ممن لا يستغنى عنه فيها فهو من العاملين ، ويسمى جابي الصدقة والساعي ، قال :
إن السعاة عصوك حين بعثتهم لم يفعلوا مما أمرت فتيلا
وقال :
سعى عقالا فلم يترك لنا سيدا فكيف لو قد سعى عمرو عقالين
أراد بالعقال هنا زكاة السنة ، وتعدى بعلى ولم يقل فيها ; لأن على للاستعلاء المشعر بالولاية . والجمهور على أن للعامل قدر سعيه ، ومؤنته من مال الصدقة . وبه قال مالك في كتاب والشافعي ابن المنذر ، وأبو حنيفة وأصحابه . فلو تجاوز ذلك من الصدقة ، فقيل : يتم له من سائر الأنصباء . وقيل : من خمس الغنيمة . وقال مجاهد ، والضحاك ، : هو الثمن على قسم القرآن . وقال والشافعي مالك من رواية ، ابن أبي أويس وداود بن سعيد عنه : يعطون من بيت المال .
واختلف في الإمام ، هل له حق في الصدقات ؟ فمنهم من قال : هو العامل في الحقيقة ، ومنهم من قال : لا حق له فيها . والجمهور على أن أخذها مفوض للإمام ومن استنابه ، فلو فرقها المزكي بنفسه دون إذن الإمام أخذها منه ثانيا . وقال أبو حنيفة : لا يجوز أن يعمل على الصدقة أحد من بني هاشم ويأخذ عمالته منها ، فإن تبرع فلا خلاف بين أهل [ ص: 60 ] العلم في جوازه . وقال آخرون : لا بأس لهم بالعمالة من الصدقة . وقيل : إن عمل أعطيها من الخمس .
والمؤلفة قلوبهم أشراف العرب ، مسلمون لم يتمكن الإيمان من قلوبهم ، أعطاهم ليتمكن الإيمان من قلوبهم ، أو كفار لهم أتباع أعطاهم ليتألفهم وأتباعهم على الإسلام . قال : المؤلفة من أسلم من يهودي أو نصراني وإن كان غنيا ، فمن المؤلفة : الزهري ، أبو سفيان بن حرب ، وسهيل بن عمرو والحرث بن هشام ، ، وحويطب بن عبد العزى ، وصفوان بن أمية ومالك بن عوف النضري ، والعلاء بن حارثة الثقفي ، فهؤلاء أعطاهم الرسول صلى الله عليه وسلم مائة بعير مائة بعير . ، ومخرمة بن نوفل الزهري وعمير بن وهب الجمحي ، وهشام بن عمرو العابدي ، أعطاهم دون المائة . ومن المؤلفة : ، سعيد بن يربوع والعباس بن مرداس ، وزيد الخيل ، وعلقمة بن علاثة ، وأبو سفيان الحرث بن عبد المطلب ، ، وحكيم بن حزام ، وعكرمة بن أبي جهل وسعيد بن عمرو ، وعيينة بن حصن . وحسن إسلام المؤلفة حاشا عيينة فلم يزل مغموصا عليه .
وأما قوله ( وفي الرقاب ) فالتقدير : وفي فك الرقاب فيعطي ما حصل به فك الرقاب من ابتداء عتق يشتري منه العبد فيعتق ، أو تخليص مكاتب أو أسير . وقال النخعي ، ، والشعبي ، وابن جبير : لا يجزئ أن يعتق من الزكاة رقبة كاملة ، وهو قول أصحاب وابن سيرين أبي حنيفة ، والليث ، . وقال والشافعي ، ابن عباس : أعتق من زكاتك . وقال وابن عمر ، ابن عمر والحسن ، وأحمد ، وإسحاق : يعتق من الزكاة ، وولاؤه لجماعة المسلمين لا للمعتق . وعن مالك ، : لا يعطى المكاتب من الزكاة شيئا ، ولا عبد كان مولاه موسرا أو معسرا . وعن والأوزاعي ، ابن عباس والحسن ، ومالك : هو ابتداء العتق وعون المكاتب بما يأتي على حريته . والجمهور على أن المكاتبين يعانون في فك رقابهم من الزكاة . ومذهب أبي حنيفة وابن حبيب : أن فك رقاب الأسارى يدخل في قوله : ( وفي الرقاب ) ، فيصرف في فكاكها من الزكاة . وقال : سهم الرقاب نصفان : نصف للمكاتبين ، ونصف يعتق منه رقاب مسلمون ممن صلى . الزهري
والغارم : من عليه دين ، قاله ، وزاد ابن عباس مجاهد ، وقتادة : في غير معصية ولا إسراف . والجمهور على أنه يقضي منها دين الميت إذ هو غارم . وقال أبو حنيفة : لا يقضى منها . وقال وابن المواز أبو حنيفة : ولا يقضى منها كفارة ونحوها من صنوف الله تعالى ، وإنما الغارم من عليه دين يحبس فيه . وقيل : يدخل في الغارمين من تحمل حمالات في إصلاح وبر وإن كان غنيا إذا كان ذلك يجحف بماله ، وهو قول ، وأصحابه ، الشافعي وأحمد .
( وفي سبيل الله ) هو المجاهد يعطى منها إذا كان فقيرا . والجمهور على أنه يعطى منها وإن كان غنيا ما ينفق في غزوته . وقال ، الشافعي وأحمد ، ، وجماعة : لا يعطى الغني إلا إن احتاج في غزوته ، وغاب عنه وفره . قال وعيسى بن دينار أبو حنيفة ، وصاحباه : لا يعطى إلا إذا كان فقيرا أو منقطعا به ، وإذا أعطي ملك ، وإن لم يصرفه في غزوته . وقال : ويجعل من الصدقة في الكراع والسلاح وما يحتاج إليه من آلات الحرب وكف العدو عن الحوزة ; لأنه كله من سبيل الغزو ومنفعته . والجمهور على أنه يجوز الصرف منها إلى الحجاج والمعتمرين وإن كانوا أغنياء . وقال ابن عبد الحكم : وفي سبيل الله فقراء الغزاة والحجيج المنقطع بهم انتهى . والذي يقتضيه تعداد هذه الأوصاف أنها لا تتداخل ، واشتراط الفقر في بعضها يقضي بالتداخل . فإن كان الغازي أو الحاج شرط إعطائه الفقر ، فلا حاجة لذكره ; لأنه مندرج في عموم الفقراء ، بل كل من كان بوصف من هذه الأوصاف جاز الصرف إليه على أي حال كان من فقر أو غنى ; لأنه قام به الوصف الذي اقتضى الصرف إليه . قال ابن عطية : ولا يعطى منها في بناء مسجد ، ولا قنطرة ، ولا شراء مصحف انتهى . وابن السبيل : قال الزمخشري : هو عابر السبيل . وقال ابن عباس قتادة في آخرين : هو الضيف . وقال جماعة : [ ص: 61 ] هو المسافر المنقطع به وإن كان له مال في بلده . وقالت جماعة : هو الحاج المنقطع . وقال الزجاج : هو الذي قطع عليه الطريق . وفي كتاب قال سحنون مالك : إذا وجد المسافر المنقطع به من يسلفه لم يجز له أن يأخذ من الصدقة ، والظاهر الصرف إليه . وإن كان له ما يغنيه في طريقه ; لأنه ابن سبيل ، والمشهور أنه إذا كان بهذا الوصف لا يعطى . قال : ( فإن قلت ) : لم عدل عن اللام إلى ( في ) في الأربعة الأخيرة ؟ ( قلت ) : للإيذان بأنهم أرسخ في استحقاق التصدق عليهم ممن سبق ذكره ; لأن ( في ) للوعاء ، فنبه على أنهم أحقاء بأن توضع فيهم الصدقات ويجعلوا مظنة لها ومصبا ، وذلك لما في فك الرقاب من الكتابة أوالرق أو الأسر ، وفي فك الغارمين من الغرم من التخليص والإنقاذ ، ولجمع الغازي الفقير أو المنقطع في الحج بين الفقر والعبادة ، وكذلك ابن السبيل جامع بين الفقر والغربة عن الأهل والمال . وتكرير ( في ) في قوله تعالى : ( الزمخشري وفي سبيل الله وابن السبيل ) ، فيه فضل ترجيح لهذين على الرقاب والغارمين . ( فإن قلت ) : فكيف وقعت هذه الآية في تضاعيف ذكر المنافقين ومكائدهم ؟ ( قلت ) : دل بكون هذه الأوصاف مصارف الصدقات خاصة دون غيرهم على أنهم ليسوا منهم حسما لإطعامهم وإشعارا باستيجابهم الحرمان ، وأنهم بعداء عنها وعن مصارفها ، فما لهم ولها ، وما سلطهم على الكلام لها ولمن قاسمها ، وانتصب ( فريضة ) ; لأنه في معنى المصدر المؤكد ; لأن قوله تعالى : ( إنما الصدقات للفقراء ) ، معناه فرض من الله الصدقات لهم . وقرئ فريضة بالرفع على : تلك فريضة انتهى . وقال الكرماني ، وأبو البقاء : ( فريضة ) حال من الضمير في ( للفقراء ) ; أي مفروضة . قال الكرماني : كما تقول : هي لك طلقا انتهى . وذكر عن سيبويه أنها مصدر ، والتقدير : فرض الله الصدقات فريضة . وقال الفراء : هي منصوبة على القطع . ( والله عليم حكيم ) ; لأن ما صدر عنه هو عن علم منه بخلقه وحكمة منه في القسمة ، أو عليم بمقادير المصالح ، حكيم لا يشرع إلا ما هو الأصلح .