( من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم ) قال الجمهور : ومداره على ، ابن المسيب ، والزهري ، وعمرو بن دينار أبي طالب حين احتضر فوعظه وقال : " أي عم قل لا إله إلا لله كلمة أحاج لك بها عند الله " وكان بالحضرة أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية فقالا له : يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فقال أبو طالب : يا محمد لولا أني أخاف أن يعير بها ولدي من بعدي لأقررت بها عينك ، ثم قال : أنا على ملة عبد المطلب، ومات ، فنزلت : ( إنك لا تهدي من أحببت ) [ ص: 105 ] فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لأستغفرن لك ما لم أنه عنك " فكان يستغفر له حتى نزلت هذه الآية ، فترك الاستغفار لأبي طالب . وروي أن المؤمنين لما رأوه يستغفر نزلت في شأن لأبي طالب جعلوا يستغفرون لموتاهم ، فلذلك ذكروا في قوله : ( ما كان للنبي والذين آمنوا ) .
وقال فضيل بن عطية وغيره : لما فتح مكة أتى قبر أمه ووقف عليه حتى سخنت عليه الشمس ، وجعل يرغب في أن يؤذن له في الاستغفار فلم يؤذن له ، فأخبر أنه أذن له في زيارة قبرها ومنع أن يستغفر لها ، ونزلت الآية ، وقالت فرقة : نزلت بسبب قوله : والله لأزيدن على السبعين وقال ابن عباس وقتادة وغيرهما : بسبب جماعة من المؤمنين قالوا : نستغفر لموتانا كما استغفر إبراهيم لأبيه . وتضمن قوله ( ما كان للنبي ) الآية النهي عن الاستغفار لهم على أي حال كانوا ، ولو في حال كونهم أولي قربى . فقوله : ( ولو كانوا ) جملة معطوفة على حال مقدرة ، وتقدم لنا الكلام على مثل هذا التركيب ، أن " ولو " تأتي لاستقصاء ما لولاها لم يكن ليدخل فيما قبلها ما بعدها . ودلت الآية على المبالغة في إظهار البراءة عن المشركين والمنافقين والمنع من مواصلتهم ولو كانوا في غاية القرب ، ونبه على الوصف الشريف من النبوة والإيمان ، وأنه مناف للاستغفار لمن مات على ضده وهو الشرك بالله . ومعنى ( من بعد ما تبين ) ، أي : وضح لهم أنهم أصحاب الجحيم لموافاتهم على الشرك ، والتبين هو بإخبار الله تعالى ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ) والظاهر أن الاستغفار هنا هو طلب المغفرة ، وبه تظافرت أسباب النزول . وقال عطاء بن أبي رباح : الآية في النهي عن الصلاة على المشركين ، والاستغفار هنا يراد به الصلاة . قالوا : والاستغفار للمشرك الحي جائز إذ يرجى إسلامه ، ومن هذا قول : رحم الله رجلا استغفر أبي هريرة ولأمه ، قيل له : ولأبيه ؟ قال : لا لأن أبي مات كافرا ، فإن ورد نص من الله على أحد أنه من أهل النار وهو حي لأبي هريرة كأبي لهب امتنع الاستغفار له ، فتبين كينونة المشرك أنه من أصحاب الجحيم - تمويه على الشرك ، وبنص الله عليه وهو حي أنه من أهل النار . ويدخل على جواز الاستغفار للكفار إذا كانوا أحياء ، لأنه يرجى إسلامهم ما حكى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نبي قبله شجه قومه ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يخبر عنه بأنه قال : . " اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون "
ولما كان استغفار إبراهيم لأبيه بصدد أن يقتدى به ، ولذلك قال جماعة من المؤمنين : نستغفر لموتانا كما استغفر إبراهيم لأبيه - بين العلة في استغفار إبراهيم لأبيه ، وذكر أنه حين اتضحت له عداوته لله تبرأ منه إبراهيم . والموعدة التي وعدها إبراهيم أباه هي قوله : ( سأستغفر لك ربي ) وقوله : ( لأستغفرن لك ) . والضمير الفاعل في ( وعدها ) عائد على إبراهيم ، وكان أبوه بقيد الحياة ، فكان يرجو إيمانه ، فلما تبين له من جهة الوحي من الله أنه عدو لله وأنه يموت كافرا وانقطع رجاؤه منه ، تبرأ منه وقطع استغفاره . ويدل على أن الفاعل في ( وعد ) ضمير يعود على إبراهيم - قراءة الحسن ، وحماد الراوية ، وابن السميقع ، وأبي نهيك ، ومعاذ القارئ : ( وعدها أباه ) . وقيل : الفاعل ضمير والد إبراهيم ، و " إياه " ضمير إبراهيم ، وعده أبوه أنه سيؤمن ، فكان إبراهيم قد قوي طمعه في إيمانه ، فحمله ذلك على الاستغفار له حتى نهي عنه .
وقرأ طلحة : " وما استغفر إبراهيم " ، وعنه : " وما يستغفر إبراهيم " على حكاية الحال . والذي يظهر أن استغفار إبراهيم لأبيه كان في حالة الدنيا . ألا ترى إلى قوله : ( واغفر لأبي إنه كان من الضالين ) وقوله : ( رب اغفر لي ولوالدي ) ويضعف ما قاله ابن جبير : من أن هذا كله يوم القيامة ، وذلك أن إبراهيم يلقى أباه فيعرفه ويتذكر قوله : " سأستغفر لك ربي " ، فيقول له : الزم حقوي فلن أدعك اليوم لشيء ، فيدعه حتى يأتي الصراط ، فيلتفت إليه فإذا هو قد مسخ ضبعانا ، فيتبرأ منه حينئذ . انتهى ما قاله ابن جبير ، ولا يظهر ربطه بالآخرة .
قال [ ص: 106 ] : فإن قلت : خفي على الزمخشري إبراهيم عليه السلام أن الاستغفار للكافر غير جائز حتى وعده . قلت : يجوز أن يظن أنه ما دام يرجى له الإيمان جاز الاستغفار له على أن امتناع جواز الاستغفار للكافر إنما علم بالوحي ؛ لأن العقل يجوز أن يغفر الله للكافر . ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم : " لأستغفرن لك ما لم أنه عنك " ، وعن الحسن قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إن فلانا يستغفر لآبائه المشركين فقال : " ونحن نستغفر لهم " وعن علي رضي الله عنه : رأيت رجلا يستغفر لأبويه وهما مشركان فقلت له ، فقال : أليس قد استغفر إبراهيم ؟ انتهى . وقوله : لأن العقل يجوز أن يغفر الله للكافر ، رجوع إلى قول أهل السنة .
والأواه : الدعاء ، أو المؤمن ، أو الفقيه ، أو الرحيم ، أو المؤمن التواب ، أو المسبح ، أو الكثير الذكر له ، أو التلاء لكتاب الله ، أو القائل من خوف الله : أواه ، المكثر ذلك ، أو الجامع المتضرع ، أو المؤمن بالحبشية ، أو المعلم للخير ، أو الموفي ، أو المستغفر عند ذكر الخطايا ، أو الشفيق ، أو الراجع عن كل ما يكرهه الله ، أقوال للسلف ، وقد ذكرنا مدلوله في اللغة في المفردات . وقال : أواه فقال : من أوه كلآل من اللؤلؤ ، وهو الذي يكثر التأوه ، ومعناه أنه لفرط ترحمه ورقته وحلمه كان يتعطف على أبيه الكافر ويستغفر له مع شكاسته عليه ، وقوله : ( لأرجمنك ) . انتهى . وتشبيه أواه من أوه بلآل من اللؤلؤ ليس بجيد ؛ لأن مادة أوه موجودة في صورة أواه ، ومادة لؤلؤ مفقودة في لآل لاختلاف التركيب ، إذ لآل ثلاثي ، ولؤلؤ رباعي ، وشرط الاشتقاق التوافق في الحروف الأصلية . وفسروا الحليم هنا بالصافح عن الذنب ، الصابر على الأذى ، وبالصبور ، وبالعاقل ، وبالسيد ، وبالرقيق القلب الشديد العطف . الزمخشري