حذر أمورا لا تضر وآمن ما ليس ينجيه من الأقدار
وقال تعالى : ( ويحذركم الله نفسه ) لما كان قبل التضعيف متعديا إلى واحد ، عداه بالتضعيف إلى اثنين . وقال : حذر إنما هي من هيئات الأنفس التي لا تتعدى مثل فزع ، والتقدير : يحذر المنافقون من أن تنزل ، ولا يلزم ذلك ، ألا ترى أن ( خاف ) من هيئات النفس وتتعدى ؟ والظاهر أن قوله ( عليهم ) و ( تنبئهم الضميران فيهما عائدان على المنافقين ، وجاء عليهم لأن السورة إذا نزلت في معناهم فهي نازلة عليهم ، قاله المبرد الكرماني ، . قال والزمخشري الكرماني : ويحتمل أنه من قولك : هذا عليك لا لك .
ومعنى ( تنبئهم بما في قلوبهم ) : تذيع أسرارهم حتى يسمعوها مذاعة منتشرة ، فكأنها تخبرهم بها . وقال : والضمير في ( عليهم ) و ( تنبئهم ) للمؤمنين ، و ( في قلوبهم ) للمنافقين ، وصح ذلك لأن المعنى يعود إليه . انتهى . والأمر بالاستهزاء أمر تهديد ووعيد كقوله : ( الزمخشري اعملوا ما شئتم ) ومعنى ( مخرج ما تحذرون ) مبرز إلى حيز الوجود ما تحذرونه من إنزال السورة ، أو مظهر ما كنتم تحذرونه من إظهار نفاقكم . وفعل ذلك تعالى في هذه السورة ، فهي تسمى الفاضحة ؛ لأنها فضحت المنافقين . قيل : كانوا سبعين رجلا أنزل الله أسماءهم وأسماء آبائهم في القرآن ، ثم رفع ذلك ونسخ رحمة ورأفة منه على خلقه ، لأن أبناءهم كانوا مسلمين .
( قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب ) ؛ أي : ولئن سألتهم عما قالوا من القبيح في حقك وحق أصحابك من قول بعضهم : انظروا إلى هذا الرجل يريد أن يفتتح قصور الشام ، وقول بعضهم : كأنكم غدا في الجبال أسرى لبني الأصفر ، وقول بعضهم : ما رأيت كهؤلاء لا أرغب بطونا ولا أكثر كذبا ولا أجبن عند اللقاء ، فأطلع الله نبيه على ذلك فعنفهم ، فقالوا : يا نبي الله ما كنا في شيء من أمرك ولا أمر أصحابك ، إنما كنا في شيء مما [ ص: 67 ] يخوض فيه الركب ، كنا في غير جد . قل : ( أبالله ) تقرير على استهزائهم ، وضمنه الوعيد ، ولم يعبأ باعتذارهم لأنهم كانوا كاذبين فيه ، فجعلوا كأنهم معترفون باستهزائهم وبأنه موجود منهم ، حتى وبخوا بأخطائهم موضع الاستهزاء ، حيث جعل المستهزأ به على حرف التقرير . وذلك إنما يستقيم بعد وقوع الاستهزاء وثبوته ، قاله ، وهو حسن . وتقديم ( بالله ) وهو معمول خبر كان عليها ، يدل على جواز تقديمه عليها . الزمخشري وعن : رأيت قائل هذه المقالة - يعني : إنما كنا نخوض ونلعب - ابن عمر وديعة بن ثابت متعلقا بحقب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم يماشيها والحجارة تنكته وهو يقول : ( إنما كنا نخوض ونلعب ) ، والنبي يقول : ( أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون ) وذكر أن هذا المتعلق عبد الله بن أبي بن سلول ، وذلك خطأ لأنه لم يشهد تبوك .
( إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم ) : نهوا عن الاعتذار ؛ لأنها اعتذارات كاذبة فهي لا تنفع . ( قد كفرتم ) أظهرتم الكفر بعد إيمانكم ، أي : بعد إظهار إيمانكم ، لأنهم كانوا يسرون الكفر فأظهروه باستهزائهم ، وجاء التقسيم بالعفو عن طائفة ، والتعذيب لطائفة . وكان المنافقون صنفين : صنف أمر بجهادهم : ( جاهد الكفار والمنافقين ) وهم رؤساؤهم المعلنون بالأراجيف ، فعذبوا بإخراجهم من المسجد ، وانكشاف معظم أحوالهم ، وصنف ضعفة مظهرون الإيمان وإن أبطنوا الكفر ، لم يؤذوا الرسول فعفا عنهم ، وهذا العذاب والعفو في الدنيا . وقيل : المعفو عنها من علم الله أنهم سيخلصون من النفاق ويخلصون الإيمان ، والمعذبون من مات منهم على نفاقه . وقيل : المعفو عنه رجل واحد اسمه مخشي بن حمير بضم الحاء وفتح الميم وسكون الياء ، كان مع الذين قالوا : ( إنما كنا نخوض ونلعب ) وقيل : كان منافقا ثم تاب توبة صحيحة . وقيل : إنه كان مسلما مخلصا ، إلا أنه سمع كلام المنافقين فضحك لهم ولم ينكر عليهم ، فعفا الله عنه ، واستشهد باليمامة وقد كان تاب ، ويسمى عبد الرحمن ، فدعا الله أن يستشهد ويجهل أمره ، فكان ذلك باليمامة ولم يوجد جسده .
وقرأ ، زيد بن ثابت وأبو عبد الرحمن ، ، وزيد بن علي وعاصم من السبعة : ( إن نعف ) بالنون ، ( نعذب ) بالنون ( طائفة ) . ولقيني شيخنا الأديب الحامل أبو الحكم مالك بن المرحل المالقي بغرناطة فسألني : قراءة من تقرأ اليوم على الشيخ أبي جعفر بن الطباع ؟ فقلت : قراءة عاصم ، فأنشدني :
لعاصم قراءة لغيرها مخالفة
إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة
وقرأ باقي السبعة : ( إن تعف تعذب طائفة ) ، مبنيا للمفعول . وقرأ الجحدري : ( إن يعف يعذب ) مبنيا للفاعل فيهما ، أي : إن يعف الله . وقرأ مجاهد : ( إن تعف ) بالتاء مبنيا للمفعول ، ( تعذب ) مبنيا للمفعول بالتاء أيضا . قال ابن عطية : على تقدير : إن تعف هذه الذنوب . وقال : الوجه التذكير لأن المسند إليه الظرف كما تقول : سير بالدابة ، ولا تقول : سيرت بالدابة ، ولكنه ذهب إلى المعنى ، كأنه قيل : إن ترحم طائفة ، فأنث لذلك ، وهو غريب . والجيد قراءة العامة ( إن يعف عن طائفة ) بالتذكير ، و " تعذب طائفة " بالتأنيث . انتهى . ( مجرمين ) : مصرين على النفاق غير تائبين . الزمخشري