قيل : إن هذه الآية من أول ما نزل في شأن المنافقين في غزوة تبوك ، وكان قد اعتذر بعض المنافقين واستأذنوه في القعود قبل مسيره ، فأذن ، فخرجوا ، وقال أحدهم : ما هو إلا شحمة لأول آكل ، فلما خرج الرسول نزل فيهم القرآن ، فانصرف رجل من القوم فقال للمنافقين في مجلس منهم : نزل فيكم قرآن فقالوا له : وما ذلك ؟ قال : لا أحفظ ، إلا أني سمعت وصفكم فيه بالرجس ، فقال لهم مخشي : لوددت أن أجلد مائة ولا أكون معكم ، فخرج حتى لحق بالرسول صلى الله عليه وسلم ، فقال له : " ما جاء بك " ؟ فقال له : وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم تسفعه الريح ، وأنا في الكن . فروي أنه ممن تاب . قال ابن عطية : ( فأعرضوا عنهم ) أمر بانتهارهم وعقوبتهم بالإعراض والوصم بالنفاق ، وهذا مع إجمال لا مع تعيين مصرح من الله ولا من رسوله ، بل كان لكل واحد منهم ميدان المقالة مبسوطا . وقوله : ( رجس ) أي : نتن وقذر . وناهيك بهذا الوصف محطة دنيوية ، ثم عطف لمحطة الآخرة . ومن حديث : أنهم جاءوا يعتذرون ويحلفون لما قدم كعب بن مالك المدينة ، وكانوا بضعة وثمانين ، فقبل منهم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ، ووكل سرائرهم إلى الله .
( يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين ) : قال مقاتل : نزلت في عبد الله بن أبي حلف بالله الذي لا إله إلا هو لا يتخلف عنه بعدها ، [ ص: 90 ] وحلف ابن أبي سرح لنكونن معه على عدوه ، وطلب من الرسول أن يرضى عنه ، فنزلت ، وهنا حذف المحلوف به ، وفي قوله : ( سيحلفون بالله ) أثبت كقوله : ( إذ أقسموا ليصرمنها ) وقوله : ( وأقسموا بالله ) فلا فرق بين حذفه وإثباته في انعقاد ذلك يمينا . وغرضهم في الحلف رضا الرسول والمؤمنين لنفعهم في دنياهم ، لا أن مقصدهم وجه الله تعالى . والمراد : هي أيمان كاذبة ، وأعذار مختلقة لا حقيقة لها . وفي الآية قبلها لما ذكر حلفهم لأجل الإعراض ، جاء الأمر بالإعراض نصا ، لأن الإعراض من الأمور التي تظهر للناس ، وهنا ذكر الحلف لأجل الرضا فأبرز النهي عن الرضا في صورة شرطية ؛ لأن الرضا من الأمور القلبية التي تخفى ، وخرج مخرج المتردد فيه ، وجعل جوابه انتفاء رضا الله عنهم ، فصار رضا المؤمنين عنهم أبعد شيء في الوقوع ؛ لأنه معلوم منهم أنهم لا يرضون عمن لا يرضى الله عنهم . ونص على الوصف الموجب لانتفاء الرضا وهو الفسق ، وجاء اللفظ عاما ، فيحتمل أن يراد به الخصوص كأنه قيل : فإن الله لا يرضى عنهم ، ويحتمل بقاؤه على العموم فيندرجون فيه ويكونون أولى بالدخول ؛ إذ العام إذا نزل على سبب مخصوص لا يمكن إخراج ذلك السبب من العموم بتخصيص ولا غيره .
( الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم ) : نزلت في أعراب من أسد ، وتميم ، وغطفان . ومن أعراب حاضري المدينة ، أي : أشد كفرا من أهل الحضر . وإذا كان الكفر متعلقا بالقلب فقط ، فالتقدير : أشد أسباب كفر ، وإذا دخلت فيه أعمال الجوارح تحققت فيه الشدة . وكانوا أشد كفرا ونفاقا لتوحشهم واستيلاء الهواء الحار عليهم ، فيزيد في تيههم ونخوتهم وفخرهم وطيشهم وتربيتهم بلا سائس ولا مؤدب ولا ضابط ، فنشئوا كما شاءوا لبعدهم عن مشاهدة العلماء ومعرفة كتاب الله وسنة رسول الله ، ولبعدهم عن مهبط الوحي . كانوا أطلق لسانا بالكفر والنفاق من منافقي المدينة ، إذ كان هؤلاء يستولي عليهم الخوف من المؤمنين ، فكان كفرهم سرا ولا يتظاهرون به إلا تعريضا . ( وأجدر ) ، أي : أحق ، ( ألا يعلموا ) ، أي : بأن لا يعلموا . والحدود هنا : الفرائض . وقيل : الوعيد على مخالفة الرسول ، والتأخر عن الجهاد . وقيل : مقادير التكاليف والأحكام . وقال قتادة : أقل علما بالسنن . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الجفاء والقسوة في الفدادين " . ( والله عليم ) يعلم كل أحد من أهل الوبر والمدر ، ( حكيم ) فيما يصيب به مسيئهم ومحسنهم من ثواب وعقاب .
( ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء والله سميع عليم ) : نزلت في أعراب أسد ، وغطفان ، وتميم ، كانوا يتخذون ما يؤخذ منهم من الصدقات . وقيل : من الزكاة ، ولذلك قال بعضهم : ما هي إلا جزية أو قريبة من الجزية . وقيل : كل نفقة لا تهواها أنفسهم وهي مطلوبة شرعا ، وهو ما ينفقه الرجل وليس يلزمه ؛ لأنه لا ينفق إلا تقية من المسلمين ورياء ، لا لوجه الله تعالى وابتغاء المثوبة عنده فعل هذا . المغرم : إلزام ما لا يلزم . وقيل : المغرم : الغرم والخسر ، وهو قول ابن قتيبة ، وقريب من الذي قبله . وقال ابن فارس : المغرم ما لزم أصحابه ، والغرام اللازم ، ومنه الغريم للزومه وإلحاحه . والتربص : الانتظار . والدوائر : هي المصائب التي لا مخلص منها ، تحيط به كما تحيط الدائرة . وقيل : تربص الدوائر هنا موت الرسول صلى الله عليه وسلم وظهور الشرك . وقال الشاعر :
تربص بها ريب المنون لعلها تطلق يوما أو يموت حليلها
وتربص الدوائر ليخلصوا من إعياء النفقة ، وقوله : ( عليهم دائرة السوء ) دعاء معترض ، دعاء عليهم بنسبة ما أخبر به عنهم كقوله : ( وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ) والدعاء من الله هو بمعنى إنجاب الشيء ; [ ص: 91 ] لأنه تعالى لا يدعو على مخلوقاته وهي في قبضته . وقال الكرماني : عليهم تدور المصائب والحروب التي يتوقعونها على المسلمين ، وهنا وعد للمسلمين وإخبار . وقيل : دعاء ، أي : قولوا عليهم دائرة السوء ، أي : المكروه ، وحقيقة الدائرة ما تدور به الأيام . وقيل : يدور به الفلك في سيره ، والدوائر انقلاب النعمة إلى ضدها . وفي الحجة : يجوز أن تكون الدائرة مصدرا كالعاقبة ، ويجوز أن تكون صفة . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : ( السوء ) هنا . وفي سورة الفتح ثانية بالضم ، وباقي السبعة بالفتح ، فالفتح مصدر . قال الفراء : سؤته سوءا ومساءة وسوائية ، والضم الاسم وهو الشر والعذاب ، والفتح ذم الدائرة ، وهو من باب إضافة الموصوف إلى صفته ، وصفت الدائرة بالمصدر كما قالوا : رجل سوء في نقيض رجل صدق ، يعنون في هذا الصلاح ، لا صدق اللسان ، وفي ذلك الفساد . ومنه ( ما كان أبوك امرأ سوء ) أي : امرأ فاسدا . وقال : السوء بالفتح الرداءة ، ولا يجوز ضم السين في رجل سوء ، قاله أكثرهم . وقد حكي بالضم ، وقال الشاعر : المبرد
وكنت كذيب السوء لما رأى دما بصاحبه يوما أحال على الدم
) والله سميع ) لأقوالهم ، ( عليم ) بنياتهم .
( ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم ) : نزلت في بني مقرن من مزينة ، قاله مجاهد . وقال عبد الرحمن بن مغفل بن مقرن : كنا عشرة ولد مقرن ، فنزلت : ( ومن الأعراب من يؤمن ) الآية ، يريد : الستة والسبعة الإخوة على الخلاف في عددهم وبنيهم . وقال الضحاك : في عبد الله ذي النجادين ورهطه . وقال الكلبي : في أسلم وغفار وجهينة . ولما ذكر تعالى : ( من يتخذ ما ينفق مغرما ) ; ذكر مقابله وهو من يتخذ ما ينفق مغنما ، وذكر هنا الأصل الذي يترتب عليه إنفاق المال في القربات ، وهو الإيمان بالله واليوم الآخر ، إذ جزاء ما ينفق إنما يظهر ثوابه الدائم في الآخرة . وفي قصة أولئك اكتفى بذكر نتيجة الكفر وعدم الإيمان ، وهو اتخاذه ما ينفق مغرما وتربصه بالمؤمنين الدوائر . والأجود تعميم القربات من جهاد وصدقة ، والمعنى : يتخذه سبب وصل عند الله وأدعية الرسول ، وكان يدعو للمصدقين بالخير والبركة ، ويستغفر لهم كقوله : " اللهم صل على آل أبي أوفى " ، وقال تعالى : ( وصل عليهم ) ، والظاهر عطف ( وصلوات ) على ( قربات ) . قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون ( وصلوات الرسول ) عطفا على ( ما ينفق ) ، أي : ويتخذ بالأعمال الصالحة صلوات الرسول قربة . قال : صلوات الرسول هي استغفاره لهم . وقال ابن عباس قتادة : أدعيته بالخير والبركة ، سماها صلوات جريا على الحقيقة اللغوية ، أو لأن الدعاء فيها ، وحين جاء بصدقته قال : " آجرك الله فيما أعطيت ، وجعله لك طهورا " والضمير في ( أنها ) قيل : عائد على الصلوات . وقيل : عائد على النفقات . وتحرير هذا القول أنه عائد على ما على معناها ، والمعنى : قربة لهم عند الله ، وهذه شهادة من الله للمتصدق بصحة ما اعتقد من كون نفقته قربات وصلوات ، وتصديق رجائه على طريق الاستئناف مع حرف التنبيه ، وهو " ألا " ، وحرف التوكيد وهو " إن " . قال ابن أبي أوفى : وما في السين من تحقيق الوعد ، وما أدل هذا الكلام على رضا الله تعالى عن المتصدقين ، وأن الصدقة منه تعالى بمكان إذا خلصت النية من صاحبها . انتهى . وتقدم الكلام معه في دعواه أن السين تفيد تحقيق الوعد . وقرأ ورش : ( قربة ) بضم الراء ، وباقي السبعة بالسكون ، وهما لغتان . ولم يختلفوا في ( قربات ) أنه بالضم ، فإن كان جمع قربة فجاء الضم على الأصل في الوضع ، وإن كان جمع قربة بالسكون فجاء الضم اتباعا لما قبله ، كما قالوا : ظلمات في جمع ظلمة . الزمخشري