والكبرياء مصدر . قال ابن عباس ومجاهد والضحاك وأكثر المتأولين : المراد به هنا : الملك ، إذ الملوك موصوفون بالكبر ، ولذلك قيل للملك الجبار ، ووصف بالصد والشرس . وقال ابن الرقيات في : مصعب بن الزبير
ملكه ملك رأفة ليس فيه جبروت منه ولا كبرياء
يعني ما عليه الملوك من ذلك . وقال : ابن الرقاع
سؤدد غير فاحش لا يداني ـه تجبارة ولا كبرياء
وقال : الكبرياء العظمة . وقال الأعمش ابن زيد : العلو . وقال الضحاك أيضا : الطاعة ، والأرض هنا : أرض مصر .
وقرأ ابن مسعود وإسماعيل والحسن فيما زعم خارجة وأبو عمرو وعاصم بخلاف عنهما ، وتكون بالتاء لمجاز تأنيث الكبرياء ، والجمهور بالياء لمراعاة اللفظ ، والمعنى أنهم قالوا : مقصودك في مجيئك إلينا بما جئت ، هو أن ننتقل من دين آبائنا إلى ما تأمر به ونطيعك ، ويكون لكما العلو والملك علينا بطاعتنا لك ، فنصير أتباعا لك تاركين دين آبائنا ، وهذا مقصود لا نراه ، فلا نصدقك فيما جئت به إذ غرضك إنما هو موافقتك على ما أنت عليه ، واستعلاؤك علينا .
فالسبب الأول هو : التقليد ، والثاني : الجد في الرئاسة حتى لا تكونوا تبعا . واقتضى هذان السببان اللذان توهموهما مقصودا التصريح بانتفاء الإيمان الذي هو سبب لحصول السببين .
ويجوز أن يقصدوا الذم بأنهما إن ملكا أرض مصر تكبرا وتجبرا كما قال القبطي : ( إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض ) . ولما ادعوا أن ما جاء به موسى هو سحر ، أخذوا في معارضته بأنواع من السحر ، ليظهر لسائر الناس أن ما أتى به موسى من باب السحر .
والمخاطب بقوله : ائتوني ، خدمة فرعون والمتصرفون بين يديه . وقرأ ابن مصرف وابن وثاب وعيسى وحمزة : بكل سحار على المبالغة . وفي قوله : ( والكسائي ألقوا ما أنتم ملقون ) استطالة عليهم وعدم مبالاة بهم .
وفي إبهام ما أنتم ملقون تخسيس له وتقليل ، وإعلام أنه لا شيء يلتفت إليه . قال أبو عبد الله الرازي : كيف أمرهم ، فالكفر والسحر والأمر بالكفر كفر ، قلنا : إنه عليه الصلاة والسلام أمرهم بإلقاء الحبال والعصي ، ليظهر للخلق أن ما ألقوا عمل فاسد وسعى باطل ، لا على طريق أنه عليه السلام أمرهم بالسحر ، انتهى .
وقرأ أبو عمرو ومجاهد وأصحابه وابن القعقاع بهمزة الاستفهام في قوله : [ ص: 183 ] آلسحر ممدودة ، وباقي السبعة والجمهور بهمزة الوصل ، فعلى الاستفهام قالوا : يجوز أن تكون ما استفهامية مبتدأ ، والسحر بدل منها ، وأن تكون منصوبة بمضمر تفسيره : جئتم به ، والسحر خبر مبتدأ محذوف .
ويجوز عندي في هذا الوجه أن تكون ما موصولة مبتدأة ، وجملة الاستفهام خبر ، إذ التقدير : أهو السحر أو آلسحر هو ؟ فهو الرابط كما تقول : الذي جاءك أزيد هو ؟ وعلى همزة الوصل جاز أن تكون ما موصولة مبتدأة ، والخبر السحر ، ويدل عليه قراءة عبد الله : سحر . وقراءة والأعمش أبي : ما أتيتم به سحر .
ويجوز عندي أن تكون في هذا الوجه استفهامية في موضع رفع بالابتداء ، أو في موضع نصب على الاشتغال ، وهو استفهام على سبيل التحقير والتعليل لما جاءوا به ، والسحر خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو السحر .
قال ابن عطية : والتعريف هنا في السحر أرتب ، لأنه قد تقدم منكرا في قولهم : إن هذا لسحر ، فجاء هنا بلام العهد كما يقال أول الرسالة : سلام عليك ، وفي آخرها والسلام عليك ، انتهى .
وهذا أخذه من الفراء . قال الفراء : وإنما قال السحر بالألف واللام ، لأن النكرة إذا أعيدت أعيدت بالألف واللام ، ولو قال له : من رجل ؟ لم يقع في وهمه أنه يسأله عن الرجل الذي ذكر له ، انتهى .
وما ذكراه هنا في السحر ليس هو من باب تقدم النكرة ، ثم أخبر عنها بعد ذلك ، لأن شرط هذا أن يكون المعرف بالألف واللام هو النكرة المتقدم ، ولا يكون غيره كما قال تعالى : ( كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول ) وتقول : زارني رجل فأكرمت الرجل ، ولما كان إياه جاز أن يأتى بالضمير بدله فتقول : فأكرمته .
والسحر هنا ليس هو السحر الذي هو في قولهم : إن هذا لسحر ، لأن الذي أخبروا عنه بأنه سحر هو ما ظهر على يدي موسى عليه السلام من معجزة العصا ، والسحر الذي في قول موسى إنما هو سحرهم الذي جاءوا به ، فقد اختلف المدلولان وقالوا هم عن معجزة موسى وقال موسى عما جاءوا به ، ولذلك لا يجوز أن يأتى هنا بالضمير بدل السحر ، فيكون عائدا على قولهم السحر .
والظاهر أن الجمل بعده من كلام موسى عليه السلام . وسيبطله : يمحقه ، بحيث يذهب أو يظهر بطلانه بإظهار المعجزة على الشعوذة . وقيل : هذه الجمل من كلام الله تعالى . ومعنى بكلماته : بقضاياه السابقة في وعده . وقال ابن سلام : بكلماته بقوله : ( لا تخف إنك أنت الأعلى ) وقيل بكلماته : بحججه وبراهينه وقرئ : بكلمته على التوحيد ، أي بأمره ومشيئته .