ومناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما أنزل ( وإذا ما أنزلت سورة ) وذكر تكذيب المنافقين ثم قال : ( لقد جاءكم رسول ) وهو محمد صلى الله عليه وسلم - أتبع ذلك بذكر الكتاب الذي أنزل ، والنبي الذي أرسل ، وأن ديدن الضالين ومتابعيهم ومشركيهم واحد في التكذيب بالكتب الإلهية وبمن جاء بها ، ولما كان ذكر القرآن مقدما على ذكر الرسول في آخر السورة ; جاء في أول هذه السورة كذلك ، فتقدم ذكر الكتاب على ذكر الرسول ، وتقدم ما قاله المفسرون في أوائل هذه السورة المفتتحة بحروف المعجم ، وذكروا هنا أقوالا عن المفسرين منها : أنا الله أرى ، ومنها : أنا الله الرحمن ، ومنها : أنه يتركب منها ومن " حم " ومن نون الرحمن . فالراء بعض حروف الرحمن مفرقة ، ومنها : أنا الرب ، وغير ذلك . والظاهر أن تلك باقية على موضوعها من استعمالها لبعد المشار إليه . فقال مجاهد وقتادة : أشار بـ " تلك " إلى الكتب المتقدمة من التوراة والإنجيل والزبور ، فيكون الآيات القصص التي وصفت في تلك الكتب . وقال : إشارة إلى آيات القرآن التي جرى ذكرها . وقيل : إشارة إلى الكتاب المحكم الذي هو مخزون مكتوب عند الله ، ومنه نسخ كل كتاب كما قال : ( الزجاج بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ ) وقال : ( وإنه في أم الكتاب ) وقيل : إشارة إلى الراء وأخواتها من حروف المعجم ، أي : تلك الحروف المفتتح بها السور وإن قربت [ ص: 122 ] ألفاظها فمعانيها بعيدة المنال . وهي آيات الكتاب ، أي : الكتاب بها يتلى ، وألفاظه إليها ترجع ، ذكره . وقيل : استعمل " تلك " بمعنى " هذه " ، والمشار إليه حاضر قريب ، قاله ابن الأنباري ، واختاره ابن عباس أبو عبيدة . فقيل : آيات القرآن . وقيل : آيات السور التي تقدم ذكرها في قوله : ( وإذا ما أنزلت سورة ) وقيل : المشار إليه هو الراء ، فإنها كنوز القرآن ، وبها العلوم التي استأثر الله بها . وقيل : إشارة إلى ما تضمنته السورة من الآيات . والكتاب السورة .
والحكيم : الحاكم ، أو ذو الحكمة لاشتماله عليها . وتعلقه بها ، أو المحكم ، أو المحكوم به ، أو المحكم ، أقوال . والهمزة في ( أكان ) للاستفهام على سبيل الإنكار لوقوع العجب من الإيحاء إلى بشر منهم بالإنذار والتبشير ، أي : لا عجب في ذلك ، فهي عادة الله في الأمم السالفة ، أوحى إلى رسلهم الكتب بالتبشير والإنذار على أيدي من اصطفاه منهم . واسم ( كان ) ( أن أوحينا ) ، و ( عجبا ) الخبر ، و ( للناس ) فقيل : هو في موضع الحال من ( عجبا ) لأنه لو تأخر لكان صفة ، فلما تقدم كان حالا ، وقيل : يتعلق بقوله ( عجبا ) ، وليس مصدرا ، بل هو بمعنى معجب ، والمصدر إذا كان بمعنى المفعول جاز تقدم معموله عليه كاسم المفعول . وقيل : هو تبيين ، أي : أعني للناس . وقيل : يتعلق بـ ( كان ) وإن كانت ناقصة ، وهذا لا يتم إلا إذا قدرت دالة على الحدث فإنها إن تمحضت للدلالة على الزمان لم يصح تعلق بها . وقرأ عبد الله : ( عجب ) ، فقيل : ( عجب ) اسم كان ، و ( أن أوحينا ) هو الخبر ، فيكون نظير :
يكون مزاجها عسل وماء
وهذا محمول على الشذوذ ، وهذا تخريج الزمخشري وابن عطية . وقيل : ( كان ) تامة ، و ( عجب ) فاعل بها ، والمعنى : أحدث للناس عجب لأن أوحينا ، وهذا التوجيه حسن . ومعنى ( للناس عجبا ) : أنهم جعلوه لهم أعجوبة يتعجبون منها ، ونصبوه علما لهم يوجهون نحوه استهزاءهم وإنكارهم . وقرأ رؤبة : ( إلى رجل ) بسكون الجيم ، وهي لغة تميمية يسكنون فعلا ، نحو : سبع وعضد في سبع وعضد . ولما كان الإنذار عاما كان متعلقه وهو ( الناس ) عاما . والبشارة خاصة ، فكان متعلقها خاصا وهو ( الذين آمنوا ) . و ( أن أنذر ) " أن " تفسيرية أو مصدرية مخففة من الثقيلة ، وأصله أنه أنذر الناس على معنى أن الشأن قولنا أنذر الناس ، قالهما : ويجوز أن تكون " أن " المصدرية الثنائية الوضع ، لا المخففة من الثقيلة لأنها توصل بالماضي والمضارع والأمر ، فوصلت هنا بالأمر ، وينسبك منها معه مصدر ، تقديره : بإنذار الناس . وهذا الوجه أولى من التفسيرية ؛ لأن الكوفيين لا يثبتون لـ " أن " أن تكون تفسيرية ، ومن المصدرية المخففة من الثقيلة لتقدير حذف اسمها وإضمار خبرها ، وهو القول ، فيجتمع فيها حذف الاسم والخبر ؛ ولأن التأصيل خير من دعوى الحذف بالتخفيف . ( الزمخشري وبشر الذين آمنوا أن لهم ) ، أي : بأن لهم ، وحذفت الباء . و ( قدم صدق ) قال ، ابن عباس ومجاهد ، والضحاك ، ، والربيع بن أنس وابن زيد : هي الأعمال الصالحة من العبادات . وقال الحسن وقتادة : هي شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم . وقال وغيره : هي المصيبة زيد بن أسلم بمحمد صلى الله عليه وسلم . وقال وغيره : هي السعادة السابقة لهم في اللوح المحفوظ . وقال ابن عباس مقاتل : سابقة خير عند الله قدموها . وإلى هذا المعنى أشار وضاح اليمن في قوله :ما لك وضاح دائم الغزل ألست تخشى تقارب الأجل
صل لذي العرش واتخذ قدما ينجيك يوم العثار والزلل
وقال قتادة أيضا : سلف صدق . وقال عطاء : مقام صدق . وقال يمان : إيمان صدق . وقال الحسن أيضا : ولد صالح قدموه . وقيل : تقديم الله في البعث لهذه الأمة وفي إدخالهم الجنة ، كما قال : ( نحن الآخرون السابقون يوم القيامة ) وقيل : تقدم شرف ، ومنه قول العجاج :
ذل بني العوام من آل الحكم وتركوا الملك لملك ذي قدم
وقال : درجة عالية ، وعنه : منزلة رفيعة . ومنه قول الزجاج : ذي الرمة
[ ص: 123 ]
لكم قدم لا ينكر الناس أنها مع الحسب العادي طمت على البحر
وقال : ( الزمخشري قدم صدق عند ربهم ) سابقة وفضلا ومنزلة رفيعة ، ولما كان السعي والسبق بالقدم سميت المسعاة الجميلة والسابقة قدما ، كما سميت النعمة يدا ، لأنها تعطى باليد وباعا ؛ لأن صاحبها يبوع بها ، فقيل لفلان قدم في الخير ، وإضافته إلى صدق دلالة على زيادة فضل وأنه من السوابق العظيمة . وقال ابن عطية : والصدق في هذه الآية بمعنى الصلاح ، كما تقول : رجل صدق . وعن : ( قدم ) بكسر القاف تسمية بالمصدر . ( الأوزاعي قال الكافرون ) ذهب إلى أن في الكلام حذفا يدل الظاهر عليه ، تقديره : فلما أنذر وبشر قال الكافرون كذا وكذا . قال الطبري ابن عطية : ( قال الكافرون ) يحتمل أن يكون تفسيرا لقوله ، أكان للناس في وحينا إلى بشر عجب قال الكافرون عنه كذا وكذا .
وقرأ الجمهور والعربيان ونافع : " لسحر " إشارة إلى الوحي . وباقي السبعة ، ، وابن مسعود وأبو رزين ، ومسروق ، ، وابن جبير ومجاهد ، وابن وثاب ، وطلحة ، ، والأعمش وابن محيصن ، وابن كثير ، وعيسى بن عمرو ، بخلاف عنهما : ( لساحر ) إشارة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، وفي مصحف أبي : ( ما هذا إلا سحر ) . وقرأ أيضا : ( ما هذا إلا ساحر ) . قال الأعمش ابن عطية : وقولهم في الإنذار والبشارة سحر إنما هو بسبب أنه فرق كلمتهم ، وحال بين القريب وقريبه ، فأشبه ذلك ما يفعله الساحر ، وظنوه من ذلك الباب . وقال : وهذا دليل عجزهم واعترافهم به وإن كانوا كاذبين في تسميته سحرا . ولما كان قولهم فيما لا يمكن أن يكون سحرا ظاهر الفساد ، لم يحتج قولهم إلى جواب ؛ لأنهم يعلمون نشأته معهم الزمخشري بمكة ، وخلطتهم له ، وما كانت قلة علم ، ثم ما أتى به من الوحي المتضمن ما لم يتضمنه كتاب إلهي من قصص الأولين والإخبار بالغيوب والاشتمال على مصالح الدنيا والآخرة ، مع الفصاحة والبراعة التي أعجزتهم إلى غير ذلك من المعاني التي تضمنها يقضي بفساد مقالتهم ، وقولهم ذلك هو ديدن الكفرة مع أنبيائهم إذ أتوهم بالمعجزات كما قال فرعون وقومه في موسى عليه السلام : ( إن هذا لساحر عليم ) ( قالوا سحران تظاهرا ) وقوم عيسى عليه السلام : ( إن هذا إلا سحر مبين ) ودعوى السحر إنما هي على سبيل العناد والجحد .
( إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش ) تقدم تفسير مثل هذه الجملة في سورة الأعراف ، وجاءتا عقب ذكر القرآن والتنبيه على المعاد . ففي الأعراف : ( ولقد جئناهم بكتاب فصلناه ) ، وقوله : ( يوم يأتي تأويله ) ، وهنا : ( تلك آيات الكتاب ) ، وذكر الإنذار والتبشير ، وثمرتهما لا تظهر إلا في المعاد . ومناسبة هذه لما قبلها أن من كان قادرا على إيجاد هذا الخلق العلوي والسفلي العظيمين وهو ربكم الناظر في مصالحكم ، فلا يتعجب أن يبعث إلى خلقه من يحذر من مخالفته ويبشر على طاعته ، إذ ليس خلقهم عبثا ، بل على ما اقتضته حكمته وسبقت به إرادته ، إذ القادر العظيم قادر على ما دونه بطريق الأولى .