( من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة ) : لما حكى شبههم في إنكار نبوة نوح عليه السلام وهي قولهم : ( ما نراك إلا بشرا مثلنا ) ذكر أن المساواة في البشرية لا تمنع من حصول المفارقة في صفة النبوة والرسالة ، ثم ذكر الطريق الدال على إمكانه على جهة التعليق والإمكان ، وهو متيقن أنه على بينة من معرفة الله وتوحيده ، وما يجب له وما يمتنع ، ولكنه أبرزه على سبيل العرض لهم والاستدراج للإقرار بالحق ، وقيام الحجة على [ ص: 216 ] الخصم ، ولو قال : على أني على حق من ربي لقالوا له : كذبت ، كقوله : ( أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله ) الآية فقال فيها : ( وإن يك كاذبا فعليه كذبه ) . والبينة : البرهان ، والشاهد بصحة دعواه ، : الرحمة والنبوة ، ابن عباس مقاتل : الهداية ، غيرهما : التوفيق والنبوة والحكمة . والظاهر أن البينة غير الرحمة ، فيجوز أن يراد بالبينة : المعجزة ، وبالرحمة : النبوة . ويجوز أن تكون البينة : هي الرحمة ، ومن عنده تأكيد وفائدته : رفع الاشتراك ولو بالاستعارة ، ( فعميت عليكم ) الظاهر أن الضمير عائد على البينة ، وبذلك يحصل الذم لهم من أنه أتى بالمعجزة الجلية الواضحة ، وأنها على وضوحها واستنارتها خفيت عليهم ، وذلك بأنه تعالى سلبهم علمها ومنعهم معرفتها . فإن كانت الرحمة هي البينة فعود الضمير مفردا ظاهر ، وإن كانت غيرها كما اخترناه .
فقوله : ( وآتاني رحمة من عنده ) ، اعتراض بين المتعاطفين . قال : حقه أن يقال : فعميتا . ( قلت ) : الوجه أن يقدر فعميت بعد البينة ، وأن يكون حذفه للاقتصار على ذكره ، فتلخص أن الضمير يعود : إما على البينة ، وإما على الرحمة ، وإما عليهما باعتبار أنهما واحد . ويقول للسحاب : العماء لأنه يخفي ما فيه ، كما يقال له : الغمام لأنه يغمه . الزمخشري
وقيل : هذا من المقلوب ، فعميتم أنتم عنها كما تقول العرب : أدخلت القلنسوة في رأسي ، ومنه قول الشاعر : ترى الثور فيها مدخل الظل رأسه قال أبو علي : وهذا مما يقلب ، هذا ليس فيه إشكال ، وفي القرآن : ( فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله ) انتهى .
والقلب عند أصحابنا مطلقا لا يجوز إلا في الضرورة ، وأما قول الشاعر فليس من باب القلب بل من باب الاتساع في الظرف .
وأما الآية فأخلف يتعدى إلى مفعولين ، ولكان يضيف إلى أيهما شئت فليس من باب القلب ، ولو كان : ( فعميت عليكم ) من باب القلب لكان التعدي بعن دون على .
ألا ترى أنك تقول : عميت عن كذا ، ولا تقول عميت على كذا ؟ وقرأ الأخوان وحفص : فعميت بضم العين وتشديد الميم مبنيا للمفعول ، أي : أبهمت عليكم وأخفيت ، وباقي السبعة : فعميت بفتح العين وتخفيف الميم مبنيا للفاعل . وقرأ أبي وعلي والسلمي والحسن : فعماها عليكم . وروى والأعمش عن الأعمش أبي وثاب : وعميت بالواو خفيفة . قال : ( فإن قلت ) : فما حقيقته ؟ ( قلت ) : حقيقته أن الحجة كما جعلت بصيرة ومبصرة جعلت عمياء ، لأن الأعمى لا يهتدي ، ولا يهدي غيره ، فمعنى فعميت عليكم : البينة فلم تهدكم ، كما لو عمي على القوم دليلهم في المفازة بقوا بغير هاد . ( فإن قلت ) : فما معنى قراءة الزمخشري أبي ؟ ( قلت ) : المعنى أنهم صمموا على الإعراض عنها فخلاهم الله وتصميمهم ، فجعلت تلك التخلية تعمية منه ، والدليل عليه : ( أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ) يعني : أنكرهكم على قبولها ونقسركم على الاهتداء بها وأنتم تكرهونها ولا تختارونها ؟ ، ولا إكراه في الدين ، انتهى . وتوجيهه قراءة أبي هو على طريقة المعتزلة ، وتقدم في سورة الأنعام الكلام على ( أرأيتم ) مشبعا ، وذكرنا أن العرب تعديها إلى مفعولين : أحدهما : منصوب ، والثاني : أغلب ما يكون جملة استفهامية . تقول : أرأيتك زيدا ما صنع ، وليس استفهاما حقيقيا عن الجملة .
وإن العرب ضمنت هذه الجملة معنى : أخبرني ، وقررنا هناك أن قوله : ( أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله ) أنه من باب الإعمال تنازع على عذاب الله . أرأيتكم يطلبه منصوبا ، وفعل الشرط يطلبه مرفوعا ، فأعمل الثاني ، وهذا البحث يتقرر هنا أيضا ، فمفعول أرأيتكم محذوف والتقدير : أرأيتكم البينة من ربي إن كنت عليها أنلزمكموها فهذه الجملة الاستفهامية في موضع المفعول الثاني لقوله : أرأيتم ، وجواب الشرط محذوف يدل عليه أرأيتم ، وجيء بالضميرين متصلين في أنلزمكموها ، لتقدم ضمير الخطاب على ضمير الغيبة ، ولو انعكس لانفصل ضمير الخطاب خلافا لمن أجاز الاتصال . قال : ويجوز أن يكون الثاني منفصلا [ ص: 217 ] كقولك : أنلزمكم إياها ونحوه ، ( الزمخشري فسيكفيكهم الله ) ، ويجوز : فسيكفيك إياهم ، وهذا الذي قاله من جواز انفصال الضمير في نحو ( الزمخشري أنلزمكموها ) ، هو نحو قول ابن مالك في التسهيل . قال : وتختار اتصال نحو ها أعطيتكه .
وقال ابن أبي الربيع : إذا قدمت ما له الرتبة اتصل لا غير ، تقول : أعطيتكه . قال تعالى : ( أنلزمكموها ) وفي كتاب ما يشهد له ، قال سيبويه : فإذا كان المفعولان اللذان تعدى إليهما فعل الفاعل مخاطبا وغائبا ، فبدأت بالمخاطب قبل الغائب ، فإن علامة الغائب العلامة التي لا يقع موقعها إياه وذلك قولك : أعطيتكه وقد أعطاكه . سيبويه
قال الله تعالى : ( أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ) ، فهذا كهذا ، إذا بدأت بالمخاطب قبل الغائب ، انتهى . فهذا نص من على ما قاله سيبويه ابن أبي الربيع ، خلافا للزمخشري وابن مالك ومن سبقهما إلى القول بذلك . وقال : وحكى عن الزمخشري أبي عمرو : إسكان الميم ، ووجهه : أن الحركة لم تكن إلا خلسة خفيفة ، فظنها الراوي سكونا .
والإسكان الصريح لحن عند الخليل وحذاق البصريين ، لأن الحركة الإعرابية لا يسوغ طرحها إلا في ضرورة الشعر ، انتهى . وأخذه وسيبويه من الزمخشري ، قال الزجاج : أجمع النحويون البصريون على أنه لا يجوز إسكان حركة الإعراب إلا في ضرورة الشعر ، فأما ما روي عن الزجاج أبي عمرو فلم يضبطه عنه القراء ، وروى عنه أنه كان يخف الحركة ويختلسها ، وهذا هو الحق . وإنما يجوز الإسكان في الشعر نحو قول سيبويه امرئ القيس :
فاليوم أشرب غير مستحقب على عادته في تجهيل القراء ، وهم أجل من أن يلتبس عليهم الاختلاس بالسكون ، وقد حكى والزمخشري الكسائي : ( والفراء أنلزمكموها ) بإسكان الميم الأولى تخفيفا . قال النحاس : ويجوز على قول يونس : أنلزمكمها ، كما تقول : أنلزمكم ذلك ويريد إلزام جبر بالقتل ونحوه ، وأما إلزام الإيجاب فهو حاصل ، وقال النحاس : أنوحيها عليكم ، وقوله في ذلك خطأ .
قال ابن عطية : وفي قراءة : ( أبي بن كعب أنلزمكموها ) من شطر أنفسنا ، ومعناه : من تلقاء أنفسنا . وروي عن أنه قرأ ذلك من شطر قلوبنا ، انتهى . ومعنى شطر : نحو ، وهذا على جهة التفسير لا على أنه قرآن لمخالفته سواد المصحف . ابن عباس